تَرُدّ الغالبية المسلمة بالنفي، إقرارا منها بأن المسلم لا يمكن أن تنتابه شكوك إزاء خالقه. غير أن الاختلالات القيمية والسلوكية التي باتت تهيمن على الواقع اليومي تدفع باتجاه تعزيز الشك، أو بالأحرى فصل ادعاء المعرفة بالله عن تجلياتها المفترضة في السلوك، والتعاطي مع الوقائع والأحداث.
تلك المفارقة الحادة بين الوجدان والسلوك عبر عنها زاهد خراسان: شقيق بن إبراهيم بمقولة تُنسب إليه في كتب الرقائق ومجالس الوعظ، وتثير مبكرا مسألة اتساع الهوة بين التصديق القلبي وإقرار اللسان من جهة، وعمل الأركان من جهة أخرى. يقول شقيق :
” وافقني الناس في أربعة أشياء قولا وخالفوني فيها فعلا :
قالوا: إنا عبيد لله تعالى ،ويعملون عمل الأحرار..
وقالوا: إن الله كفيل لأرزاقنا ،ولا تطمئن قلوبهم إلا مع شيء من الدنيا..
وقالوا: إن الآخرة خير من الدنيا، وهم يجمعون المال للدنيا والذنوب للآخرة..
وقالوا: لابد لنا من الموت، ويعملون عمل أقوام لا يموتون.”
لو راجعنا قائمة الهموم التي يثيرها المسلم المعاصر عبر الفضائيات والإذاعات، ومواقع التواصل الاجتماعي، لتبينت لنا الغفلة، أو التغافل ربما، عن المفارقات الأربع التي أثارها شقيق بن إبراهيم في مقولته. فهناك إقرار مسبق بالإيمان بالله، وبأن النبي ﷺ تركنا على المحجة البيضاء التي يحقق منهاجها طمأنينة النفس وسكينة القلب، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فلم يدع لأحد من خلقه سطوة على أرزاق الآخرين.
لكن بالمقابل، تتضخم الشكوى حول تفكك العلاقات، والطمع الدنيوي الذي أيقظ المارد فينا، وكشف في محطات عديدة عن أبشع وجه للإنسانية، ممثلا في التقتيل والتهجير، وتخريب بيوتنا بأيدينا دون الحاجة لإرهاق العدو بتكاليف زائدة!
انخرط المجتمع المسلم رغم أنفه فيما يعتبره الدكتور دافيد شيهان “عصر القلق”، ويختلف الأمر هنا عن حالة القلق السوي الذي كان ينتاب أسلافنا حين يواجهون مواقف الحرب أو أخطار البيئة. فما نعاينه اليوم هو قلق متعدد الأوجه والمظاهر، يصيب الناس دون سبب وجيه، برأيه، فيشل قدرتهم على النهوض بأعباء الحياة ومسؤولياتها. وإذا كان شاغل الدكتور هنا هو بحث أساليب العلاج، فإن تعاليم الإسلام تربط بواعث القلق بهيمنة الأسباب على عقل ووجدان المسلم، إلى الحد الذي يغفل عن قدرة الحق سبحانه، وانفراده بالتدبير والأمر.
” إنا عبيد لله تعالى، ويعملون عمل الأحرار..”
شكلت الأدبيات الحديثة للحرية وحقوق الإنسان منطلقا لتأليه الإنسان، وحفزه على الانفلات من أية وصاية أو مرجعية تكبل حريته، أو هَواه إن صح التعبير. فلا مبرر لحظر أو نهي، ولا حاجة للولاء إلى تعاليم مسطرة بعد أن بلغ الإنسان رشده، ورفعته قفزات الاكتشاف العلمي إلى وضع غير مسبوق.
وكان على البشرية أن تعاين أوجاعا واضطرابات عديدة، قبل أن تستفيق على حقيقة مؤلمة مفادها: أن إطلاق يد الإنسان في الطبيعة والكون من حوله مفسدة عظيمة، ولابد من ميثاق يقيد أهواءه، ويحد من غلوائه.
من أبرز تجليات الحرية المفرطة وتأليه الإنسان ما يعيشه كوكب الأرض جراء التلوث ومخلفات الانتهاك المتزايد لموارد البيئة. ولعل الوضع المفارق في المجتمع المسلم أننا نجد القرآن الكريم يحدد في آيات عديدة مبدأ التسخير كشكل للعلاقة بين الإنسان والموجودات من حوله، وهو مبدأ يقوم على الانتفاع لا التملك والهيمنة، بينما يغلب على النشاط الإنساني اليومي منحى مخالف، نتيجة التأثر بالمدخل الغربي الذي يعتبر الأرض ملكا للإنسان يتصرف فيها دون حسيب أو رقيب. فصارت مكبات القمامة جزءا من المشهد اليومي الذي يتآلف معه المسلم دون اكتراث، رغم أنه يتلو في صلواته آيات الجمال، ويستمع في المجالس لأحاديث الطهارة !
” إن الله كفيل لأرزاقنا ،ولا تطمئن قلوبهم إلا مع شيء من الدنيا..”
في بعض خواطره الإيمانية التي صدرت ضمن كتيب بعنوان “تلك هي الأرزاق” يوسع الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله دلالة الرزق ومقتضياته لتضيء جوانب من حياة المسلم، وتَنفُذ للحكمة الإلهية في العطاء والمنع. ومن بين هذه المقتضيات أن الرزق هو كل ما ينتفع به الإنسان، ماديا كان أو معنويا. فالأدب، والخلق الطيب، وسماع العلم، والصدق وغيرها هي من جملة الأرزاق التي لا تقل شأنا عن المال والبنين والحرث.
وعطاء الله في الكون نوعان : نوع يفعل لك دون أن تفعل أنت شيئا، كالشمس والريح والمطر وبقية عناصر الطبيعة التي تمد الإنسان بحاجاته دون أن يكون له جهدا فيها.
ونوع ينفعل بك، فإذا فعلت أعطاك وإن لم تفعل فلا يعطيك. وهو كل ما يحتاج الإنسان إلى استخدام عقله وطاقته لتحصيل المنافع منه.
ومادام قوام الكون هو استبقاء حياة الناس فإن الذي خلق الخلق متكفل بأرزاقهم. ولا يجدر بالمسلم أن تثير مخاوفه دعاوى ندرة الطعام التي تلوح بها الدراسات والحسابات المنفصلة عن جذوة الإيمان. يقول الشيخ معلقا على هذا الصخب: “حسب الإيمان أنه يريحك من البحث في أمر مستقبلي، لماذا؟ لأنك ما دمت ستأخذ المسألة بالإيمان فاعلم أن الذي خلق الخلق لابد أن يعطيهم الرزق الذي به قوام حياتهم. لكن هناك فرق بين رزق ضروري، ورزق ترفي تريد أن تترقى فيه.”
أما فيما يتعلق بالمال الزائد عن الحاجة، والذي فتح اليوم باب العداوة والشقاق بين الأهل على مصراعيه، فهو فائض المال الذي كسبه الإنسان من جهده وطاقته. وبما أنه لا يود أن يفارقه فإن عليه أن نفقه فيما ينفعه، وخير ما ينفعه أن يعمل به لآخرته !
إن فلسفة الرزق في الإسلام جديرة بأن تتخذ لها اليوم موقعا حيويا في النقاش الدائر، لتحرير المسلم المعاصر من مخاوف تثيرها التقلبات العالمية في مجالي السياسة والاقتصاد، وتعيد للنفوس ثقتها بأن فوق الأسباب ربا يضع كل شيء في موضعه عن علم وحكمة، مصداقا لقوله تعالى: (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) سورة الملك: 14 .
“إن الآخرة خير من الدنيا، وهم يجمعون المال للدنيا والذنوب للآخرة..”
يتولد عن الفهم الخاطئ لحكمة الله في الأرزاق انحراف سلوكي يجعل من المسلم كائنا دنيويا يعبد شهواته وطموحاته، ويعطل بالتالي مقتضيات السير المتوازن بين حرث الدنيا وحرث الآخرة.
و الراصد لواقعنا اليومي يلمح ذاك الانفصال الحاد بين حضور المسلم داخل بيوت الله، وسلوكه في المتجر أو الإدارة أو غيرها من مرافق المجتمع. إننا نجد أنفسنا للأسف أمام تعبير صارخ عن الفصل بين الوجدان والسلوك، بين لوازم الإيمان ومبررات العراك اليومي تحت مسمى “لقمة العيش”. تلك المبررات التي يلوذ بها المسلم عند انتهاكه لحدود الله، والإقبال على المحرمات، واجتراح الكبائر.
“لابد لنا من الموت، ويعملون عمل أقوام لا يموتون.”
بعض من يشمئزون من ذكر الموت، يربطون الحديث عنه بنزول الفاجعة، وما يليها من مراسيم الدفن وحضور المآتم. أما حين يدور المسلم مع دولاب الحياة اليومية فينبغي تعطيل ذكره حتى لا ينغص لذة العيش، أو يخمد جذوة الطيبات في نفوس المقبلين عليها !
ولعل السبب هنا راجع إلى عدم إدراك الفرق الحاسم بين الموت كنهاية، وهو التمثل السائد للأسف لدى المقبلين على الحياة من منظور التمتع والتهالك المفرط على الملذات، وبين الموت باعتباره نقلة حيوية صوب الخلود الذي يصفه القرآن بالنعيم الأبدي.
أما أسوأ المفارقات التي تسود اليوم أوساط الأسر المسلمة فهي التخويف من الموت، وتنشئة الصغار وفق منظور يستعيد الموت باعتباره مصيرا مشؤوما، بدل كونه حقيقة حاسمة أوصى النبي ﷺ بالإكثار من ذكرها، فكان من الطبيعي أن تتراجع في نفوس النشء قيم التحمل والصمود أمام أدنى مخاطر العيش !