لم تزل الفلسفة تطرح في الأوساط والنخب العالمية المثقفة كإشكالية يراوح التعامل معها بين القول بالحاجة الدائمة إليها مهما تعاظمت التحولات التي يشهدها الإنسان والعالم، والقول بزوالها وانتهائها في ظل الاكتساح الهائل الذي أحدثته التطورات التقنية والعلمية والمعلوماتية.
فلو نظرنا في متطلبات عصرنا الحالي وأمام هذه الأوضاع والمعطيات الجديدة سنقف على حقيقة أن الفلسفة أضحت تبدو لنا غائبة وكأنـها تنتمي إلى مرحلة مضت. فهي ذات طبيعة نظرية تغرق في التجريد والعمومية، ومنطقها غير متلائم مع مشاكل العصر، وليست لـها أية نتائج ملموسة ومباشرة، وتكاد تكون منقطعة الصلة بمشاكل الحياة.
من المؤكد أن الفلسفة ليست من السهولة بحيث تكسب رضا الناس، فهي من حيث كونها ممارسة نظرية، تستعصي على العقول غير المهيأة لهذا اللون من التفكير، حتى أضحى النفور منها عادة تواكب كل نص فلسفي الطابع. والفلسفة لا تفهم إلا بالفلسفة ذاتها ولا تدرك فائدتها إلا لمن جد في تحصيلها وخبر طرائقها واكتسب مهارة في قراءتها وفهمها.
وفي بحثنا هذا نهدف إلى النظر في مضامين العقل الفلسفي وأهمية تلك المضامين في إرساء قواعد صحيحة لعملية الاجابة على اسئلة المعرفة والوجود، من خلال الكشف عن اصولها، وبيان موضوعاتها، كما حاولنا التوصل إلى تصور أو رؤية كلية تتيح لهذا النوع من المعرفة تجاوز النظرة التقليدية، وإمكان تطويرها وتنميتها فكريا وواقعيا، ولاشك أن مهمة العقل الفلسفي ليست مستقلة عن كونه أسلوب فكري ونمط ثقافي، ومع ذلك تظل له خصوصيته التي تتجلى في موضوعاته الوجودية ومشكلاته المعرفية، من حيث رؤية المجتمع له في منظومة الواقع، ومن حيث طبيعة الاسئلة الفلسفية ذاتها، وهذا موضوع بحثنا.
كما نهدف إلى فهم واستيعاب التحولات الكبرى على الصعيد العالمي وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في الثقافة الفلسفية والتوعية بطبيعة اسئلتها العامة والهامة، وكيفية تنوع الاجابات عنها.
لقد توصلنا إلى ان الفلسفة في حقيقتها هي التفكير في جميع شؤون الحياة من أجل إسعاد الإنسان وتحسين حياته العامة .
كما توصلنا إلى ان الفلسفة قد لا تكون معرفة ضرورية وهامة إذا لم تستطع تخطي جذورها الذاتية، بحيث تكون لها القدرة على استيعاب موضوعاتها الخاصة والإجابة على التساؤلات المصيرية. كما لا يمكن الاستمرار في ذلك إلا بفضل رؤية نقدية تضع الأشياء والحياة والواقع موضوع التأمل والتساؤل والاحتواء.
بعد هذا توصلنا إلى حقيقة أن العلم المعاصر بكل تطوراته لم يكن يستطيع تحقيق ما حققه، دون الاستعانة بالنواحي الثقافية الأخرى وخاصة الفلسفة سواء في نظرتها العميقة الشاملة أو في أنساقها المنطقية او موضوعاتها الوجودية.
وسيشتمل البحث على أربع مباحث:
المبحث الأول: العقل الفلسفي وطبيعة المعرفة.
المبحث الثاني: مهام الفلسفة ومضامينها..
المبحث الثالث: في لغة الفلسفة ودلالات سؤالها.
المبحث الرابع: الفلسفة ومنطق الواقع.
ومن الله التوفيق
المبحث الأول: العقل الفلسفي وطبيعة المعرفة.
يعتقد الكثير من البشر أن الفلسفة منهاج فكري محدد لا يمكن المساس بحرفيته أو أنه تمثال شديد الجمال دقيق الصنع لا يمكن الدخول إلى مكنوناته ومكوناته, إنها حب الحكمة والبحث عن الحقيقة عن طريق التفكير المنطقي والملاحظة الواقعية.
لكن هذه النظرة تغيرت، واختلفت على أثرها وظيفة الفكر الفلسفي من عصر لآخر ومن مجتمع لآخر، تماشيا مع متطلبات الحياة، وموضوعات الفلسفة هي من المسائل الأكثر أهمية في الحياة (النفس، العالم، الوجود). فما يهم الإنسان هو أولا ذاته وحياته وما يحيط به. فقد قيل: ( ليست أكبر تعاسة للإنسان أن يجوع أو أن يعطش، بل أن يجهل لماذا يولد ولماذا يموت).
ورغم أن مواضيع الفلسفة قديمة فإنها تظل تطرح في كل عصر بسبب كونها أصيلة وجوهرية، وهي تأخذ في كل زمن مظهرا جديدا يتناسب مع الظروف والمستجدات.
ولا نبتدع جديدا عندما نقول بأن لكل عصر حكمته، وحكمة مطالع القرن الأول في هذه الألفية الثالثة كما بدأ يظهر لنا الآن هي العودة مجددا إلى الإنسان وإلى الأخلاق وإلى السياسة ولكن اعتمادا على تعدد المناظير كقيمة جديدة.
ولذلك اتسع أفق النظر الفلسفي وبدا يحاول محاولات دؤوبة لفهم واستيعاب التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة صياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة في الثقافة والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة.
والتفكير في التنمية انطلاقا من الإنسان بوصفه مواطنا ذي ذاكرة وتاريخ وقيم، ليس من اختصاص العلوم الدقيقة أو التكنولوجيا، وإنما هو انشغال للفكر الفلسفي بالأساس. إن الانطلاق من اعتبار الإنسان من حيث هو كذلك، هو أساس فهم ماهية الفكر الفلسفي والحاجة إليه. فالعقل الذي كانت تصنعه الحكمة قد ولّى وأدبر، وأخذ مكانه فكر يضع الحكمة ويطورها، ينقدها، يطوعها، يفتتها، يعيد تركيبها، يخصبها، يميتها، يبعثها في ثوب جديد.
أن الفلسفة تمنحنا القدرة على المراجعة النقدية المستمرة لأعمالنا و لمعارفنا وقناعاتنا، وبهذا المعنى يكون للفلسفة أهمية قصوى باعتبار الأهداف التي ترقى إليها، وهي لا تحمل أغراضها وفوائدها في الموضوعات التي تتناولها وإنما في تحقيق الأهداف المرجوة منها باعتبار ممارستها كمراجعة نقدية منظمة ترتقي بالوعي إلى مستوى الوعي بالذات من حيث تفهم الإمكانيات وتجاوز الصعوبات وتنمية القدرات العقلية المختلفة . أهمية الفلسفة لا تلتمس في مادتها، وإنما في تنمية العادات الفكرية والملكات الذهنية المرتبطة بطرق تحليل المعلومة ونقدها والكشف عن مختلف علاقاتها و مستويات تكونها .
وهذا ما يفسر أن الفلسفة لا تتجاوز المواد التعليمية فقط بل هي تتجاوز ذاتها أيضا، فهي تشتعل و تزهو وتزدهر بتحطيم مادتها وذلك بغرض إذكاء جذوة التفكير وشحذ الطاقة الكامنة في كل القدرات الذهنية، بإمكانيات متعددة وشديدة الاختلاف لاتقان الانطلاق في أي اتجاه تحدده الإرادة .
لم تزل الفلسفة تُطرح في الأوساط والنخب العالمية المثقفة كإشكالية يراوح التعامل معها بين القول بالحاجة الدائمة إليها مهما تعاظمت التحولات التي يشهدها الإنسان والعالم، والقول بزوالها وانتهائها في ظل الاكتساح الهائل الذي أحدثته التطورات التقنية والعلمية والمعلوماتية.
نقول إذن إنه عند إمعان النظر في متطلبات عصرنا الحالي وأمام هذه الأوضاع والمعطيات الجديدة سنقف على حقيقة أن الفلسفة أضحت تبدو لنا غائبة وكأنـها تنتمي حقا إلى مرحلة قد ولت. فهي ذات طبيعة نظرية تغرق في التجريد والعمومية؛ ومنطقها غير متلائم مع مشاكل العالم اليوم؛ وليست لـها أية مردودية ملموسة ومباشرة، وتكاد تكون منقطعة الصلة بمشاكل الحياة اليومية.
من المؤكد أن الفلسفة ليست من السهولة بحيث تكسب ودّ ورضا أغلب الناس، فهي من حيث كونها ممارسة نظرية، تستعصي على العقول غير المهيأة لهذا اللون من التفكير، حتى أضحى النفورُ منها عادةً تواكب كلَّ طرحٍ فلسفي الطابع. والفلسفة لا تفهم إلا بالفلسفة ذاتها ولا تدرك فائدتها وجدواها إلا لمن جدّ في تحصيلها وخبر طرائقها واكتسب مهارةً في قراءتها وفهمها من خلال تدريب الذهن وإعداده للاستيعاب والصبر على الطلب.
لا أقول إن الفلسفة مسألة صعبة أو مستحيلة المنال بل هي مسألة اختصاص، والاختصاص يعني الاهتمام في مجال قولي معين، وهو هنا المجال الفلسفي الذي يمكن التعريف به من دون الغوص في المذهبيات، انه تراث الفلاسفة منذ أفلاطون حتى دريدا وهابرماس.
ينبغي علينا أن نشير إلى أن عموم الناس يصرون على مقتضيات النفع المباشر الملموس، وأنهم يطالبون اي نشاط فكري أو عملي بأن يقدم مبرراته وفائدته التي تظل، لدى أغلب الناس، ذات طابع نفعي حسي.
لا بد أن نعترف، لكي نحدد بصورة واقعية فائدة الفلسفة، بأن قيمتها تكمن في صلتها بحاجات العقل وتطلعاته، وأما الحاجات المادية فهي وظيفة العلوم الجزئية، وأن ثمة حاجات يفرضها علينا وجودنا واجتماعنا بل وقيمنا، إلى دراسة الوجود ككل، وإلى معالجة أمور ليست من صلب الاهتمام العلمي كالأخلاق والقيم والروح والحرية والوجود العام.
إن استمرارية التطور العقلي والروحي مقترن أشد الاقتران بآلية النقد. وهذه هي الخاصية الأهم وهي أن التفكير الفلسفي تفكير نقدي، ويحاول قدر الجهد أن يتجاوز معطياته ليعيد طرح التساؤلات ويرتد بها إلى نفسه.
إن الخاصية النقدية للتفكير الفلسفي توحي لنا بأن الكمال داخل أي منظومة إنسانية ليس سوى وهم.
وغياب النقد عن التفكير الإنساني، الاجتماعي والسياسي والثقافي والفكري، يضعف من أهليته ويقلل من فاعليته في إحداث صيغة توافقية مع مقتضيات العصر، بل وينتهي به إلى الوقوع في التكرار والدوران.
فالفلسفة كانت ولا تزال هي الطاقة العقلية الخلاقة التي تحفز على مزيد من الإبداع، من خلال ما تطرحه من مفاهيم متعددة ومفيدة .
لو رجعنا إلى تواريخ الأمم المتفوقة والمزدهرة لرأينا أنها وصلت إلى هذه الغاية عن طريق الفلسفة والعلم وما ينتج عنهما من رؤى وتصورات وسلوكات محددة.
صحيح أن نتائج العلم مباشرة، من خلال المنتج التكنولوجي، ولكن الفلسفة ذات نتائج أكثر قوة وفاعلية، ولكنها غير ملحوظة إلا للقلة من الناس. والنتائج الباهرة للعلوم المادية في العصر الحديث، لم تكن مجرد محصلة للكشوفات والمخترعات العلمية بقدر ما هي نتيجة لسيادة التفكير العقلاني الفلسفي في جميع أنماط التفكير وأشكال الوعي، ذلك التفكير الذي يحرر العقول من سلطة المفاهيم الجامدة والتي استنفدت أغراضها، ولم تعد نافعةً في استقراء الواقع وكشف ممكناته. وتحرير العقل يسبق استثمار خيرات الطبيعة واستغلال مواردها، وهذا لا يتم إلا بالفلسفة. ولا يتم الا بنوع من الحيرة والدهشة من بعض ظواهر الحياة وقضايا الإنسان والوجود، وبهذا يكون مستندا للروح النقدية التي تدفع لمراجعة وإعادة النظر فيما يعتبره الكثير من الناس بديهيا لا يستدعي التفكير أو التساؤل.
كذلك فان التفكير الفلسفي هو تفكير شكي، فلا يسلم بصحة شيء ما لم يعرضه على ملكة العقل لكي تتحقق من صدقه وعدم تناقضه. ولذا فهو يحذرنا من سرعة التصديق أو قبول ما لم يتم فحصه واختباره والبرهنة عليه. فلا بد أن نترك مجالاً للشك داخل منظومتنا الفكرية لكي لا تتصلب عقولنا ونبتعد عن الواقع.
لذا لم تكن الفلسفة يوا ترفا أو مجرد عمل فكري هامشي، ففي بواطن كل منفعة قدمتها المنجزات الحديثة للإنسان مكونات ومكنونات فلسفية لا تنكر، حتى على مستوى الخطابة والفن والمسرح. كما أن الفلسفة ليست مجرد قرار اعتباطي، ولا مجرد ثرثرة ولا تنظير مجاني، وإنما هو نتاج قلق عميق.
هذه هي مهمة الفلسفة واهميتها عند جورج لوكاش ويورغن هابرماس، أولئك الذين لم يستمع إلى كلامهم سوى القلة القليلة من الناس، لان كلامهم غير مرغوب فيه، لان النقد الواعي ينبغي أن يعكس الوضع القائم لأي نظام، وبذلك يستطيع تعرية سوء التنسيق للمدنية المعاصرة بقيمها ومعاييرها وأخلاقيتها.
إن المبادئ العظيمة التي قدمها القرن الواحد والعشرون تظهر اليوم مشوهة. وهذا التشوه إنما يعكس في الحقيقة، احتجاج الطبيعة ضد الإنسان وطرق استغلاله لها وضد حالة القهر والظلم، وهي الشهادة الوحيدة المعبرة التي يمتلكها الفلاسفة اليوم. ومع ذلك ينبغي على الفلسفة أن لا تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة والحقيقة اللانهائية، ينبغي أن يقاس محتوى الحقيقة للأفكار الأساسية بأصولها الاجتماعية والثقافية التي نشأت عنها.
فالفلسفة تهدف دوما إلى أن تكون وسيلة وليس غاية لذاتها تربط النظرية بالممارسة العملية. وفي المقابل فان الفلسفة تحاول أن تبني واقعا أفضل، وهذا ما وعاه المتسلطون عندما حكموا على سقراط بالإعدام، لان واقعا بذلك المستوى لا يستطيع أن يتحمل تيار هذه الثورة الكامنة في دماغ الفلاسفة.
المبحث الثاني: مهام الفلسفة ومضامينها
إن الفلسفة قد لا تكون ذات معطى ايجابي إذا لم تستطع تخطي جذورها الذاتية، بحيث تكون لها القدرة على استيعاب موضوعاتها الخاصة والإجابة على التساؤلات المصيرية.
كما لا يمكن الاستمرار في ذلك إلا بفضل سوسيولوجيا نقدية تضع الأشياء والحياة والواقع موضوع التأمل والتساؤل.
يرى هابرماس بان على الفلسفة أن لا تتخلى عن منهجها العقلاني لحساب منهج آخر من مناهج العلوم الإنسانية، ولكن عليها أن تبقى مرتبطة بالمشكلة الاجتماعية بحيث تكون الفلسفة نقدا جذريا يكتسب محتوى اجتماعيا وسياسيا ومعرفيا عام.
وبهذه المنهجية النقدية تصبح الفلسفة قادرة على أن تكون معاصرة للواقع.
إن الهدف والوظيفة الحقيقية للفلسفة هي نقد ما هو قائم، ونفس الشيء ينطبق على التذمّر السطحي لبعض الناس مما هو قائم بهدف تغييره. لان الهدف الأساسي لمثل هذا النوع من النقد هو تجنب فقدان البشر لأفكارهم وطرائق سلوكهم التي تنبثق من المجتمع في شكله التنظيمي الحالي.
وهذا القول يؤدي بنا إلى أن هناك مهمة كبيرة وخطيرة للفلسفة وهي أولا أن يتعلم الإنسان كيف يتساءل، ولكن ليس عن كل شيء، وان يتمسك منذ البداية بالقواعد الأساسية، وان لا يتوقع بكل بساطة أن يحصل على كل شيء دوما.
والحال أن هناك حاجة إلى التساؤل، وان هناك دائما فضولا موقظا لمزيد من التساؤل. وهنا يأتي دور الفلسفة أو ما ينتظر منها على أقل تقدير، خصوصا في ما يتعلق بأشياء مهمة كالموت والحياة. كما أن هناك تساؤلات أكثر عمقا وأهمية مثل إشكالية الوعي والمعرفة التي لا تحتاج إلى نظرية معلوماتية فحسب، وإنما إلى منهجية يستخدمها الفلاسفة لمعالجة هذه التساؤلات الدقيقة.
إن الفلسفة فكر تساؤلي باعتبارها فكرا إشكاليا نقديا. فالتفكير الفلسفي يجعل من كل شيء موضوع تساؤل ومناقشة وسجال. لذا قال ياسبرز: “الأسئلة في الفلسفة أهم من الإجابات عليها، وكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا”.
وهذا ما جعل طبيعة السؤال تتحدد وترتبط بطبيعة الجواب، وتفسر لماذا تتعدد الخطابات الفلسفية. كذلك فان السؤال الفلسفي في صميمه ليس إلا إشعارا بحدوث الدهشة لدى المتسائل. وكما يرى أرسطو في ان الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف. فالإنسان هو أكثر الموجودات دهشة، لأن الدهشة تتطلب درجة عالية من العقل. إلا أن هناك اختلافا بين الدهشة العلمية والدهشة الفلسفية ، وكما يرى شوبنهاور إن دهشة الفيلسوف هي دهشة أمام الأمور الاعتيادية والتي تكتسي حلة البداهة، وهي دهشة أمام الأشياء ذات الصبغة الأكثر عمومية، وجعلها موضوع التساؤل، وتحويلها إلى قضايا إشكالية. أما دهشة العالم، فهي دهشة أمام أمور جزئية نادرة ومنتقاة، وهي سعي لربطها بقضايا معروفة لديه سابقا، أو بتعبير أدق هي إرجاع المجهول إلى المعلوم. وما دامت هناك أمور تؤلم الإنسان كالمرض والموت، والبؤس، والشقاء. وما دام الوجود الإنساني ووجود العالم يشكلان لغزا محيرا فستستمر الدهشة الفلسفية وسيستمر التفلسف. فكل من يتعامل مع الفلسفة يثير فيه الفضول الفكري تساؤلات كثيرة هي في الواقع تساؤلات حاول الفلاسفة الإجابة عنها.
إن الفلسفة شكل من أشكال الوعي البشري، فهي تهتم بقضايا المجتمع وهموم العصر ويقول ماركس” ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم “. إن الفلسفة تختلف عن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. لأنها ليست دراسة علمية موضوعية لقضايا مجتمع معين ؛ وليست مجرد تشخيص لبعض الأمراض الاجتماعية. إن الطابع العام والشمولي للفلسفة يأبى ذلك. إنها لا تدرس ما هو كائن إلا في إطار ما ينبغي أن يكون. إن طموح الفيلسوف إلى تحقيق الكونية يجعله يترفع عن أن يصبح مجرد مصلح اجتماعي، أو أن يكون على الأكثر عالما اجتماعيا فرضته ظرفية تاريخية. فما هو السبب في اهتمام الفيلسوف بقضايا الحياة والمجتمع؟ والجواب أولا لأن الفلسفة بحث عن الحقيقة ،والأجوبة التي تقترحها، تبين أنها فحص مثابر وراء الإسهام المباشر في حل المشاكل الإنسانية مهما كانت فرص النجاح ضعيفة. وثانيا لأن الفلسفة تولي الأهمية القصوى للإنسان وتعتبره مركز اهتماماتها، حيث لا تهتم بالقضايا إلا بقدر ما ترتبط بالإنسان، لذا قال فيورباخ : “إن كل فلسفة تؤسس خارج الإنسان وبمعزل عنه لا يمكن اعتبارها فلسفة”. فالطابع الإشكالي والنقدي للفلسفة يحتمان عليها إعادة النظر في كل شيء ابتداءا من الانسان نفسه، وفي كل قضايا الحياة، وبالتالي إخضاعها للمساءلة.
والفلسفة، كذلك، التزام لأنها اندماج وانصهار في كل ما من شأنه أن يساهم في صيرورة الحياة، وبالتالي الانطلاق بها إلى فضاء أرحب وأوسع. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تتجند الفلسفة ضد جميع ضروب العنف محاولة منها نشر ثقافة التسامح والانفتاح على الغير.
وهذا ما يفسر حاجة الفيلسوف الدائمة إلى المزيد من المعرفة. حيث رفض فيثاغورس أن يدعى حكيما لأن الحكمة تعني امتلاك الحقيقة، فارتأى أن التعبير الأنسب والأصدق هو أن يقال عنه إنه فيلسوف (محب الحكمة)، أي مجرد إنسان يتوق إلى المعرفة وليس مالكا لها. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم سلوك سقراط من وجهين: فإحساسه بدونية معرفته جعله يرحل إلى رجال الدولة والشعراء، باحثا عن الحقيقة، لكن الوجه الثاني للصورة يتجلى في أن سقراط ذهب إليهم بشك قبلي ليحطم عندهم ذلك الاعتقاد الدوغمائي بامتلاك الحقيقة، وهذا فعلا ما توصل إليه سقراط حينما وجد أن دونية معرفته تفوق بكثير معرفتهم.
فالفيلسوف، شخصية لا تكتفي بالإجابات الارتجالية والسطحية والساذجة. إنه إنسان يرفض الاعتقاد بوجود أفكار جاهزة ومعارف مسلم بها. إنه، كذلك، رجل سجال ونقد، رجل إقناع واقتناع، يقارع الحجة بالحجة، علما بأنه يؤمن بالاختلاف. ومن ثمة فإنه ضد جميع أشكال العنف؛ خصوصا الإرهاب الفكري الذي يمارسه كل متسلط ، علاوة على أصناف القهر الجسدية والنفسية. إن الفيلسوف إنسان ملتزم بقضايا عصره، وبهموم المجتمع، وبرغبة الإنسان الدائمة نحو الحرية والعدل. الفيلسوف إنسان صادق مع نفسه أولا، وصادق مع الآخرين ثانيا. وصدقه هو الذي يجعله ينزع بأفكاره نحو الكونية، فيدعو الناس إلى مشاطرته أفكاره. وسعادة الفيلسوف المثلى تتجلى في الوصول إلى المعرفة لذاتها، أي أنه يحاول باستمرار أن يتخلص من البعد الدوغمائي للمعرفة.
وتراهن الفلسفة على الزمن والتاريخ اللذين يؤكدان مصداقية أفكارها. كما تراهن الفلسفة في تطورها، على تأثيث نفسها من الداخل، من خلال طرحها الدائم للسؤال حتى تتلاءم مع قضايا المجتمع، وسعيا منها إلى الحفاظ على إنسانية الإنسان والدفاع عن كرامته.
والفلسفة ايضا هي البحث المتواصل الذي لا ينتهي ولا يكل عن التساؤل عن اسرار الوجود الذي حركه وعي الانسان النقدي الذي نَور العقل وشحذ الفكر ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول الى الحقيقة وحل الغاز الوجود واسرار الحياة.
وجوهر الفكر الفلسفي هو الحرية والتحرر من أية وصاية، كما يقول كانت، أي خروج الانسان من قصوره الذهني الذي اقترفه بحق نفسه وتجاوز ذلك الى فهم الوجود وتفسيره واعطاءه معنى اخلاقيا، بمعنى تفكيك وتفسير وتحليل ونقد امكانات الانسان وقدراته. واذا كان الوعي النقدي ضروري لتكوين الفكر الفلسفي، فان الفكر الفلسفي ضروري لتكوين العقل النقدي، الذي يشحذ الفكر وينمي قدراته وطاقاته المعرفية فيجد ويجتهد في النظر الى الوجود بتفكير سببي وليس غيبي.
ومنذ سقراط وضع الفلاسفة العالم في سؤال، وتراكمت الاسئلة في اذهانهم من اجل البحث عن يقين جديد، جيد وعادل ومفيد. وهذه المرة ليس بالصورة المجردة، وانما بالمفاهيم والدلالات وليس بالقصص الاساطير وكذلك بالبحث والتقصي المتواصل في اشغال الفكر وتحويل المفاهيم الفلسفية والتأملات العقلية الى أدوات لفهم الواقع وتحليله وتفسيره. ومن الطبيعي ان تنهك الفلسفة نفسها في حب الحكمة وتتجاوز الأسئلة والتحليل والتفسير الى معرفة التناقضات وحل التناقضات غير المتعادلة منها والبحث فيما يعرض، وتركيب ما هو مجزء، وفهم العلاقة الشائكة والملتبسة التي تربط بين الاشياء وبينها وبين الطبيعة. وهذا يعني ان للانسان ارادة اخلاقية حرة تبحث وتفتش وتنبش وتفكك وتفسر لتجيب على التساؤلات المصيرية التي تبقى مدهشة ومحيرة وبدون جواب. فالفلاسفة لا يقفون مكتوفي الأيدي، وانما يبقون صامدين، يعالجون الدهشات والخيبات ويقحمون انفسهم فيما هو شائك وغامض ويمعنون النظر بالمفاهيم والمدلولات التي من الممكن ان تتغير وتتطور، لأن كل جواب يستفز سؤالا آخرا جديدا. ان قلق الفكر ودهشته وحيرته هي أصل التأمل الفلسفي.
ان الفلاسفة لا يتساءلون عن أولى الاسباب ولا عن آخرها، وانما يحاولون وضع حجج ويختارون مفاهيم ميتافيزيقية غير صراعية. ولذلك لا يوجد في قاموس الفلسفة مقولة “صراع ميتافيزيقي”، وانما هناك دعوات متواضعة. فهم يقفون من الحقيقة بافكارهم ونصوصهم الفلسفية وحيدين على الشرفة، لا يثقون بأي عقل متعالي أعمى، وانما يتكلمون عن عطاء الحياة واستفزاز الموت، ولكن بشعور متسامي بالحقيقة غير المتشككة ويحاولون معالجتها افتراضيا وبتحفظ في اغلب الاحيان. وهذا يعني انهم لا يتجاهلون الالتباسات، وانما يحاولون وضع “العالم” على الطاولة و”يشرحونه”. لقد اصبحت الفلسفة اليوم اكثر تعقيدا، وذلك بسبب الاشكاليات المستمرة التي جعلت مجالاتها اكثر ضيقا، حيث لم تعد الفلسفة تبحث في كل الاشياء، كما كانت، وانما تعَرف كل الاشياء، وفي ذات الوقت لا تعرف شيئا. ومن هنا ينشأ خلاف الفلاسفة مع علماء الطبيعة وكذلك مع الرأي العام، الذي ينظر اليهم بمنظار اسطوري حول كل ما هو اشكالي في الحياة. الفلسفة كانت وما تزال تلك المباديء التي تيَسر للعالم فهم الحياة. وهذا هو محور الخلاف والسجال، وبخاصة حول ابحاث الدماغ والأجنة والجينوم البشري، التي لا تستطيع ان تقدم لنا حججا واضحة وكافية حول ذلك، بالرغم من الاتهامات المجانية التي يطلقها البعض كنهاية الفلسفة وموت الفلسفة وغيرها.
فالفلسفة لا تعرف الأوامر ولا ترفع دعوى الخلاص ولا تعرف سوى الفكر العقلاني الذي يجلبه الواقع وهي في الوقت ذاته، تهاجم الأساطير والأوهام، وتساعد على وضع سلم الأولويات للأمور التي يتعامل الإنسان. كما تمرن العقل على أن يرفض الحلول السطحية أو الفارغة من المعنى وأن يدرس ويبحث ليصل إلى أعمق ما يمكن الوصول إليه.
وهي تؤثر أيضا على إرادة الإنسان فتجعله يعيش في النهاية بحسب ما يفكر ويؤمن ويعتقد عن الحياة والقيم والحرية والوجود والله والآخرة. ولهذا السبب نجد الفلسفات الخاطئة تقود عادة إلى طريقة حياة خاطئة. وفي مقابل ذلك نجد أيضا أن هنالك أناس لهم فلسفة جيدة يعيشون حياة خاطئة أو العكس، لكن هذا مرده إن الإنسان غير منسجم دوما مع خياراته الجذرية وطموحاته المستقبلية. فالإنسان لا يعيش بطريقة عقلانية وصحيحة إلا إذا كان عنده تصور واضح عن حقيقة الحياة.
لا شك انه ليست للفلسفة تطبيقات عملية مباشرة، لكن هذا أمر طبيعي. فهي تؤثر في جميع العلوم دون أن تحرك ساكنا، كالمهندس المعماري الذي يقوم ببناء بناية والإشراف عليها بأدق تفاصيلها دون أن ينقل حجرا واحدا.
كما ويستطيع الإنسان بدراسة الفلسفة، أن يوضح جوانب الغموض في مُعتقداته، فيدفعه ذلك إلى التفكير في المسائل الأساسية، ويصبح قادرا على دراسة آراء الفلاسفة القدامى، لكي يفهم لماذا فكروا على النحو الذي فكروا فيه، وأي أثر يمكن لأفكارهم أن تحدثه في حياته. واستكمالا لكل هذه الابعاد سنبين لغة الفلسفة وسؤالها كمعطيات ايجابية لا كثوابت تقليدية.
المبحث الثالث: في لغة الفلسفة ودلالات سؤالها.
ان اللغة الفلسفية التقليدية وأسئلتها التاريخية قد تغيرت تماما، ولقد جرى هذا الانزياح بالارتباط مع مجموعة من المتغيرات التي شملت البنية المعرفية قاطبة، فعلى سبيل المثال، تعتبر منطوقان ومحاور الفلسفة الإغريقية العامة والمستندة إلى مجموعة محددة من الأسئلة، من التقاليد الفلسفية والتي ظلت تراود وتتواتر على مر المراحل التاريخية المتعاقبة، وكانت مساحة النشاط الفلسفي تحت خيمة هذه الأسئلة، فما فكر به الإغريق ظل مستمراً وشكل إطارا وحدودا ثابتة حتى أصبح تقليدا أكاديميا ثابتا، وفيلسوف معاصر مثل مارتن هيدغر اعتبر إن موضوعات الفلسفة الغربية لم تتغير وذلك منذ انطلاقها وعلى مدى أكثر من إلفي عام ، فاعتبر إن الفلاسفة يفكرون بما هو مفكر به تقليدا وطالب الفلسفة بإيجاد حيز مما لا مفكر به في النشاط الفلسفي، وهذا يعد إعلانا عن انعطاف يجري على صعيد المتغير الفلسفي الذي يواكب متغيرات جمة وظواهر تستوعب آليات الخطاب الفلسفي الراهن، لهذا ينبغي الاعتراف بان الثوابت التقليدية للفكر الفلسفي باتت تتعرض إلى تهديدات حتمتها معطيات على الأرض وعلى مستوى الفكرة أنشأت خطابا أو مجموعة خطابات جديدة تمتلك من المنظورات والتصورات الكثير وشرعت هذه الأسئلة تمثل متغيرا جذريا يفارق المعطى التقليدي للفلسفة، وهكذا أصبحت حدود الفلسفة مفتوحة أمام انتشار الابستمولوجيات الناشطة، ففي لحظات تاريخية متحولة وذات انعطاف كبير في مسار الفكر ومحتوياته تعرضت الأسئلة الفلسفية التقليدية إلى نقد هائل، وتم الاتفاق على إنها أفرغت من فعاليتها وقدرتها على التحريض السابق، كما أنها أصبحت منتهكة من قبل أنشطة علوم ومعرفيات أخرى، وقد نجم هذا عن إن أسئلة الفلسفة قد عثرت على أجوبة يقينية ذات طابع علمي رصين، إن هذا الإجراء أصاب المعرفة الإنسانية في الصميم ويعد ذلك تخطيا نوعيا في مضمون وشكل المعرفة .
إن هذا يعني على صعيد الفلسفة اختراقاً ضخماً في منظوماتها ومحاورها وقد حفزت على هذا المتغير مجموعة الابتكارات والكشوفات العلمية الطبيعية والإنسانية والتي شكلت ثورة عميقة في المدركات المعرفية في جميع المناحي الإنسانية.
فالسؤال الفلسفي الذي كان يقلق الإغريق فيما يتعلق بأزلية الكون أو حدوثه، أصبح الآن يجد اهتماما من لدن فروع أخرى من المعرفة الإنسانية كالفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا والانتربولوجيا.
لقد فقد هذا السؤال هويته السابقة وبات يشتغل عليه في مجالات معرفية أخرى. إن هذا الإقرار يشير وببساطة إلى إن أسئلة وموضوعات الفلسفة لم تكن مطلقة أولا كما أنها مهيأة كي تتعرض لفعل الانزياح المعرفي المستمر، إن الانفتاح والتقدم الهائل في مختلف فروع العلم أباح وسمح في تبادل الأدوار والأماكن والفعاليات.
لقد أحرز العلم تقدما هائلا على كافة الأصعدة مما أجاز له تحقيق حيازات أخرى كانت تنتمي إلى معرفيات تقليدية ، فإذا كان العلم يبدأ بالسؤال أيضا.
فمن المؤكد انه ينتهي بالنتيجة إلى نهاية تختلف عن الممارسة الفلسفية دائما.
إن الفلسفة في الأزمنة الأخيرة راحت تماثل العلم، فهي تسعى إلى تعزيز الجانب التاريخي في أنشطتها وذلك بأنه تعمد إلى سلخ عنصر التجريد من كيانها، فهي تحرص على إن تتوجه إلى الموضوعات التاريخية الساخنة والتي تطرحها الحياة بشكل آني وفاعل.
ورغم هذا فان هذا الإقرار لا يعني إن الفلسفة أصبحت تتنكر على تقليدها السابق القائم على السؤال، وهذا ما يشكل الجانب الإشكالي في الخطاب الفلسفي المعاصر، فالمعرفيات عموما لم تعد تكتفي بالعنصر التجريدي السردي المقتصر على السؤال فقط والعرض الخطابي المحض، فهذه المعرفيات والعلم في مقدمتها تسعى إلى تأسيس وتعزيز العنصر التحليلي اليقيني إزاء الظواهر، إن هذه المعرفيات تسعى إلى تأكيد ابتكاراتها ومكتشفاتها رياضيا وتطبيقا وعمليا، فالفيزياء التي شكلت فرعا معرفيا تصدى إلى الكثير من الأسئلة ذات الأصل الفلسفي وتمكن خلال نشاطه من تحقيق الجزء الأكبر من الإجابة عن الكثير منها، وقد جاءت هذه الإجابة على شكل رسوخ يقيني يصل إلى مستوى القانون المطلق، وبهذه النتيجة سيكون من غير المبرر تماما إن تستمر الفلسفة في إعادة مثل هذه الأسئلة والتي بقيت على مدى زمني طويل تتردد كأحد محاورها وموضوعاتها.
وفي موضوعة فلسفة الأخلاق وهي الأخرى كانت تعد جانبا من جوانب أسئلة الفلسفة التقليدية، اخذ علم النفس والاجتماع يسعيان حثيثا لمنح السلوك البشري والموضوعات الاجتماعية من أخلاق وأعراف إبعاد تقترب من المستوى الرياضي الطبيعي.
وهكذا حصلت اختراقات كثيرة هددت بل قوضت السؤال الفلسفي على مستوى الطرح والمعالجة أيضا.
لكن ماذا تبقى للفلسفة ؟
إن فلسفة اللغة هي اهم سمة اتسمت بها فلسفة القرن العشرين، حتى إن احدهم وصف فلسفة القرن العشرين بأنها فلسفة اللغة، ذلك لان الخطاب الفلسفي راح يتداول لغته ويتأملها، ثم انه عمد إلى تشكيل لغة نثر فلسفي مفارقة عن التراث المفاهيمي للفلسفة التقليدية، لقد كان هناك التداخل بين الفلسفة والابستومولوجيا بعموميتها وبشكل جذري، وبوازع من الدوافع التاريخية شرعت الفلسفة تنزع عنها الزوائد الميتافيزيقية المترهلة التي كانت تمثل الكثير من الانهماك الفلسفي واهتماماته، وهكذا تعرض الفضاء الميتافيزيقي الذي كان يكتنف الفلسفة إلى النقد اللاذع وهذا بدوره عمق الاتجاه النقدي في الفلسفة المعاصرة وذلك من خلال تأثر هذا الاتجاه بالأحداث تارة وتأثيرها على الأحداث التاريخية السياسية والثقافية .
من ناحية ثانية لم تستطع الفلسفة إن تستمر بمعزل عن التأثير الهائل الذي أنتجه العلم على أصعدة الحياة كافة ، فكان أن انبثقت فلسفة العلم ، فهي أرادت أن تخطو خطوة متعالية على المنجز العلمي، بغية أن نضع لها مهمة وتضيف المنجز العلمي في خانته الكونية الخاصة، معتبرة إن هذا المنجز يقع فقط في إبداعه الجزئي، أما مهمتها فهي إسباغ الدلالة الكونية والفلسفية لهذا الانجاز. عموما لقد تغيرت لغة الفلسفة وأسئلتها، وهذا في نهاية المطاف يعتبر انزياحا معرفيا كبيرا وعميقا.
المبحث الرابع: الفلسفة ومنطق الواقع.
لازالت الفلسفة مرتبطة في أذهان معظم الناس، بتلك الموضوعات المجردة والكيانات غير المنظورة، لذلك يكتفي الجميع بالتغاضي عن الفلسفة ورفضها.
وبغض النظر على أن رفض الفلسفة هو في ذاته موقفا فلسفياً، فهو إلى جانب ذلك يستند على معرفة غير صحيحة بالفلسفة. أو على نحو أكثر صرامة يستند على فهم قاصر لمهمة الفلسفة. لأنها نظرة تخلط بين تاريخ الفلسفة والفلسفة ذاتها. أي بين تاريخ الأفكار الفلسفية وبين الفلسفة كنشاط عقلي وحالة ذهنية شديدة الانتباه، ووعي متميز لما هو كائن ترسيخاً له مع السعي الذؤوب لما ينبغي أن يكون .
فإذا كانت فكرتنا عن الفلسفة، بأنها تلك التي تدرس موضوعات هلامية مجردة وتصنع كيانات خرافية، أي هي غير علمية ولا جدوى من دارستها وهذا صحيح، إذا كانت الفلسفة هكذا ذات يوم، إلا أنها لم تكن كذلك فهي وأن كانت لا تهتم بالتفاصيل ، إلا أنها لا تلغي هذه التفاصيل أو تضحي بالوقائع المجزأة، على حساب النظرة الشاملة. بل على العكس تماما، فهي تستمد من النظرة الشاملة أو الكلية صياغاتها، لتأسيس الوقائع المجزأة في نسق أو أنساق سليمة وصحيحة.
فالنظرة إلى الفلسفة، على أنها تاريخ للأفكار الفلسفية هي نظرة قاصرة. إن دارسة الأفكار الفلسفية القديمة، وإن كانت مفيدة في تحديد المصطلح وتعميق الدارسات، إلا أنها ليست موضوعاً فلسفياً ولا فلسفة. هي دراسة تاريخية بالمعنى المهني للكلمة، لا تخلف عن موضوعات التاريخ .
أما الفلسفة بمعناها الصحيح، فهي نشاط عقلي ورؤية وفاعلية ذهنية وتقنيات منطقية واعية بذاتها وبموضوعها. فهي ليست موضوعاً من الموضوعات، بل هي الحالة الذهنية التي نرى بها الوقائع، عن طريق وضع وتنظيم معارفنا في أنساق وأنظمة تكون في الآن نفسه المعيار والحافز. فهي المعيار لتأصيل المنجز والحافز لتجاوز هذا المنجز، استشرافا لآفاق المعرفة. أي السعي إلى ما ينبغي أن يكون ابتداء مما هو كائن.
إن الفلسفة أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي العالمي والإنساني وتأكيد وحدة البشر على كوكبنا الضئيل أو قريتنا الصغيرة، والذين يحملون على أكتافهم أمانة الفلسفة يمكنهم أن يلقوا الضوء على المسلمات والافتراضات، والقيم وأساليب الحياة . وربما استطاعوا كذلك بأساليب تحليلهم ونقدهم أن يشفوا أصحاب السلطة من أفراد ومؤسسات سياسية واجتماعية وعلمية ودينية من نزعاتهم اللاعقلانية واللاإنسانية، ويقربوهم من آفاق الوعي العالمي والإنساني الشامل.
وفي استطاعتهم أخيرا أن يفيدوا من تخصصاتهم المحددة في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي، في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضا مزمنة : كالقتل وتغييب الوعي بالمخدرات والشعارات والتهالك على اللذات، والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط.
بل إن المتفلسف لن يستطيع أن يغفل دور العلم والتقنية في خلق الوعي العالمي من الناحية العقلية وتوحيد أساليب الحياة ونماذج السلوك لاعداد متزايدة من البشر . بصرف النظر عن الآثار المدمرة للتقنية، والاضرار الفادحة الناجمة عن التهاون في الاهتمام بأخلاقيات العلم وعدم ربط نتائجه بالقيم الإنسانية . وقد ثبت أن الفلسفة التي لا تكثرت بمجرى التحولات الكبرى في عصرها والتي تتجاهل الحركة العلمية ولا تتفاعل معها مقضي عليها بالجمود التدريجي وبالتالي بالتلاشي. وتلك فكرة يمكن اعتبارها بمثابة مسلمة لا يفتـأ تاريخ الفلسفة يؤكدها، وعلى ضوئهـا سنتبنى التعريف التالي للفلسفة : “الفلسفة حكمة مؤسسة على المعرفة”؛ أي حكمة تستلهم من علوم ومعارف عصرها وتستند إليها.
إن مهمة الفلسفة هي أن تكون جزء من العالم. تنظر إليه بعيون مفتوحة يقظة، وأذهان مستوعبة، فهما وإرشادا تهتم بالوقائع، ولا تحلق في فضاءات خالية مستعصية، فقد أصبحت مهمتها أكثر تواضعاً فانصبت على دراسة العقل وكيف يعرف ما يعرفه وأدواته المعرفية. لذلك فالفلسفة في عصرنا هي فلسفة للعلم في المصطلح والمنهج والموضوع. أي جزء من كون الإنسان وعالمه في نجاحاته وإخفاقاته.
والأمر المثير حقا هو أن العلم المعاصر بكل تطوراته المذهلة لم يكن يستطيع تحقيق ما حققه، دون الاستعانة بالفلسفة سواء في نظرتها العميقة الشاملة أو في صياغاتها الأساسية أوفي أنساقها المنطقية.
فاندفعت كل العلوم تنشد العون من الفلسفة كالفيزياء والفلك والبيولوجيا. بل أن الرياضيات لم تجد مهرباً من اللجوء إليها سواء في الأصول المنطقية للرياضيات أو في بعض نظرياتها الأخرى.
هذا الاستنجاد أو اللجوء إلى الفلسفة، لم يكن بدوافع وجدانية. إنما كان تلبية لضرورات وإشكاليات مستصعبة، صادفتها هذه العلوم أثناء تطوراتها ،فالضرورة العلمية هي التي قادت العلماء باتجاه الفلسفة. حيث أدركوا أخيراً أنه لا سبيل لتحقيق التقدم في العلم، إلا بالجوء للفلسفة والتسلح بحكمتها. ونظرة فاحصة مدققة، إلى ما تم إنجازه في مجالات العلم، تعطينا فكرة واضحة لما يكن أن تقوم به الفلسفة لمستقبل الإنسان، أعني الفلسفة كحالة ذهنية شديدة الانتباه والعمق تمد العلم بأدوات ووسائل منهجية غاية في الأهمية والدقة.
لذلك، فأن أي هدف في حياتنا يتخلى عن الفلسفة. هو في الواقع يتخلى عن مضمونه وجوهره فضلاً على أنه يقدم العلم كبضاعة وليس كإنجازات مترابطة الخطوات، ومتناسقة البناءات. لها اشتراطات موضوعية ومنهجية دقيقة. استغرقت مراحل كثيرة بذل فيها الجهد والمعاناة والإخفاقات. وصولاً إلى تحقيق النجاح. وهو الذي نرى إنتاجه فيما نشاهده اليوم، من ابتكارات في المجالات المختلفة من أجهزة وتقنيات كالأجهزة الرقمية وغزو الفضاء بالبث المرئي والصواريخ وتدفق المعلومات والاستنساخ وغيرها.
فإنسان اليوم يتحكم في درجة حرارة غرفة نومه ويستخدم جهاز رقمي لمشاهدة العالم بأسره ويستطيع الانتقال من بلد إلى بلد ويعرف ما يحدث فيه عن طريق جهاز صغير وهو يحتسي الشاي وينهض في الصباح عن طريق منبه موسيقي، ويغتسل بمياه يتحكم في درجة حرارتها، ويذهب إلى عمله حيث أجهزة الكمبيوتر والآلات الحاسبة ويتصل بمن يريد في أية بقعة في العالم عن طريق الهاتف النقال أو الانترنت، وغير ذلك من استخدام لأجهزة العالم في بقية يومه.
فكيف يتأتى لهذا الإنسان الذي يستخدم هذه التقنيات، أن يتعايش معها بطريقة عادية ومألوفة؟ أي كيف يفهم العلم ؟ وكيف يتعامل مع منجزاته ويعطيها أبعادها الحقيقية؟
الفلسفة وحدها هي من لديها إجابات على كل هذه التساؤلات، وهذا ما سيتضح لنا أكثر عندما نتحرى بدقة أسباب نهضة الغرب.
فوراء تلك النهضة، والتفوق الباهر، والانجازات العظيمة، ثقافة نقدية، وفكر فلسفي، ومجتمع متفتح يضمن جو للبحث العلمي، ويؤمن بان الكون يخضع لقوانين وسنن وهذه السنن متاحة لمن يكتشفها ويسخرها. والعلم هو استيعاب حقيقة القانون وتطويعه بالتسخير في كل المستويات.
لقد أثبتت علوم الغرب بأن تفوقه الباهر ليس له أي أساس عرقي بيولوجي وراثي وإنما يعود سر هذا التفوق الباهر إلى أسباب ثقافية محضة فالأمم متماثلة في القابليات الفطرية. ولا ننكر أن الحياة الغربية مليئة بالعيوب والنقائص في الحياة الاجتماعية والنفسية والروحية والدينية. لكن لا يكاد يخفى على احد الدور الحاسم الذي أدته الفلسفة في نهضة الحضارة الغربية وتطويرها، إن الفلسفة هي التي أنجبت العلوم في الغرب والحضارة الغربية برمتها هي نتاجٌ فلسفي بشكل مباشر أو غير مباشر لأنها هي التي وفرت المناخ الحضاري للغرب، كما وفرته من قبل للعرب المسلمين.
إن الفلسفة نظام معرفي نامي وفريد وانه لمن السائغ جداً أن نصف الفلسفة بأنها علم استخدام العقل لأن الفلسفة ليست مذهباً ولا نحلة أو ملة وإنما هي طريقة لتنظيم نشاط العقل الإنساني في كل المجالات التي يستطيع العقل أن يصل إليها.
لا شك أن إنسانا متشبعا بالأسلوب التقني يمكن أن يكون ماهرا في استعمال آليات التفكير العلمي التقني، ولكنه سيكون حتما عاجزا عن تخطي الحدود التي ترسمها هذه الآليات، أي سيكون عاجزا عن إبداع آفاق جديدة للمعرفة والفعل، وعن ابتكار إمكانيات جديدة لوجودنا وحريتنا.
بناءا على ذلك، فإنه سيكون على الفلسفة أن تخضع العلوم التقنية السائدة لتحليل نقدي؛ هذا التحليل يجب أن يتناول العلم كقوة توجه حياة الإنسان اليومية في مختلف الميادين. يجب ملاحقة هذه العلوم التقنية في كل أشكال حضورها الظاهرة والخفية في عالمنا الراهن. ولا يعني ذلك التشكيك في حقيقة النظريات العلمية، بل بيان أن الحقيقة العلمية ليست هي الحقيقة الأخيرة، وأن العلم ليس هو الكلمة الأخيرة في حياة الإنسان. كما أن هذه المتابعة النقدية لن تهدف إلى البحث عن حقيقة أصلية للأشياء، أو عن فردوس مفقود يجب استعادته، بل فقط إلى إدراك العلوم التقنية في حدودها، والتنبيه إلى المخاطر التي تنجم عن تحول هذه العلوم إلى غاية في ذاتها، بدل أن تكون مجرد وسيلة.
والفلسفة عندما تتخذ إزاء العلم موقفا نقديا، فإنها لا تقوم إلا بممارسة مهمتها الأصلية. فالفلسفة لا تقبل أية افتراضات أو مسبقات، بل تخضع كل شيء للنقد والتساؤل. عندما يتخذ الإنسان الموقف الفلسفي ينكشف العالم في ضوء جديد، حيث تفقد البديهيات بداهتها، وتصبح القناعات الراسخة في حاجة إلى تأسيس، وتبدو الأشياء المألوفة في غرابتها. ولكي تكون الفلسفة وفية لمعناها الأصلي، يجب أن تتخذ هذا الموقف إزاء التوجه العلمي-التقني السائد في عالم اليوم، أي يجب عليها أن تحطم هذه الألفة التي أصبحت تربطنا به وتجعله يبدو وكما لو كان أمرا بديهيا، يجب عليها أن تجعله يبدو في غرابته.
إلا أن الفلسفة، لكي تكون قادرة على القيام بهذه المهمة، يجب عليها، هي ذاتها، أن تتحرر من هذا التوجه العلمي-التقني الذي بدأ تأثيره يمتد إليها هي كذلك. وهكذا لم يعد غريبا أن نسمع داخل الفلسفة أصواتا تعبر، بكيفية أو بأخرى، عن هذا التوجه. فهناك من يدعو مثلا إلى أن الفلسفة يجب أن تقتصر على تتبع مختلف مجالات المعرفة العلمية وأن تتوزع هي ذاتها مثل العلوم إلى تخصصات جزئية ودقيقة. بل وأكثر من هذا، هناك من يرى أن الفلسفة يجب أن تتخلى عن مهمتها التقليدية في توجيه الحياة العملية الأخلاقية، بحجة أن الفلسفة، لكي تحافظ على “علميتها”، يجب أن تترك هذه المهمة للإيديولوجيات ورؤى العالم. ومما يثير الاستغراب أن ينتشر هذا التصور في هذا الوقت بالذات، حيث تتخذ سيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى الإنسان أبعادا مخيفة تطرح بكل إلحاح مهمة التفكير في قضايا التوجه الأخلاقي الفردي والجماعي.
أليس الأوان قد حان لكي يحلق الفيلسوف في الأعالي وينطلق إلى المدى الذي يبدو جميلا دون أن يأسر نفسه في نسق مرجعي، أليس حفنة من الممكنات المفرحة خير له من عربة مليئة باليقينيات المحنطة؟
ومهما يكن من أمر فلا يمكن تجاهل المرحلة التي قطعها الإنسان من الغابة إلى القمر.
إلى هذا الحد نستطيع أن نتصور أوجه التماثل ونقاط التقاطع بين الدين والفلسفة والعلم وان كان لكل منهم مسار مختلف. الدين يعطي الأجوبة النهائية، والفلسفة تفتح ملف الأسئلة، والعلم يحاول في معلومات تفصيلية أن يصوغ أفكاراً مبلورة. كأن الثلاثة يمثلون شجرة جذورها الدين وجذعها الفلسفة وثمراتها العلم . في الواقع هناك نقاط التقاطع بين الحقول الثلاثة الفلسفة والعلم والإيمان. وفي الواقع الفلسفة هي تلك المنطقة التي لا اسم لها بين العلم والدين مكشوفة للهجوم من الجانبين. ويختلف الدين عن الفلسفة في أنه يعطي إجابة جاهزة محددة يقينية في حين أن الفلسفة تبقى تبحث وتثير زوابع الشك بدون توقف. وفي كل خير وكل منهما يحتاجه الإنسان. وفي موقف الإنسان من الموت نرى العلم لا يملك الجواب. أما الفلسفة فتسبح في فضاءات لانهائية بحثاً عن التفسير والمنطقية. ولكن الدين يدخل إلى قلب الإنسان اليقين والراحة والقناعة بمعنى الحياة مرتين في الدنيا والآخرة. ولكن لولا زوابع الفكر الفلسفية لما نشط الفكر في التاريخ؛ فالفلسفة تمثل جذع شجرة تخرج منها ثمرات العلوم أما الجذور القوية الضاربة في عمق التربة فهي الميتافيزيقيا أو الدين ويجب أن تكون في غاية الثبات. ومن هنا يجب فهم علاقة الدين بالعلم والفلسفة أن كلا منهم له ميدانه الخاص به. ولهذا السبب يؤكد مؤرخو العلم وكبار المفكرين على أن ثقافة الغرب وعلومه وفنونه وتنظيماته وحضارته هي نتاج الفكر الفلسفي. يقول المفكر الفرنسي دوبريه: إن نصوص القرن الخامس قبل الميلاد لا تزال تسائلنا ولا يمكن لأي فيلسوف في أيامنا أن يدعي بأنه يفكر أفضل من أفلاطون ويقول هايدغر: ” من اليقيني انه ما كان للعلوم أن توجد لو لم تسبقها الفلسفة وتتقدم عليها ” وحتى نيتشه يصفهم بأنهم جبابرة العقل . كما يؤكد أيضا أن اليونانيين قد: “.. ابتكروا الأنساق الكبرى للفكر الفلسفي ولم يبق لمجمل الأجيال اللاحقة أن تبتكر شيئاً جوهرياً يمكن أن يضاف إليها. أما الفيلسوف الألماني شوبنهاور فيصفهم بأنهم جمهورية العباقرة، لأن ما أنجزوه في مجال الفكر والعلم والفن والسياسة والتجربة الاجتماعية كان ابتكاراً خالصاً لم يستمدوه من أحد ولم يقلدوا فيه شعبا بل كان تأسيسا لنشاط العقل البشري .
الخاتمة:
وفي ختام هذا البحث نصل إلى بيان النتائج التي توصلنا إليها ويمكن إجمالها بالاتي:
1- إن الفيلسوف عضو في جماعة يتأثر بأحداث مجتمعه ويؤثر فيها وهو بنظرته العميقة للأمور وتحليله المستمر للمبادئ الأولى والعلل البعيدة لمختلف ظواهر المجتمع- يصبح أكثر استيعابا لأحداث المجتمع عن غيره من الأفراد العاديين. من هنا أصبح الجهد الفلسفي أكثر ارتباطا بالبحث في مشكلات الإنسان والمجتمع عن البحث في مشكلات الكون.
2- إن السلوك العام للأفراد في أي مجتمع ليس عشوائيا وإنما يقوم على أسس فكرية تنظمه وهى تختلف من مجتمع لآخر حسب ظروفه الخاصة وهى تمثل البناء النظري لهذا المجتمع والذي يمكن من خلاله فهم السلوك والممارسات اليومية للأفراد واستخلاص هذا الجانب النظري وتلك الأسس الفكرية للحياة العملية في المجتمع يعتبر من صميم عمل الفلاسفة ورجال الفكر.
3- الفلسفة تهدف دوما إلى أن تكون وسيلة وليس غاية لذاتها تربط النظرية بالممارسة العملية ، وهنا تكمن أهميتها. وفي المقابل فان الفلسفة تحاول أن تبني واقعا أفضل.
4- إن الفلسفة قد لا تكون ذات معطى ايجابي إذا لم تستطع تخطي جذورها الذاتية، بحيث تكون لها القدرة على استيعاب موضوعاتها الخاصة والإجابة على التساؤلات المصيرية. كما لا يمكن الاستمرار في ذلك إلا بفضل سوسيولوجيا نقدية تضع الأشياء والحياة والواقع موضوع التأمل والتساؤل.
5- إن العلم المعاصر بكل تطوراته المذهلة لم يكن يستطيع تحقيق ما حققه، دون الاستعانة بالفلسفة سواء في نظرتها العميقة الشاملة أو في صياغاتها الأساسية أوفي أنساقها المنطقية .