أصبحت هذه الكلمة تُحيل مباشرة على التطرف الديني كلما ذُكرت في فضائنا العربي الاسلامي وحتى خارجه بسبب الأحداث الجارية هنا و هناك في العقود الأخيرة ، وهي تسوّق معاني الحِدّة في الفهم والعنف في السلوك ، وأنا أعلم أن القوى العالمية ومعها الأقلية العلمانية في البلاد العربية تتّخذه ذريعة لاستهداف الاسلام ذاته لكن لا بدّ من تناول الموضوع رغم المحاذير لتبصير الرأي العام.
تطرّف ديني
هو الغلوّ الذي نهى عنه الرسول ﷺ : ” إياكم والغلوّ في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين ” رواه النسائي وغيره ، وأتباعه هم ” المتنطعون ” الذين أنذرهم الرسول ﷺ في حديث مسلم بقوله ” هلك المتنطّعون .
ينشأ هذا التطرف من المنهج المتبع في تلقين الرؤية الدينية على طريقة مدرسة الرأي الواحد التي لا مكان فيها لتفكير حرّ ولا رؤى متعدّدة ولا احترام للرأي الآخر ، وهذا منشأ التعصب الأعمى الذي يصبغ حياة الأفراد والجماعات بالجمود والعدوانية ليلقي بها بعد حين في متاهات التكفير فالعنف.
إذا اجتمع في الانسان التعصب والتشدد والخشونة وسوء الظن بالناس والتكفير صار وحشا ضاريا لا علاقة له بالربانية في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه ، يصبح آلة تدمير شامل يصيب ضررُه المسلمين قبل غيرهم
وإلى جانب التعصب يترعرع المتطرّفون في أحضان التشدّد بحيث لا مكان عندهم للتيسير والتبشير بل يميلون في تفكيرهم وسلوكهم وعلاقاتهم إلى المواقف الحدّية ، الدين عندهم كلّه عزائم ، فلا مجال للرخص ولو قام الدليل الشرعي على تعيّنها ، إنه التشدّد في النوافل والمستحبّات والمسائل المختلف فيها وكأنها جميعا فرائض قطعية ، مَن خالفهم في ذلك سقط اعتباره مسلما ولم يبق لعِرضه حرمة.
وهذا الجوّ المشحون الذي نشؤوا فيه يُفضي بهم حتما إلى التزام الخشونة والغلظة في التعامل والأسلوب خلافا للهدي النبوي المعروف بالرفق والسماحة ، كما أنه جوّ يصبغ حياتهم بسوء الظنّ بالناس ، كأن ليس لهؤلاء – ولو كانوا مسلمين متمسّكين بدينهم أو علماء راسخين أو دعاة مخلصين – أيّ حسنات ولا إيجابيات ، بل هم متّهَمون فيما يكتبون أو يقولون ، فقط لأنهم لا يتبنّون وجهة نظر المتطرفين ، وإنما يتأتّى سوء الظن من آفة نفسية خطيرة هي تزكية النفس والغرور وازدراء الآخرين بسب حديث نبوي حفظه شابّ حَدَثٌ من غير فهم أو آية قرآنية تأوّلها وهو ليس مؤهّلا لذلك ، أو توارث علما دينيا جزئيا اقتنع أنه هو وحده الحق وما دونه من اجتهادات وآراء فهو باطل ومنكر، ومن شأن ما سبق أن يؤدي حتما إلى التكفير فيُسقطُ المتطرفون عصمة الآخرين ويستبيحون دماءهم وأموالهم فلا تبقى لهم ذمة ولا حرمة ولو كانوا مسلمين راسخي العلم والإيمان فضلا عن غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى من مواطنين ووافدين مقيمين بين المسلمين ، وهذا قمّة التطرف، تجعل بعض الشباب يفارقون صفّ الأمة ويعلنون عليها الحرب ويتقرّبون إلى الله بتقتيلها وتخريب أرضها.
أجل ، إذا اجتمع في الانسان التعصب والتشدد والخشونة وسوء الظن بالناس والتكفير صار وحشا ضاريا لا علاقة له بالربانية في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه ، يصبح آلة تدمير شامل يصيب ضررُه المسلمين قبل غيرهم.
وأصْلُ هذه المصيبة التي ابتُلي بها المسلمون التديّنُ المغشوش الذي يتوارى خلف الحماسة للدين والغيرة على الحق بأدوات معرفية لا علاقة لها بالإسلام الذي يقوم على الوسطية والاعتدال والأخلاق الرفيعة مع الموالي والمخالف ، إنه تديّن يقوم على إغلاق العقل وقسوة القلب ، لا مكان فيه لتعدّد الآراء ولا لسلامة الصدر، وعندما يفقد الدين سعة الأفق وسعة الصدر ينقلب إلى مصدر للمآسي ، والمؤمن حقا يهتم بعيوب نفسه أكثر من عيوب غيره ، ويتواضع فلا يدّعي أنه يحتكر الحقيقة ، بل رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب ، لكنّ المنهج التربوي والفقهي الذي يُخرّج الغُلاة لا يعترف بكلّ هذا وقد نصّب شيوخَه – دون غيرهم – شارحين للإسلام وحماة له فلم يعُد المسلمون في حاجة إلى الفقه الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الإباضي أو الزيدي لأن أولئك حسموا الأمر وحصروا الحقّ في القراءة النصية الجامدة للإسلام ، بعيدا عن الأصول والمقاصد.
تطرّف علماني
سيبقى التطرّف الديني ما بقي التغريب الذي ينخر جسد الأمة ويريد لها أن تغيّر هويتها ويتبجّح بمخالفة قيمها وخرق ثوابتها والتبعية للفكر الغربي الذي يعتقد أنه يمثّل نهاية التاريخ ، وهذا ما يستفزّ الشباب المسلم خاصة وأن العلمانية العربية تتحالف مع الأنظمة المستبدّة المفتقدة للشرعية وتستعين بدبابات الجنرالات وتستنصر القوى المسيحية واليهودية لقمع التعبير الشعبي الحرّ المنحاز للإسلام بوضوح ، مع العلم أن العلمانية هنا لا تتبنّى موقفا محايدا من الدين بل موقفها عدواني سافر يريد إبعاد الدين من المجال الحياتي ومحاربته في تشريعاته وأخلاقه وقيمه.
المؤمن حقا يهتم بعيوب نفسه أكثر من عيوب غيره ، ويتواضع فلا يدّعي أنه يحتكر الحقيقة ، بل رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب
وقد تبنّت – بعض – الحكومات هذا الموقف المتطرف بشكل أو بآخر ولم تجلب سياساتها سوى مزيد من التخلف للبلاد والتضييق على الاسلام ، فأصيب كثير من الشباب ذوي التديّن العاطفي بالإحباط وأصبحوا فريسة سهلة للفكر الديني السطحي الذي يرشّحهم على المدى البعيد للانخراط في التطرف والغلوّ ، وهل ننتظر رد فعل آخر في جوّ مشحون بالهجوم السياسي والبوليسي والإعلامي والفكري على الاسلام ورموزه حتى إن الصحافة الفرنسية الصادرة في الجزائر تعاطفت مع “شارلي إبدو” وتبنّت قضيتها بكلّ حماس ، ورفضت حضور حفل أقيم لإنصاف الرسول ﷺ ولو بكلمة تكتبها أو رسم تنشره أو حلقة نقاش تحضرها.
هل من علاج ؟
أظنّ أن انطلاق المعالجة ينبغي أن يكون بتناول الضعف الفكري للشباب المسلم الذي يكرّس الفهم الخاطئ للدين بردّهم إلى منهج الوسطية والاعتدال وبعلاج التربية النفسية الخاطئة ، وذلك عبر إنتاج خطاب علمي وعاطفي قويّ ينبذ الحدية والغلوّ ويرفع من شأن الحياة في سبيل الله حتى لا يكون مراد الشاب الموت بأي ثمن ولو بتقتيل الأبرياء ، فإحياء فقه الحياة مقصد يحتاج إلى مبادرات عاجلة ، لكن مع شرط أساسي هو رفع العلمانية المتنفّذة ليدها عن الاسلام ووضع حدّ لشيطنتها للحركات الاسلامية وللفكر الديني واستفزازها لمشاعر المسلمين والابتعاد عن المنهج القمعي للشباب الذي تنتهجه .
لا بدّ من بديل للشباب ليُقبلوا على المحاضن الهادئة بدل المجامع ” العلمية ” المتشدّدة ، وليعيشوا للإسلام وللإنسانية بدل التقوقع على الذات المريضة بتصوّرات موغلة في الخطأ زكّاها شيوخ تنقصهم البراءة لأنهم في كثير من الأحيان أدوات لسياسات عالمية وإقليمية تستهدف الأمة في جميع مقوّماتها.
والمنهج المقترح لحلّ مشكلة التطرف لا علاقة له بما تسميه العلمانية العربية والمتحالفون معها ” تجديد الخطاب الاسلامي ” الذي ليس سوى إفراغ للإسلام من محتواه الرباني والاجتماعي من أجل ” علمنة ” الحياة كلها.