تُعد الفلسفة، كما هو متعارف عليه، ابنة الواقع، ومهمتها الكبرى ليست الانفصال عن اليومي والمعيشي، بل الارتقاء به إلى مستوى التفكير الكلي والتعقيل المجرد. فالفيلسوف الحقيقي هو الذي يعبر عن واقعه لا بالانصهار فيه كلياً، ولا بالانفصال التام عنه، بل بالسعي نحو كشف بنياته العميقة ومآلاته الممكنة. وقد تعارف المفكرون على أن الفلسفة تمثل وعياً شمولياً بالواقع، تسعى إلى تأطير أجزائه في نسق مفهومي كلي، يمكّن الإنسان من فهم ذاته ومحيطه والتفاعل مع تحولات عصره.

غير أن المشهد الفلسفي في العالم العربي، بكل أسف، يشهد ظاهرة تستحق التوقف والنقد، تتمثل في ما يمكن أن نسميه بـ”اغتراب المتفلسفة” وأعطابهم المعرفية والمنهجية. ذلك أن كثيرًا من المنتسبين إلى التفلسف في العالم العربي لا يعيشون هذا التوتر الخلّاق بين الفكر والواقع، بل يفرّون من واقعهم عبر الفلسفة، لا إليها، ويستوردون أدواتها دون أن يخضعوها لتفكير نقدي ينبع من تجربتهم الخاصة.

1. هجرة رمزية نحو الغرب: تفلسف بلا أرضية

ثمة ظاهرة يمكن تسميتها بـ”الهجرة الرمزية للمتفلسفة” في عالمنا العربي، وهي لا تقل خطورة عن الهجرة الجسدية التي ينخرط فيها شباب يائسون يبحثون عن الخلاص في الغرب. فالمتفلسف في عالمنا العربي، في أغلب الأحيان، يركب قوارب المفاهيم الغربية كما يركب المهاجر غير النظامي قوارب الموت؛ بحثًا عن اعتراف، أو خلاص ثقافي، أو اندماج في منظومة تبدو له أكثر عقلانية وتنظيماً من واقعه المحلي.

لكن هذا الركوب المفاهيمي ليس محمولًا على دراسة نقدية ولا استيعاب بنيوي، بل هو نوع من الهجرة الذهنية المعلّقة في فراغ مرجعي. فكما أن الشاب “الحراق” يحمل في مخيلته أوهام الرفاه الغربي، يحمل المتفلسف في عالمنا العربي تصورات مثالية عن الفكر الغربي، دون أن يتساءل عن سياقه، أو مدى قابليته للتوطين في بنية اجتماعية ودينية مغايرة تمامًا.

2. التفلسف على هامش المجتمع: قطيعة مزدوجة

إحدى أكبر المآزق التي يقع فيها كثير من المتفلسفة في عالمنا العربي هي قطيعتهم المزدوجة: فهم من جهة منفصلون عن واقعهم، ينظرون إليه بوصفه معيقًا للتفلسف، لا موضوعًا له؛ ومن جهة أخرى، يكررون إنتاج الفكر الغربي بشكل قسري ومشوّه. هذه الازدواجية تؤسس لخطاب فلسفي مغترب، لا يجد لنفسه موضعًا في المجتمع، ولا ينجح في إقناع المؤسسة الأكاديمية والثقافية الغربية بأصالته.

إنهم، في أغلبهم، يرون أن الواقع العربي غير مؤهل للفلسفة، وأن الاشتغال الفلسفي الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا ضمن شروط الفكر الغربي. لذا يُنتجون خطابًا معلقًا لا يرتبط بالجماعة ولا بالتاريخ، ولا يمارس أي نوع من الفعالية التنويرية أو الإصلاحية.

3. أعطاب التفلسف: أزمة متعددة الأبعاد

وهذا الاغتراب الذي أشرنا إليه سابقا، جعل الإنتاج الفلسفي في العالم العربي يعاني من أعطاب بنيوية عميقة، متشابكة في طبيعتها، ومتداخلة في آثارها، ما يجعله عاجزًا عن القيام بوظيفته الأساسية في مساءلة الواقع، أو المساهمة في بلورة وعي تاريخي أو وجودي أصيل.

وأول ما يلاحظ على هذا الإنتاج هو ضعفه المعرفي، إذ يتسم بضعف في القدرة على الإبداع النظري، ويكتفي في الغالب بإعادة إنتاج ما تمّ إنتاجه في مراكز الفلسفة الغربية، دون مساءلة أو مراجعة، وكأن دوره لا يتعدى تكرار المفاهيم وتدوير النظريات في سياق مغاير لا يشبه السياق الذي وُلدت فيه تلك التصورات.

وعلى المستوى المنهجي، يفتقر الخطاب الفلسفي العربي إلى مشروع منظم أو رؤية نسقية واضحة. فغالبًا ما يتم استيراد مناهج التفكير الغربية من دون مراعاة لشروط توطينها في الثقافة المحلية، فينشأ بذلك نوع من التوتر أو حتى التفكك بين أدوات التحليل ومضمون القضايا المطروحة، مما يؤدي إلى نتائج فكرية مشوشة أو غير قابلة للتطبيق في سياقها الواقعي.

أما على المستوى الثقافي، فإن هذا التفلسف يتجاهل إلى حد بعيد المرجعيات الدينية والحضارية التي تشكل بنية الوعي الجمعي العربي، متوهمًا أن بإمكانه الانفصال عن هذه المرجعيات، أو التعامل معها باعتبارها مجرد عوائق في وجه التفكير العقلاني. والحال أن هذه المرجعيات، مهما اختلفنا معها أو بشأنها، تظل محددًا أساسيًا في تشكيل الخطاب الفلسفي العربي، ووعي الفيلسوف ذاته بحدوده وسياقاته.

وفي السياق الاجتماعي، نجد أن الفلسفة في العالم العربي تتوجه في كثير من الأحيان إلى نخب معزولة ثقافيًا واجتماعيًا، بعيدة عن هموم الناس اليومية وقضاياهم الوجودية والمعيشية. إذ يتحول الفيلسوف في العالم العربي، في مثل هذه الحالة، إلى منظّرٍ في برج عاجي، يتحدث بلغة غريبة، عن إشكالات لا تمسّ الواقع إلا بقدر ما يستثمرها لتأكيد فردانيته أو خصوصيته الثقافية الزائفة.

ولعل من أبرز الأزمات التي تؤثر في طبيعة النتاج الفلسفي العربي، أزمة اللغة. فالتعبير الفلسفي بلغة عربية رصينة ودقيقة ما زال غائبًا أو ضعيف الحضور، بسبب ضعف مستوى المتفلسفة في اللغة العربية وغربتهم عن التراث الفلسفي العربي الإسلامي المؤسس، وانبهارهم بأساليب اللغة الأجنبية التي باتت تُستعمل لا كأداة تحليل دقيقة، بل كوسيلة لتزيين الخطاب وإضفاء طابع الحداثة الزائفة عليه. ونتيجة لذلك، يتحول الخطاب الفلسفي إلى صيغة هجينة، تفتقر إلى البلاغة الفكرية، وتفشل في أن تكون جسراً حقيقياً بين الفكرة وواقع المتلقي.

كل هذه الأعطاب، في تآزرها وتفاعلها، تُنتج تفلسفًا مغتربًا، لا ينبع من صميم الواقع، ولا يتمكن من التأثير فيه، بل يقف خارجه تمامًا، مشوشًا، منعزلاً، وعاجزًا عن حمل أسئلة المجتمع أو ملامسة آلامه وآماله. فهو تفلسف يتحرك في دائرة مغلقة، فاقدًا لروح المبادرة والتجدد، ويفتقر إلى الشجاعة الفكرية التي تسمح له بطرح الأسئلة الحقيقية في الزمان والمكان المناسبين، ملتحما مع مجتمعه وأمته، معبرا عن آلامها وآمالها، حاملا لأفق نهضتها وساعيا لإخراجها من محنتها التي تعيشها.

4. تفلسف خارج الزمن: العيش في عصر موهوم

من أعمق صور الاغتراب التي يعاني منها الفكر الفلسفي العربي المعاصر أن كثيرًا من المتفلسفة يعيشون خارج زمنهم، لا بمعنى التجاوز الخلّاق أو الاستشراف النقدي، بل من حيث الانفصال المزمن عن شروط السياق التاريخي والاجتماعي الذي ينتمون إليه. إنهم يستقون أدواتهم ومفاهيمهم من مراجع ومرجعيات وبيئات ثقافية وفكرية لا تمتّ بصلة لمجتمعاتهم، دون أن يمارسوا الحد الأدنى من المساءلة أو يأخذوا مسافة نقدية منها. بل إنهم يتعاملون مع تلك المفاهيم بوصفها منتهى الفلسفة وقمة التعقيل، ويخاطبون من خلالها قضايا فقدت راهنيتها، بينما يغضّون الطرف عن التحديات المتعددة التي يفرضها الواقع العربي نفسه.

هذا الانفصال عن الزمن يجعلهم، في الغالب، عاجزين عن بلورة أسئلة فلسفية ذات مغزى محلي، وعن التفاعل الحيوي مع السياقات الاجتماعية والثقافية التي يفترض أن تكون مادة أولى للتفلسف. فبدلاً من الانخراط في جدل حيوي مع الواقع، ينظرون إليه كعبء ثقيل أو كقيد على تفلسفهم، لا كمجال لتوليد الأسئلة والأنساق. هكذا يتولد شعور دفين بالعجز، وافتقار إلى المعنى، وغياب للراهنية، وهو ما يجعل الخطاب الفلسفي في كثير من الأحيان يبدو معلقًا في هواء التاريخ، خافت الصلة بالحاضر، وعديم الأثر.

غير أن هذا المسار، بكل ما فيه من اختلالات، ليس قدَراً محتوماً ولا مصيرًا نهائيًا. فالإمكانات متاحة دائماً لاستئناف تفلسف مختلف، أصيل ومنتج، ينطلق من مواجهة هذه الأعطاب لا الإنكار عليها أو التكيف معها. ولا يكون ذلك برفض التراث الفلسفي الغربي جملة، بل في تأسيس علاقة جدلية نقدية معه، ومع الموروث الفلسفي العربي الاسلامي. فالمطلوب ليس القطيعة، وإنما بناء استراتيجية مزدوجة تقوم على التأصيل والتوطين: تأصيل المفاهيم والمناهج بما يجعلها منسجمة مع المرجعية الثقافية والحضارية لمجتمعاتنا، وتوطين المنتج الفلسفي الوافد بحيث يُعاد إنتاجه ضمن شروط التفكير في سياق مجتمعاتنا العربية الاسلامية، لا على حسابها.

وتقتضي هذه الاستراتيجية إعادة بناء العقل الفلسفي العربي على أسس جديدة، أبرزها: أن ينطلق هذا العقل من واقع الإنسان العربي وهمومه الحقيقية، لا من تطلعات نخبوية أو تقليعات فكرية طارئة؛ وأن يمارس النقد على التراث دون تقديس أو رفض أعمى، فيعيد فتحه لا غلقه أو تحنيطه؛ وأن ينخرط في حوار متكافئ مع الفكر الإنساني، يقرأه من موقع الفاعل لا التابع؛ وأن يتوسل بلغة عربية فلسفية دقيقة، تحمل المفاهيم ولا تفرّغها، وتُعبّر عن الفكر بدل أن تزيّنه. عندها فقط يمكن الحديث عن استيقاظ فلسفي عربي حقيقي، وعن إمكانية استعادة الفلسفة كقوة فاعلة في وعي الإنسان وتاريخه ومجتمعه.

خاتمة: لا بد من يقظة فلسفية عربية

إن الفلسفة ليست تمارين عقلية معزولة، أو نصاصا فلسفية منقولة من سياقات خارجية معلبة، بل هي حوار دائم مع الذات والآخر، مع التاريخ والمجتمع. والتفلسف في السياق العربي لا يكون فعّالاً إلا إذا ارتبط بالسؤال الوجودي والنهضوي، وواجه واقعًا معقدًا بأدوات نقدية أصيلة لا مستعارة. وربما آن الأوان للعقل الفلسفي العربي أن يستيقظ من اغترابه، ويسترد وظيفته كقوة تفكير وتحرر لا كتقليد وإعادة إنتاج. ولنا في محاولات أبي يعرب المرزوقي وطه عبد الرحمن خير مثال لهذه اليقظة المطلوبة، ولهذا الجهد الفلسفي المستأنف أصالة وانفتاحاً.

تنزيل PDF