عندما تهتم مجموعة في إحدى المدن الماليزية أو النيجيرية ببناء مسجد جامع أو مركز علمي أو تأسيس منشأة من المنشآت الخاصة أو العامة فإنهم جميعا سيفكرون في الميزانية والمهندسين والمصممين والبنائين، فيجمعون الأموال ويستدعون المتخصصين لإقامة هذا المشروع وإتمامه، فيستوي المشروع على ساقه ويصفق له الجميع، ويصبح منارة من منارات المدينة ومعلما من معالمها الجميلة الخلابة.
وإذا قدر لك أن تمر عند هذين المشروعين بعد عشر سنوات من بنائهما، فسيبقى المشروع الماليزي أو السنغافوري أو الكوري الجنوبي مصدر انبهار ودهشة لك، أما المشروع النيجيري أو الغيني أو المالي أو المصري فسيصبح مصدر تحيّر وارتباك!!! عجبا! لقد أقيم المشروعان في نفس السنة، وبميزانية متوازنة، وقد صفق لهما الجمهور والسيّاح عندما اكتمالهما واستوائهما على ساقهما، فما الذي تغيرّ!!!
ثقافة الصيانة..العنصر المفقود
نعم، لم يتغير شيئ، وإنما كان هناك عنصرا حاضرا وعنصرا مفقودا في المشروعين منذ قبل المخاض!
إن هذا العنصر هو المسمى ب (ثقافة الصيانة) إن الماليزي وسنغافوري والكوري فكروا في طريقة الحفاظ على هذا المشروع وحمايته والعناية به، وبدؤوا يخططون لذلك منذ اللحظة الأولى للمشروع، ففكروا في تنظيفه، وإحاطته بالزهور، وترميمه كل ستة أشهر، وإحضار متخصصين لفحص مبانيه كل سنة، باختصار فإن المجموعة الماليزية بدأت ونهاية الطرق مرسومة أمامها، كانت حبال الحاضر مترابطة بخيوط المستقبل، وكانت فرحة الجيل الحالي ضاربة بجذورها في اعماق سعادة الأجيال المقبلة!
أما المجموعة الغينية والمصرية والنجيرية والسنغالية فكان تفكيره على اللحظة الأولى، كان منغرقا كيف يحصد أكبر قدر ممكن من تصفيقات الجماهير عند الافتتاح، وكان منغمسا في جعجعات الحاضر وهمهماته، ولم يروق له بل لم يخطر بباله المتطلبات اللازمة للمحافظة على هذا المشروع بعد شهور وسنين، لم تحدثه نفسه كيف يحافظ على هذه المنشأة لتصبح مصدر سعادة واعتزاز للأجيال القادمة!
مسجد أو حقل رز
حسنا سيدي القارئ، إذا لم تسعفك نفسك لتصدّق هذا الكلام “الإنشائي”، فدعني أضرب لك مثالا جوهريا على دعواي، يوجد في غينيا مسجد جامع، تم بناؤه عام 1982 كان المسجد مصدر فخر واعتزاز للغينيين- وإن كان التمويل جاء من الخزانة السعودية وليس من جيب الحكومة الغينية- هذا المسجد كان من الطراز الأول في غرب أفريقيا بل في أفريقيا ككل، واليوم صار ذلك المسجد في وضع يرثى له، جدر رثّة، وسجادات شعث غبر، تتداعى تسربات المياه إلى سقفه وأرضه كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها!! فالمسجد ضائق على أهله بما رحب، فالمكان يبدو وكأنه “حقل رز، وليس دور عبادة” على حد تعبير أحد الصحافيين الغينيين، فأكثر الواجهات الزجاجية مكسورة، والشقوق والتهدمات في الأعمدة تستقبلك في كل مكان!!!
وعند مقارنة مسجد فيصل في غينيا بإحدى نظيراته في ماليزيا، وليكن مثلا مسجد سلطان صلاح الدين عبد العزيز الذي تزامن بناؤه مع المسجد الغيني ((1982 تجد الفرق واسعا، والبون شاسعا، فهذا المسجد الماليزي ما زال معلما من معالم ماليزيا، ودُرّة من دُرّات آسيا والعالم الاسلامي، حتى السيّاح الغربيين غير المسلمين لا يتوانون في زيارته لجماله ورونقه وبهائه. أجل، أعرف أن هناك عوامل أخرى تمثل نقطة الفرق الجوهري بين هذين المشروعين في هذين البلدين، ولكني لا أرتاب ولو للحظة أن ثقافة الصيانة والإعتناء تمثل عاملا جوهريا في وضعية هذين المسجدين.
وإن شئت فاضرب المقارنة نفسها بين أولى جامعة ماليزية وأولى جامعة غينية، فجامعة مالايا التي أسست 1905، وجامعة جمال عبد الناصر في غينيا التي أسست عام 1962م لا يمكن المقارنة بينهما ليس من حيث التعليم والأنشطة الأكاديمية الأخرى، فهذا لا مجال للمقارنة فيه، وإنما كلامي عن صيانة المباني والإعتناء بالنظافة وزراعة الأشجار والزهور، وتنظيف المقاعد وغيرها من أعمال الصيانة التي لا تعجز عنها الحكومة الغينية ولا الشعب الغيني، لكنها انعدام ثقافة الصيانة والاعتناء لدى الإنسان الأفريقي.
الاعتناء بالممتلكات ثروة أممية
إن ثقافة الصيانة والاعتناء بالممتلكات ثروة على الصعيدي الشخصي والأممي، فصديقاي اللذان امتلكا كل منهما سيارة بالتزامن، وكان أحدهما ميسور الحال، فاشترى سيارة فاخرة غالية، لكنه كان فاقدا لثقافة الصيانة، يسوق السيارة بكل عنف، ويجري بها في كل طرق، ولا يعتني بنظافتها ولا يذهب بها للورشة لفحصها إلا في الحالات الصعبة، وكان الصديق الآخر يملك سيارة متواضعة، لكنه أخذ على نفسه الذهاب بها للورشة والصيانة كل أسبوعين، سواء كانت مريضة أو غير مريضة، فبعد سنوات كان الأول يشتكي من سيارته كل لحظة حتى انتهى به المطاف إلى بيعها بأبخس الأثمان، أما الآخر فكانت سيارته تظهر وكأنها ابنة شهور أو سنة!
وعلى الصعيد الأممي، نجد أن أفريقيا وحكوماتها تنفق الملايين الملايين على المشروعات المتكررة، إنها تنفق الملايين على تلك الطرق التي رصفت من قبل الشركات الصينية الرخيصة وهي تفتقد للصيانة بعد رصفها وتعبيدها، فلا يلتفت إليها إلا بعد خرابها وتمزقها وتهدمها، فيرجعون مرة أخرى لينفقوا ملايين أخرى عليها، وهكذا تتكرر العملية دون أن يعووا ويسمعوا، إن هذه العملية مكلفة اقتصاديا، مهدرة للأموال والأوقات، مشوهة لسمعة الدولة والمجتمع والأفراد، فلماذا لا يتم تغيير هذه الثقافة وتبني ثقافة الصيانة وإعادة التأهيل المستمر!
الصيانة ثقافة إسلامية أصيلة
إن ثقافة الصيانة والاعتناء والمحافظة على العمل الجيد ثقافة راقية، وهي جزء من تعاليم ديننا السامي، ففي الصحيحين: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» فالأدوم يعطي معنى المحافظة على الشيئ، والاستمرار فيه، وتكرار فعله يوما بعد يوما، فإن كانت من الأفعال والحركات كالعبادات من الصلوات وقراءة القرآن وغيرها كالرياضة مثلا فيستحب المدوامة عليها بتكرارها يوميا، وإن كانت مباني وطرق وغيرها فالأدوم في هذا السياق يمثل معنى المحافظة عليها والاعتناء بها وصيانتها.
وقد ضرب لنا النبي (ﷺ) أروع أمثلة في الاعتناء وتكريم من يقوم على أعمال الصيانة والاعتناء بالمرافق العامة، ففي الصحيحين نقرأ قصة تلك المرأة التي كانت تقمّ المسجد وتنظفه وتلتقط منه الخرق والعيدان، فلما توفيت، صلى عليها بعض الصحابة ودفنوها دون إشعار للنبي (ﷺ) ففي احدى اللحظات افتقد النبي (ﷺ) تلك المرأة، ولاحظ عدم حضورها ولعله لاحظ ذلك من آثار الخرق والعيدان وعدم تعاهد المسجد كما كان، فقال النبي (ﷺ) «أين فلانة» قالوا ماتت، فقال: «أفلا آذنتموني» ثم ذهب النبي (ﷺ) إلى قبرها وصلى عليها. لاحظ تفقّد النبي لها، وشعوره بغيابها بين المئات أو الآلاف من الصحابة، ولاحظ اعتناؤه بها بحضوره إلى قبرها والصلاة على روحها الطاهرة!!
وعندما نجد القرآن الكريم ينهى عن الإسراف والتبذير {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} {ولا تبذّر تبذيرا} فإن القضية هنا لا تتعلق فقط بالإكثار المفرط في الأطمعة والأشربة، ورمي بقاياها في النفايات، بل يشمل تلك المشاريع التي تقيمها اليوم ثم لا تعتني بها غدا، فيفسد ويترسّب وينهدم فتحتاج إلى غيرها لعدم الاعتناء بها، فهذا أيضا من التصرفات المشمولة في مفهوم الإسراف.
ومن هنا نفهم أن ثقافة الصيانة والاعتناء بالممتلكات من الأمور المجمعة عليها في المفهوم الديني والحضاري الإنساني، وهو النهج الأرقى حضاريا، الأرخص اقتصاديا، الأسمى دينيا، الأجمل أخلاقيا للنهوض بالدول والمجتمعات.
لجنة وطنية للصيانة في كل دولة إسلامية
إننا يجب علينا إنشاء لجنة وطنية للصيانة في كل دولة اسلامية وأفريقية إن لم تكن موجودة، وتفعيلها إن كانت موجودة، يختار مسؤولوها بناء على الفاعلية لا على المفعولية، تكون بعيدة عن الفساد والمحسوبية، وتنشأ لها لجان فرعية لصيانة كل المرافق العامة الوطنية، إن هذا سيحفظ لنا ملايين الدولارات في خزانة الدولة، ويجعلنا نعيش في متعة وترح مع مرافقنا العامة.
إننا كمجتمع وأفراد يجب الاعتناء بمدارسنا الخاصة، وصيانة مساجدنا ومنازلنا وسياراتنا وكل مشروع فردي أو مجتمعي ننشؤه، فبهذا نشارك في النقلة الحضارية الجمالية لدولنا ومجتمعاتنا.
إننا يجب أن ننطلق من ثقافة الإصلاح الذي هو ثقافتنا في أفريقيا، إلى ثقافة الصيانة، فالإصلاح Repair يكون بعد وقوع الاختراق والتمزق، أما الصيانة Maintenance فهي من الصون، بمعنى الحماية والوقاية، فثقافة الصيانة ليست أن تنتظر تلك المباني حتى تتهاوى، والطرق حتى تتهدم، والسيارة حتى تتوقف، والجسور حتى تتكسر، والنهر حتى يتجمد، والبحر حتى يتلوث، والمزرعة حتى تفسد، نعم إن ثقافة الصيانة ليست أن تنتظر هذه كلها لتحدث، ثم تعمل على اصلاحها، إنما هي مجابهة هذه الأمور قبل وقوعها، والتعرف على العيوب قبل تفاقمها، والوقاية من الأمراض قبل حدوثها، وسد الثغرات قبل بروزها، إن ثقافة الصيانة عملية مستمرة، تعني تعاهد المشروع والسهر على حمايته والحفاظ على صحته وحيويته قبل حدوث أي شيئ يخرّه على عروشه.
ورحم الله القائل: “قليل دائم خير من كثير لا يدوم”