كيف يأمن الناس أن تسير حياتهم طبيعية وهم في غواية وضلال مبين؟
كيف يهدأ لهم بال وتستقيم أمورهم أو يريدونها مستقيمة وهم في اعوجاج وبُعد عن الصراط المستقيم؟
كيف يأمن الناس أن يكونوا على الشاكلة التي كان عليها الأمم السابقة الغابرة التي اندثرت وانتهت من الوجود، دون قليل تأمل وتدبر؟
ألم يهلك الله الأولين بسبب كفرهم وجحودهم وعصيانهم ؟
فما الذي تغير وجعل الأمم اللاحقة تأمن ألا يصيبها ما أصاب أولئك الغابرين؟
لاشك أن مرضاً ما أصاب البشرية أو علة تجعلهم على طريق الغابرين يسيرون.
* إنها الغفلة، لا غيرها من علل أو أمراض. الغفلة التي تعيشها البشرية بين حين وآخر بتزيين الشيطان لهم أمورهم، وبث الأمان والاطمئنان في نفوسهم، وهم ربما يكونون قاب قوسين أو أدنى من عذاب مهلك قريب قادم، قد يأتيهم وهم نائمون أو هم في قمة اليقظة. العذاب إن جاء أو نزل، لن يوقفه نوم أو حتى يقظة ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ).

* الأمم اليوم بكل أطيافها الدينية أو العقائدية، تعيش غفلة كاملة الأركان. لم تعد أمم اليوم تفرق عن الأمم الغابرة. هي العقليات تتكرر، والنفسيات كذلك. الأمم السابقة الهالكة غفلت عن دورها في الحياة، وتناست ما لأجله خلقها الله، وكذبت الأنبياء والمرسلين، وانكرت المعجزات المختلفة التي جاء بها الرسل الكرام وهم يرونها ويسمعونها دون حواجز أو سواتر، حتى حق عليهم القول، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
أمم اليوم أو هذا العصر، لا تختلف كثيراً عن أولئك الغابرين. التكذيب والجحود والنكران، فضلاً عن الاعتداء على القيم والفطرة الإنسانية، وزيادة شهوة القتل والنهب وإهلاك الحرث والنسل وغيرها من موبقات ومساوئ الأخلاق. والغرابة أن كلها تزداد مع ازدياد وانتشار العلم وسهولة الحياة، ما ينذر باحتمالية تكرار ما وقع قديماً للأمم الغابرة. فما جدوى علم لا ينفع ولا يمنع من الهلاك نهاية الأمر؟
*من كان يعتقد في قوم عاد وهم أقوى أهل الأرض يومئذ في الجسم والعلم والإمكانات، أن تنتهي حياتهم وحضارتهم وكل ما قضوا وأفنوا أعمارهم في بنائه وتشييده والتفاخر به خلال أسبوع واحد بأيامه ولياليه، حتى صاروا كأعجاز نخل منقعر، بعد أن كانت أجسامهم في الطول والعرض والقوة العضلية ما لا يمكن وصفها وتخيلها، حتى وصل الأمر بهم حيناً أن قالوا ( من أشد منا قوة ) من فرط الثقة بقواهم المختلفة، وثقتهم في الواقع كانت في محلها فعلاً، لكنها ثقة عمياء بعيدة عن الحق.
*ومن كان يعتقد أن قوم ثمود وهم في القوة والإمكانات كقوم عاد، أن تنتهي قصة حياتهم بصيحة واحدة، والتي يقال إنها صوت فاق الحد الذي تستطيع الأذن البشرية تحمله، ومن شدتها رجفت الأرض من تحتهم، فانتهت كل تلكم الحضارة الثمودية في دقائق معدودات ؟

أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون.. الآية الكريمة – كما جاء في التفسير الوسيط – تحذر الناس من الغفلة عن طاعة الله، وتحثهم على التيقظ والاعتبار « فقد خوفهم سبحانه بنزول العذاب بهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة، وهو حال النوم بالليل، وحال الضحى بالنهار، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل فيه باللذات «.
* الآيات نزلت بعد اشتداد مواجهات المشركين في مكة مع الفئة المؤمنة القليلة الصابرة، تقول للنبي الكريم « أفأمن يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله ويجحدون آياته – كما جاء في جامع البيان للطبري – استدراج الله إياهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم «.
الآيات وإن كانت تنبيهاً لأهل مكة، وهم يجحدون بآيات الله ويعادون رسوله الكريم، فهي كذلك تنبيه لكل من يأتي بعدهم إلى يوم الدين. ذلك أن الغفلة أمرها عظيم، ومآلاتها خسران مبين.