أصول المكاسب كلها راجعة إما إلى الزراعة التي فيها أقوات الناس، أو إلى التجارة التي بها نمو الأموال، أو إلى الصناعة التي فيها التطوير المستمر، على تفضيل بعضها على بعض عند العلماء وفق الأدلة النقلية والنظرية المؤيدة، وفي أجواء هذه المكاسب الثلاثة تقوم التنمية البشرية والأنشطة التجارية والمهن المعيشية، وكل فرد بحسبه حتى يتحقق الهدف العام في المجتمع، والقاعدة العامة في المكاسب والبيوع والعقود أنها مباحة، فالأصل في جميع البيوع الحل والجواز، لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولدلالة السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية، وعليه أكثر أئمة المسلمين.
إلا أنه قد يطرأ على هذا الأصل المقرر بعض أشياء وتخرج الكسب من دائرة الحل إلى دائرة الحظر، ولذا يقول العلماء: “الأصل في البيع هو الإباحة والصحة، حتى يقوم الدليل على الحظر أو الفساد[1]. أي ما سكت عنه الشرع أوسع مما نهى عنه.
هذا، وإن أهل العلم اسقرأوا أسباب المكاسب المحرمة فحصروها في ثلاثة أشياء على النحو الآتي[2]:
الأول: الكسب المشتمل على المحرم
من المكاسب ما قامت الأدلة الشرعية على حرمته، إما لذاته أو لطريق كسبه أو لما يحول إليه، كما ترى ملخصه فيما يلي:
1-الكسب المحرم لذاته
هناك عديد من المحرمات الصريحة أصالة وانتهاءا، حرمها الشرع بيعا وشراءا بجميع أشكالها، مثل تجارة الخمر، والميتة، والخنزير، ونحوها، على ضوء قول الشارع الحكيم: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ..} [المائدة:3]. وهي أشياء لا قيمة لها ولا النفع فيها شرعا، وحتى لا يظن ظان أن المقصود في التحريم تحريم الأكل فحسب ولذا قال عليه الصلاة والسلام: ” إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه [3].
قال ابن بطال: ” أجمعت الأمة على أنه لا يجوز بيع الميتة، والأصنام؛ لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضع الثمن فيهما إضاعة للمال، وقد نهى النبي عن إضاعة المال” [4]
ولا يحل للمسلم أن يتكسب أو يتجر بالمحرمات أو التحايل لاكتساب بها أو التعاون عليها بأي شكل من الأشكال، مثل العمل في صناعة الخمر بمختلف مراحله، ولا عذر له في ذلك ألبتة لما تقدم من النهي
2- الكسب المحرم لكسبه
حرم الإسلام كل عقد مبني على عوض عن كسب محرم، كبيع سلعة مسروقة أو مغصوبة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :”الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض إن عرفه المسلم: اجتنبه… فإن هذا عين مال ذلك المظلوم “[5].
وكذا لا يباح التكسب أو شراء ما لا يملك للنهي الصريح فيه، ولأنه من إعانة على الاثم والعدوان.
ومن ذلك أيضا: مهر البغي وحلوان الكاهن والغناء والنوح ونحوها.
قال القاضي عياض:” أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن لأنه عوض عن محرم ولأنه أكل المال بالباطل، وكذلك أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء والنائحة للنوح[6]
ولا يجوز العمل في وظيفة تنتهك فيها المحرمات والمنهيات، كتصوير الراقصات والممثلات وبيع الأفلام الإباحية والمجلات تحتوى المنكرات ونحوها.
3- الكسب المحرم لما يفدي إليه
كل بيع كان ذريعا إلى المحرم فهو محرم، وهذا يأتى على ضربين:
الضرب الأول: ما كان مفديا إلى المحرم في حق الله، كعقد البيع والشراء في المسجد، أو بعد الأذان الثاني للجمعة أو عند ضيق الوقت لأداء الصلاة المكتوبة أو صلاة الجماعة عند بعض أهل العلم، أو من يعمل عملا يصده عن أداء الفرائض، أو كل عقد صحيح يتخذ مطية إلى المحرم، كبيع السلاح أو السكين لمن يريد قتل شخص آخر، أو إجارة البيت لمن يستخدمه للخمور أو للرقص أو للحفلات المحرمة ونحو ذلك.
الضرب الثاني: ما كان مفديا إلى الإضرار بالغير
قد جاء النهي الشرعي عن بعض العقود نظرا لما يترتب عليها من الإضرار والأذى بالغير، فردا كان أو جماعة، كبيع الرجل على بيع أخيه، أو سومه على سوم غيره، وبيع حاضر للبادي وتلقي الركبان، والاحتكار، وغيرها من البيوع المنهي عنها لكونها وسيلة إلى التضييق والإضرار بالعامة والخاصة، ولما فيها من إيغار الصدور والوقيعة بالأعداء، وأنها مظنة الظلم والخيانة.
الثاني: الكسب المشتمل على بيع الغرر
يعد بيع الغرر من أكبر مساحة لأصول الكسب المحرم، وهو بيع قائم على الغموض وعديم العلم بحقيقة نتيجة العقد، وقد جاء معظم شروط البيع لضمان غياب الغرر كما تراها في مظنها.
قال ابن حزم: “الغرر ما لا يدري المشتري ما اشترى، أو البائع ما باع[7]
قال النووي:” وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع… ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة؛ كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهما، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل لأنه غرر من غير حاجة.”[8]
وأبرز صور الغرر المعاصرة السائدة عقد التأمين التجاري، وهو عقد ظاهر جهالة العاقبة، حيث لا يدرى كل من مؤمن ومستأمن أو مؤمن له ما يحول إليه العقد من الكسب والخسارة، وقد يدفع المستأمن لشركة التأمين لسنوات ولا يحصل شيء فيخسر، أما الشركة فهي كسبانة، ولذا أفتت المجامع الفقهية بتحريم التأمين التجارى في جميع أنواع صوره لعلة الغرر الواضح وغيره.
أما إذا كان الغرر في العقد يسيرا فإنه يغتفر، شريطة ألا يكون مقصودا بذاته، وكان مما يصعب التحرز منه، مع قيام الحاجة إليه.
قال ابن رشد:” والعلماء متفقون على تجويز الغرر القليل”. [9]
يقول أبو العباس ابن تيمية- موضحا عن سبب النهي عن الغرر-:” مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء، وأكل الأموال بالباطل، كما أنه نوع من المخاطرة والقمار والميسر الذي حرَّمه الله في القرآن”.[10]
والتغرير داخل في باب الغرر، ويقصد به: ” إيقاع الشخص في الغرر، أي: الخطر، كأن يوصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية لترغيبه في العقد”.[11]
ويشمل التغرير كل عقد باطنه التدليس والتلبيس والخداعة، كبيع النجش، وبيع المصراة، وتسويق بضاعة رديئة على صفة غير واقعية، كتغيير عدّاد السيارة ليظن أنها لم تستخدم إلا قليلا، أو عرض السلع المقلدة على أنها أصلية، أو وضع علامة التاريخ الجديد على الأطعمة أو الأشياء المنتهية صلاحيتها، أو المبالغة في أساليب الدعايات والإعلانات والتمويه بالبضاعة على غير حقيقتها لدفع المشتري إلى الشراء والتعاقد.
ومن جعل موارد كسبه ورزقه عن طريق الغرر والتغرير فإنه على خطر جسيم بسبب أكله أموال الناس بالباطل والظلم.
الثالث: الكسب المشتمل على الربا
تظاهرت أدلة متضافرة من الكتاب والسنة على تحريم الاكتساب بشيء ينطوي على الربا أو يؤول إلى الربا، وأي كسب نشأ بالربا فهو حرام، وهذا أصل عظيم في تفريق بين الكسب الحلال والكسب الحرام.
والربا موبقة من الموبقات، ومحرم في جميع الأديان نظرا لخطره على الفرد والمجتمع، وقد نادى الله تعالى على أهله بالحرب، ولعن رسول الله ﷺ آكله، وموكله وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء.
“لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا كان أو نسيئةً، خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يُفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحِرَفِ والصناعات والعمارات”[12]
والربا المحرم في القرآن والسنة نوعان، وهما:
النوع لأول: ربا الجاهلية الذى هو المعني بقول الكافرين: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].، وهو ربا الديون الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة، أي الزيادة والتأجيل، وهو المراد به أصالة في التحريم والحذر، لأن تحريمه تحريم مقاصدي خلافا للنوع الثاني، مثاله: كأن يقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما تربى، ويؤخره في الدين ليزيد في ماله، ويدخل ربا الجاهلية في جميع الأموال.
النوع الثاني: ربا البيوع، وهو الزيادة التى ترد في مقدار أحد البدلين المتماثلين، ثمنا كان أو مثمنا، ويقع هذا النوع من الربا في عقود المعاوضات وفي الأموال المخصوصة التى بها علة الربا كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام:” الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد. ” [13]
وتحريم هذا النوع حاصل من باب سد الذريعة إلى ربا الجاهلية، ومع ذلك فالإجماع معقود على تحريم كل منهما، وأنهما شر يجب اجتنابه.
قال ابن القيم: الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم؛ لأنه ذريعة إلى الجلي؛ فتحريم الأول قصدا، وتحريم الثاني وسيلة.[14]
وعليه فإنه لا يبيح لمسلم أن يكون مدخل كسبه من باب الربا لا من قريب ولا من بعيد، وكل وظيفة أو طريقة فيها إعانة على الربا فممنوع شرعا، حتى تأجير المحلات للبنوك الربوية قل أو كثر.
يقول الشيخ ابن عثيمين:” لا يجوز العمل بالمؤسسات الربوية ولو كان الإنسان سائقا أو حارسا، وذلك لأن دخوله في وظيفة عند مؤسسات ربوية يستلزم الرضى بها، لأن من ينكر الشيء لا يمكن أن يعمل لمصلحته، فإذا عمل لمصلحته فإنه يكون راضيا به، والراضي بالشيء المحرم يناله من إثمه. أما من كان يباشر القيد والكتابة والإرسال والإيداع وما أشبه ذلك فهو لا شك أنه مباشر للحرام ” [15] وفي مسالك الكسب الحلال غنية عن الكسب الحرام، إذ ليس هناك معاملة محرمة إلا وفي مقابلها بدائل كثيرة، وعلى المسلم أن يتحرى طيب الكسب كي يعيش حياة سعيدة كريمة، وأن يجعل كسبه مجال القربى والزلفى إلى الله تعالى، لأن من نوى بعمله وكسبه الاستعانة على طاعة الله تعالى فهو في عبادة الله مستمرة بحسن نيته.
[1] الموسوعة الفقهية الكويتية 9/143
[2] يزيد بعضهم ويعبر بعضهم بعبارة مختلفة وكلها في معنى واحد
[3] رواه أبو داود (3488)
[4] شرح البخاري لابن بطال
[5] مجموع الفتاوى29 / 323
[6] شرح النووي على صحيح مسلم 10/ 231
[7] المحلى: 396/ 8
[8] المنهج في شرح مسلم 156/ 10
[9] بداية المجتهد 2 /255
[10] جموع الفتاوى 29/ 48
[11] الموسوعة الفقهية الكويتية 11/127
[12] الموسوعة الفقهية الكويتية 22/55
[13] رواه مسلم (1587)
[14] أعلام الموقعين 2 / 155.
[15] فتاوى إسلامية2/401 .