مع التفاؤل الكبير الذي ينعش نفوسنا ويملأ قلوبنا بحرص القيادات التعليمية والتربوية على التغيير والتطوير، تصدمنا تلك الثقافات الفاسدة التي تسللت في غفلة من الزمن، فحلّت في عقول البعض كما تحلّ الفيروسات الخبيثة في الجسد السليم.

كان الغش بكل أشكاله حالة معيبة تبعث على الشعور بالنقص والخجل، الآن هنالك إعلانات صريحة عن مكاتب متخصصة بتقديم الغش، وبكفاءات عالية الجودة، وبأرقام هواتف وعناوين واضحة “نحن مستعدون لكتابة البحوث في شتى التخصصات، فقط اتصلوا بنا”، هكذا بكل جرأة يعرض خدماته للطلاب؛ لا تفكّروا، فنحن نفكّر نيابة عنكم، لا تبحثوا في المصادر والمراجع، ولا تتعرّفوا على مكتبات بلدكم، نحن نكفيكم كل ذلك، لا تتعبوا أنفسكم بالتدريب على الكتابة والصياغة، نحن نكتب عنكم، ونصمم لكم، تفرّغوا للهو والعبث، ونحن نأتيكم بأعلى الدرجات!

هذه ليست حالة نشازاً، بل هي ظاهرة نقرأها في بريدنا الشخصي والرسمي، ونطالعها في مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الصفحات المخصصة للطلاب.

قدّمت لي مجموعة من الطلبة بحثاً مشتركاً، فلم أقبله إلا بشرط مناقشته في قاعة الدرس، كانوا يعرضون وأنا أسألهم، فوجدت أنهم لم يستطيعوا شرح حتى العناوين البارزة، وأحرجوا أمام زملائهم، وعلمت أن أبنائي هؤلاء ما هم إلا ضحية لتلك المكاتب، ولكنني كأستاذ لا أستطيع أن ألاحق كل هذه الخروقات، ولا حتى الإدارة الجامعية ولا وزارة التعليم، إنني أقولها بصراحة: إنها مسؤولية الأجهزة التنفيذية التي عليها أن تلاحق هذا العبث وهذا التخريب، كما تلاحق تجّار المخدّرات، وهي مسؤولية اجتماعية كذلك، فالمجتمع عليه أن يراقب ويتابع ويتعاون مع أجهزة الدولة لمحاصرة هذا الإجرام، وأنا أعرف أن بعض الدول العربية تنظر إلى هذا النوع من الغش على أنه تهديد مباشر لأمنها القومي، ولذلك تبقى أجهزتها الأمنية رهن إشارة مؤسساتها التعليمية في هذا المجال.

وهناك ظاهرة أخرى وصلت حداً لا يمكن السكوت عنه، فقد أصبح من الشائع والمعتاد غياب عدد غير قليل عن موعد الامتحانات، ثم بعد ذلك يأتون كلهم بالإجازات الطبية المختومة بختم المستشفيات والمراكز الصحية! وقد كتبت سابقاً عن زميل لي أنه أعاد الامتحان النهائي لاثني عشر طالباً في مقرر واحد، لأنهم غابوا عن موعد الامتحان، ثم أحضروا جميعهم إجازات طبية رسمية! وأما أنا فقد حضرت عندي طالبة في وقت الامتحان النهائي، وطلبت مني تأجيل الامتحان، لأنها “لم تدرس عدل” فرفضت، فذهبت ولم تمتحن، وفي اليوم الثاني جاءت بإجازة طبية عن يوم أمس!

وقبل أيام جاءتني طالبة، وهي في غاية الأدب والاحترام، تعتذر عن تغيّبها عن الامتحان، وقدّمت لي إجازتها المرضية، فتعاطفت معها، وحمدت الله على سلامتها، فضحكت وقالت: “لا يا دكتور أنا الحمد لله بخير، هذي ورقة على شان الامتحان بس”، وتأكدت حينها أننا أمام ثقافة خطيرة، فالكذب لم يعد عيباً لا عند الطالبة، ولا عند الطبيب الذي تراجعه الطالبة، ولا عند الناس المحيطين بهذا الظاهرة.

يا ناس هؤلاء أبناؤنا وبناتنا، حينما نرسّخ فيهم ثقافة الغش ونساعدهم عملياً عليه فما الذي ننتظره منهم إذا كبروا وتوظّفوا؟!