الأمانة أحد الأعمدة الرئيسة للنظام الأخلاقي في الإسلام، ولأهميتها ربط النبي ﷺ بينها وبين الإيمان، وكان كثيرا ما يعلن عن ذلك في خطبه، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: ” لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ [1]، وتتعدد أنواع الأمانات التي يجب على المسلم أداؤها، نجد إشارة لذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
ومن هذه الأمانات:
أمانة الاختيار : اختيار من يمثلك في الانتخابات المتعددة، فتختار الأمة من أبنائها من يراعي مصالحها ويدافع عن حقوقها ويصون أمنها، فهل يكون اختيارك لصداقة أو قرابة تخالف ما تعلمه من شأن المرشح؟؟، فاختر القوي القادر على الفهم والتصرف، الأمين الذي لا يبيع دينه بدنياه. قوة بلا أمانة يبيع صاحبها الدنيا بمتاع زائل، أمانة بلا قوة لا تساعد صاحبها على الحق ،عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» [2]
أمانة المجلس: قال النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا حدث الرجل حَدِيثا فَالْتَفت، فَهُوَ أَمَانَة» وَفِي بعض الْأَحَادِيث «الْمجَالِس أَمَانَة، وإفشاؤها خِيَانَة».وَقَالَ مَكْحُول: إِذا حَدثَك الرجل بِحَدِيث، ثُمَّ الْتفت هَل يسمعهُ أحد، فقد لزمك كِتْمَانه[3].
التفات من يحدثك بحديث دليل على أنه يريد أن يتأكد من عدم سماع أحد لحديثه، ودليل على أن هذا الحديث أمانة لديك، فلا يصح أن تتحدث به أمام الناس بينما صاحبه يريد أن يحتفظ به.
الأمانة في التجارة : قال النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ».[4]
أمانة البدن: بمنافذ الحس التي خلقها الله تعالى فيه{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36]، فنحافظ على البدن من كل ما يؤذيه؛ من قيادة متهورة للسيارات تؤدي إلى إتلاف عضو من أعضائه، أو إزهاق روح السائق المتهور وأرواح من معه ومن يصطدم بهم، ولنأخذ من صحتا لمرضنا ومن شبابنا لهرمنا، نحميه من كل ما يؤذيه من أمراض نستطيع أن نقي أنفسنا منها، ونحميه بممارسة الرياضة ننوي بها استبقاء نعمة الصحة، واستبقاء القدرة على ممارسة العبادات من صلاة وصيام وحج وعمرة ومعونة للناس .
أمانة الروح: نلبي أشواقها؛ بتهيئة الجو للتفكر والتذكر والعبادة، وتنقيتها مما يعكر صفوها من الآلآم قديمة تمنعها من الاستمتاع بنعم الله تعالى، وتنغص عليها حياتها فتسعى إلى تنغيص حياة الآخرين، وبتقويتها من الهشاشة التي تجعلها تنكسر عند أول اصطدام.
الأمانة بين الزوجين: فقد استأمن ولي الزوجة الزوج عليها؛ بدنا وروحا وعرضا ومالا وأخلاقا، فينبغي عليه أن يقوم بحق هذه الأمانة العظيمة، طاعة لأمر النبي ﷺ حين قال : “فاتقوا الله في النساء”؛ يعني: اتقوا الله في أمر النساء فلا تؤذوهنَّ بالباطل، “فإنكم أخذتموهن بأمانةِ الله”؛ يعني: هنَّ إماءُ الله، فإذا تزوجتموهنَّ فكأنَّ الله أعطاكموهنَّ بالأمانة، فإذا آذيتموهنَّ بالباطل فكأنكم نقضتُم عهدَ الله، وخُنْتُم في أمانة الله)[5]، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها، والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية.
ومن الأمانة في التعامل مع النساء :تعليمهن ما يجب عليهن وما يجب لهن وما لايصح ان يصدر منهن ويكون المعلم قدوة في الالتزم بالحق، هذا التعليم ينفع ساعة الوعظ إذا فكرت الزوجة في النشوز {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ} [النساء: 34] لن تستمع الزوجة للوعظ ما لم يتق الزوج ربه ويعلمها ما تخاف به ربها وتحبه.
ومن الأمانة التي يجب حفظها بين الرجل والمرأة: العلاقة الخاصة بينهما،قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»[6]، (لا فرق بين كشف العورة والنظر إليها أو وصفها للآخرين كأنهم ينظرون إليها)[7] اعتبر الإسلام أن الحديث عن العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة نوع من تضييع الأمانة الذي يعاقب الله تعالى عليه.
يقول الإمام المناوي: “وذلك فى وصف ما يفعله من الجماع وكشف حالها فيه، فإنه من كشف العورة، ولا فرق بين كشف العورة بالنظر أو بالوصف. وأما ذكر المجامعة والخبر عنه على الجملة فغير منكر؛ إذا كان لفائدة ومعنى، كما قال – عليه السلام -: ” إنى لأفعله أنا وهذه “، وقوله: ” هل أعرستم الليلة؟ “. وذكر ذلك لغير فائدة – أيضاً – ليس من مكارم الأخلاق، ولا من حديث أهل المروءات”[8] .
ومن الأمانة بين الزوجين: أن يستأمن الرجل زوجته على عرضه ونسبه وماله، فعلى كل منهما أن يتقي الله في هذه الأمانة، وإن الأيام لكفيلة أن تكشف عن معدن الإنسان، فبعد الشباب والقوة يأتي المرض وكبر السن والضعف، فمن يحافظ على الأمانة وما تتطلبه من رحمة فوق الرحمة وإحسان فوق الإحسان يتناسب مع حالة الضعف التي يمر بها كلا الزوجين أو أحدهما؟؟، وللأسف العميق تجد من يهمل في هذه الأمانة؛ إما تصفية لحسابات قديمة أو دلالة على سوء خلقه حين يستقوي على ضعيف قد أقعده المرض والسن، فتخلو المعاملة من الذوق بل من الحق الواجب، فكم باب من أبواب الرحمة والجنة يغلقه هؤلاء بسوء صنيعهم ؟؟.
أمانة الأولاد: قال رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وسَلَّم : كُلُّ مُسْتَرْعى مَسْؤُولٌ عَمَّا اسْتَرْعَى ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يُسْأَلُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَعَبْدِهِ”[9]. فكما يحفظ أبدانهم بالغذاء الجيد والملبس الفخم، وكما يدفع أثمانا باهظة في مدارسهم، يجب عليه أن يعتني بأخلاقهم لكي يجني هو والمجتمع ثمار أبوته وعطائه.
ولكي يكون لهذه الأخلاق زاد روحي وطريق للتثبيت والدوام، لابد أن يكون هناك رافد من الانتظام في أداء العبادات فرضا وسنة، والنظر إلى هذه العبادات على أساس أنها تقوي الإيمان وتدعم بنيان الأخلاق، ومن رعاية أمانة الأبناء أن يشاركهم همومهم وأفراحهم ليكون أكثر معرفة بطبيعتهم وأقرب إلى قلوبهم، هذا القرب يتيح الفرصة للتواصل وانتقال الأخلاق الحميدة.
أمانة النصيحة: من يطلب النصيحة يفضي إليك بأسراره ويطلب المعونة التي تخرجه من المأزق وترشده إلى أفضل الطرق، وهو كذلك يسلم إليك قياده ثقة في أمانتك وإخلاصك وخبرتك، فعليك أن تبذل وسعك في اكتشاف أفضل الطرق لنجاته ونجاحه.
مصانع الأمانة
تهدف الشريعة الإسلامية – بما جاءت به من تشريعات – إلى إعادة الإنسان إلى الفطرة التي فطره الله تعالى عليها، وإلى ترقية أخلاقه لتصل إلى أعلى مستويات الكمال، وقد أعلن النبي ﷺ أن الغاية من بعثته الشريفة، هي إتمام مكارم الأخلاق حين قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق[10]، ولنذكر بعض الأدوات التي تنمي خلق الأمانة:
1-أداة معرفية تقوم على التأكيد على الارتباط بين الإيمان والأمانة، وأن نقصان الأمانة نقصان من الإيمان،وأن الإيمان والأمانة كلاهما يوفر الأمن بكل أشكاله وصوره، وغيابه يؤدي إلى فساد العمران وتعطل ركب الحضارة والإنتاج، ومن آيات القرآن الكريم التي تبين صفات أصحاب القلوب المطمئنة حين يصاب الناس بالهلع – وهو أشد حالات الخوف – قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } [المؤمنون: 8]
2-مكون سلوكي: حين يكون الأمين في قوله وفعله وحبه نموذجا واضحا في الأسرة والمجتمع، وحين يكون هذا النموذج جذاب لغيره؛ بما يحمل من احترام المجتمع وتقديره، وحين يصر على أمانته في الوقت الذي يتخلى عنها غيره، وحين ينشر هذا الخلق بقوله وفعله.
أد الأمانة لمن أئتمنك ولا تخن من خانك
عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ الْمَكِّيِّ قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ لِفُلَانٍ نَفَقَةَ أَيْتَامٍ كَانَ وَلِيَّهُمْ فَغَالَطُوهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا إِلَيْهِمْ فَأَدْرَكْتُ لَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ مِثْلَيْهَا قَالَ قُلْتُ أَقْبِضُ الْأَلْفَ الَّذِي ذَهَبُوا بِهِ مِنْكَ قَالَ لَا حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ”[11]
(أي لا تعامل الخائن بمعاملته، ولا تقابل خيانته بالخيانة فتكون مثله. ولا يدخل فيه أن يأخذ الرجل مثل حقه من مال الجاحد؛ وأنه استيفاء وليس بعدوان والخيانة عدوان. أقول: الأولي أن ينزل هذا الحديث علي معنى قوله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} [فصلت: 34] يعني إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته، وإن كان ذاك حسناً، بل قابله بالأحسن الذي هو عدم المكافأة والإحسان إليه”[12]
[1] مسند أحمد وقال محققوه حديث حسن
[2] صحيح مسلم
[3] شرح السنة للبغوي
[4] المستدرك على الصحيحين للحاكم
[5] المفاتيح في شرح المصابيح
[6]صحيح مسلم
[7] إكمال المعلم بفوائد مسلم
[8] التنوير شرح الجامع الصغير
[9] مسند أبي عوانة
[10] الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
[11] سنن أبى داود
[12] شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن