من أعظم نعم الله التي أنعمها علينا هي تيسيره القرآن العظيم للذكر، فالكل مطيق لقراءته، حتى الأميون الذين لا يقرؤون الكتاب يحفظون من سور القرآن ما تتم به عبادتهم، وقد غرس الله سبحانه محبة كلامه في قلوب عباده، تراهم يرتلون في صباحهم، ومسائهم، بل وفي غدوهم ورواحهم وشاع ذلك وتكاثر حتى إنك لترى أبناءنا في المراكب العامة يرتلون بصوت خفيض، لا تسمع منه إلا همساً حلواً عذباً رطباً غضاً لقلوبهم الغضة الرطبة، وهذا جيد رائع؛ لأنك بهذا توشك أن ترى جيلاً يتكاثر وينمو حول المصحف مرة ثانية.
وهذا يدعونا إلى مراجعة السر في الحكمة الإلهية التي يسرت القرآن للذكر وزينته إلى القلوب، حتى ترى أمة مقبلة على الله، تضع كلام الله الشريف في إهابها، وهي غادية رائحة تعمل في عمارة الكون وخلافة الله في الأرض، وما أعظم هذه العمارة إذا كانت من رجال مقبلين على الله استنارت قلوبهم بنور كلامه سبحانه فلا غش ولا سرقة ولا ظلم ولا نهب ولا خداع ولا سفك للدماء ولا فجور إلى آخر سلسلة الأوصاب التي تفتك بالمجتمعات في غيبة ذكر الله وكلمة التقوى، وحين يحارب التدين، أو حين ترمى الشعوب بالغفلة والنسيان، أو حين تظهر فيها نوابت خبيثة شريرة تصدها عن سبيل الله، وتصف ذلك بالتخلف والرجعة إلى عصور الظلمات، وتغري الأفراد والجماعات بطرق “العيش الحديثة” و “السلوكيات المادية” المقتبسة من حضارات الآخرين إلى آخر ما تجده على الساحة من صور ورموز ومذاهب.
وقد ذكر علماؤنا أن المقصود من قراءة القرآن وحفظه، والمحافظة على كل حرف فيه، وكل حركة وسكنة ووقفة، بحيث يبقى على صورته التي نزل بها، ثم توريث هذه الصورة لأجيال الناس جيلاً بعد جيل، ذكر علماؤنا أن المقصود بذلك هو بقاء حجة الله على عباده شاهدة حاضرة حية تتحرك في حياة الناس ومعهم؛ لأن هذا القرآن هو معجزة النبي ﷺ، ودليل نبوته، وهو مغاير لمعجزات الأنبياء عليهم السلام، من حيث كانت أفعالاً أجراها الله على أيديهم، ثم انقطع وجودها وبقي خبرها، كقلب العصا حية بالنسبة لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله بالنسبة لعيسى عليه السلام. القرآن معجز للبشر جيلاً بعد جيل وأمة بعد أمة، هو هكذا يوم أن نزل وهو هكذا اليوم، وسوف يظل كذلك حتى ينتهي التكليف، وينفخ في الصور، لا يتغير من هذه الحقيقة شيء البتة، لأن التقدم العلمي الذي تحققه البشرية في مسيرتها خط آخر مغاير لخط المعجزات، من حيث كانت المعجزات أمراً لا يدخل في طوق البشر، فسوف تظل أجيال الناس عاجزة عن أن تأتي بصورة من مثله، ولو وضع العلمُ أقدامَهم على أنف الثريا، لأن عجزهم عن أن يأتوا بسورة، كعجزهم عن إحياء الموتى، وسوف يظل عجزهم عن إحياء الموتى ضربة لازب لا تنفك وهذا واضح ولا ينبغي أن يلتبس.
هذا هو المقصود من تيسير القرآن للذكر وشيوع تلاوته وتوريث طرائق ضبطه وترتيله. وهذه الحقيقة غائبة عنا ونحن نقرأ القرآن أو نسمعه، وليس من الصواب أن تغيب؛ لأن حضورها يدفعنا إلى تفهم ما نقرأ وتدبره، وفي التفهم والتدبر ما يكشف لنا من روائع القرآن ما يزداد به الإيمان قال تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]، ولا يمكن أن يزداد الإيمان بقراءة الغافل والذاهل والذي لا يتدبر دقائق معانيه ورقائق مراميه، وإنما يزداد الإيمان بالقراءة التي تحاول أن تستكشف ما في القرآن مما بهر العقول، وأعجز الجمهور – كما يقول علماؤنا رحمهم الله -. وقد أمرنا الله سبحانه بأن نتدبر القرآن وجعل سبحانه أصل الإيمان مرتبطاً بهذا التدبر، قال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
التدبر المطلوب في الآية هو التدبر الذي يكشف ما في القرآن من اتساق وتناغم وتوافق، والتدبر الذي يدرك خلو القرآن من الاختلاف والتناقض والتضارب، وليس المراد الاختلاف والتناقض في الأوامر والنواهي كأن يحرم شيئاً في سورة ثم يحله في أخرى، وإنما المراد اختلاف آخر أدق من ذلك وأشفّ، وحسبنا أن نتدبر كلمة الاختلاف هذه في هذه المقالة، وقبل أن نقف عند هذه الكلمة الشريفة أزيد أصل المسألة وضوحاً، وأكرر ضرورة إعمال الذهن وإعمال البصيرة ومزيد اليقظة والتنبه ونحن نقرأ القرآن حتى نحصل على شيء مما فيه، وفيه خير كثير لنا ولأجيال الأمم كلها، وإنما يأخذ كل قدر ما يستطيع وعيه واستيعابه، وهذا الثراء الذي لا ينقطع مدده ولا يخلق على كثرة الرد هو إعجازه.
وقد جمع القرآن الكريم بين أمور ثلاثة في قرن واحد في أول سورة الرحمن قال سبحانه: {الرَّحْمَٰنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [ الرحمن:1-4]، وأهل العلم يقولون أن تجاور المعاني، وضم بعضها إلى بعض يفيد أنها متقاربة، وقد نبه رسول الله سلى الله عليه وسلم أعلم أهل الأرض بما أنزل الله لما نزلت عليه آية الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج من الآية:30]، وقف ﷺ، ورفع صوته بالآية وقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» (أخرج الحديث أبو داود وأحمد والترمذي).
وقال العلماء في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء من الآية:23]، دل عطف بر الوالدين على عبادة الله وحده على أن بر الوالدين بمكان كبير عند الله، وهكذا تتجاور المعاني فتتقارب وتتشارب، وهكذا قُل في تعليم القرآن وخلق الإنسان وتعليمه البيان هذه الثلاثة كأنها شيء واحد في عجز البشر عن أن يأتوا بمثلها، فالقرآن كخلق الإنسان وكتعليمه البيان، وهذه الثلاثة معجزة يعني أن الإنسان من حيث هو مخلوق حي ذو كبد وروح معجز، ومن حيث هو ناطق بالبيان معجز، وهذا كله يعني أن تدقيق علماء الطب في معرفة التشريح، ووظائف الأعضاء، وتناسق هذه الوظائف يهديهم دائماً إلى استجلاء مزيد من آيات الحكمة والقدرة في خلق هذا الإنسان، وكذلك تدقيق علماء اللغة في تحليل كلمات القرآن وتحليل تراكيب هذه الكلمات، وتناسق أصواتها، ودلالاتها يهديهم إلى استجلاء مزيد من آيات الحكمة في هذا القرآن العظيم. قلت هذا قبل تدبر كلمة {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء من الآية:82]، لبيان أنه لا يستطيع أحد أن يصل إلى نهاية المعنى في الكلمة القرآنية، وأن يضع يده على كل ما فيها من لطائف ورقائق، لأنها مثل خلق الإنسان، كلما كشفت منها وجهاً تبدت لك من تحته وجوه كثيرة.
ثم أعود إلى الآية، مهتدياً بكلام العلماء الذين ذكروا أن الاختلاف المنفي عن القرآن هو الاختلاف الذي يعتري النفس الإنسانية وينعكس على كل ما يصدر عنها انعكاساً لا ينفك، وذلك لأن أحوال الضعف والفتور أحوال ملازمة للإنسان، ولابد لهذه الأحوال أن تتسلل إلى ما يصدر عن هذه النفس لأن قوة النفس وفتورها وصفان لا يرتفعان عنها وهي تباشر ما تنجز من أعمال وأقوال، ولاحظ نفسك وأنت تقرأ أو تكتب أو تمارس ما شئت من الأعمال تجد نفسك في هذا كله لا تمضي على خط بياني واحد، وإنما تراها تعلو وتسفل وتقوى وتضعف وتصيب وتخطئ وهكذا تتوارد عليها الأحوال لا محالة، فإذا كانت صناعتك الكتابة والقراءة مثلاً وجدت نفسك وقد أصبت الفهم هنا وأخطأت هناك وأحسنت عرض تلك الفكرة واختلت في بيانك فكرة أخرى، وهكذا لا تقرأ مقالة ولا رسالة ولا خطبة إلا وجدت فيها شيئاً يؤخذ وشيئاً يترك، وقصارى ما عند المجيد أن تتكاثر عنده الأشياء التي تؤخذ وتقل الأشياء التي تترك، أما أن تجد كلاماً رائعاً كله وسديداً كله وعذباً كله وفائقاً كله فهذا ليس في بلاغة الناس، واقرأ ما شئت مما دبجته قرائح دهاقين الشعر والبيان فلن تجد قصيدة رائعة كل كلماتها ولا رسالة فائقة كل فقرها، وكان الباقلاني واعياً لهذه المسألة حين كتب ينقد قصيدة (قفا نبك) لامرئ القيس، وقصيدة (أهلاً بذلكم الخيال المقبل) للبحتري وذلك لأن جمهور العلماء على أن امرأ القيس أمير شعراء الجاهلية وأن قصيدة (قفا نبك) أميرة شعره، وكذلك جمهور العلماء على أن البحتري أشعر المحدثين، وقد سُئل هو نفسه عن خير شعره فقال: “أهلاً بذلكم الخيال المقبل”.
وقف الباقلاني عند هاتين القصيدتين ليدل على ما فيهما من ضعف واختلال، وهو وإن كان قد جار على الشاعرين إلا أن الأمر في عمومه كما قيل لا يخلو شعر من غميزة، ومما اتفق عليه أصحاب النظر في الشعر والبلاغة في الأمم كلها والآداب كلها والأزمنة كلها، أنه ليس هناك قصيدة بنيت كلها من العناصر الشعرية المصفاة ولا بد أن تداخلها عناصر غير شعرية، أما الشعر الخالص المصفى فهو أقل في أحلام الشعراء تستشرف نحوه عرائسهم، وفي خيال النقاد لم يقعوا عليه بعد، وكان البحتري يستمع إلى الشعر وهو من علماء الناس به، فإذا وقع على الشذرة الرائعة قال: هذه عروق الذهب.
وهذا هو الاختلاف القائم في كلام الناس والذي لا تجد شيئاَ منه في القرآن، وكلام الناس يختلف قوة وضعفاً على حسب أبواب المعاني التي اعتادها، فقد ترى الكاتب يبرع في كتابة المقالة السياسية فإذا عالج بقلمه مقالة أدبية ضعف واهتز، وقد تراه يحسن كتابة القصة فإذا عالج الشعر أو المسرح اختل عليه بيانه وهكذا، ولا ترى كاتباً واحداً يجري قلمه في أبواب المعاني المختلفة على ضرب واحد من الجودة، لا تنبو فيه كلمة ولا يسقط له حرف ولا ينفر عليه تركيب ولا يعتاص له بيان لا ترى هذا أبداً، وهذا هو تاريخ العلم والأدب والعلماء والأدباء لكل منهم باب غلب عليه وأحكم المقالة فيه فإذا خرج عنه سبقه من هو أقل منه شأناً وأضيق منه ذرعاً، ولو كان مخرج القرآن هو هذه النفس البشرية لرأيت ذلك فيه، لأنه متعدد المناحي متباعد الغايات فيه القصص وفيه الموعظة وفيه الفرائض والوعد والوعيد إلى آخره ومع ذلك ترى بيانه كاملاً في الكل رائعاً في الكل له اتساق واحد وضرب واحد لا يعلو هنا ويهبط هناك ولا يقوى هنا ويلين هناك ينتفي الاختلاف عن جميعه انتفاء تاماً بل ويختار كله من غير استثناء، وإذا أجريت كلمة منه في خطبة أو رسالة ظهرت وبهرت وارتفعت وقهرت وهذا ضرب غير ضروب الكلام كله ومعدن غير معادنه كلها.
وتدبر القرآن جاء في أربع سور: آية النساء هذه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والثانية في سورة محمد آية 24 {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، والصياغة واحدة {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، والتعقيب مختلف فهو في سورة النساء بيان تمام البرهان وهو ثمرة التدبر وهو معرفة نفي الاختلاف الذي لا يوجد في كلام البشر، وهذا متناسب مع قوله قبل ذلك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء من الآية:81]، والتعقيب في سورة محمد {أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وفي هذا من الشدة ما ترى وهو مناسب لقوله قبل الآية {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] وهذا جيد واضح، والآية الثالثة في سورة المؤمنون آية 68 {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} والقول هو القرآن، والمراد بالاستفهام كالذي قبله إنكار لهم وتوبيخ على تقصير قد وقع. وهو عدم التدبر، وهذا من صيغ الاستفهام النادرة التي تدخل فيه همزة الإنكار على النفي ولا يراد الإثبات، والكثير كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر من الآية:36]، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف من الآية:172] إلى آخره، والآية الرابعة في سورة ص آية 29 {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
وبهذا يكون كل تدبر في القرآن مقصود منه بيان أنه حجة الله وأنه الحق وأن النظر فيه بمنهج مستقيم يهدي إلى ذلك لا محالة، وهذا أصل من أصول الدين، وواجب العلماء هو فتح باب التدبر في آيات الله لجماهير الأمة، لأنهم هو الذين يستطيعون التفهم والتدبر والاستنباط ثم يحدثون الأمة بما يفتح الله به عليهم وهذا ضروري وملح في هذا الوقت لتنتفع الأمة بهذه الطاقة الروحية الهائلة المتجهة إلى الله، والتي ملأت الأرض قرآناً، والمتمثلة في هذه الجموع الهائلة التي لزمت المصحف بصورة لم يحدث لها نظائر في التاريخ الحديث، مما يؤكد أننا في مرحلة تحول ونحن ذاهلون عنها، وغيرنا جاد في تفريغها من مضمونها، وهذا تكليف من الله لأهل العلم، حتى يجتهدوا في تيسير طرائق التدبر للقرآن لهذه الجماهير التي احتشدت حول نبعه مرة ثانية تطلب الري، فهيا يا معشر العلماء أجيبوا داعي الله وبينوا ووضحوا حتى يهتدي من ضل ويقترب من ابتعد وحتى يصح بهم صوت القرآن يقود الدنيا مرة ثانية وليس هذا ببعيد بل هو كائن إن شاء الله.