لم يخل المجتمع الإسلامي من غير المسلمين  في أي عصر من العصور، ولا عجب فالإسلام لا يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ولا ينهى أتباعه عن العيش مع مخالفيهم في العقيدة والدين، فهم جميعا عباد لله، وليس من لوازم الإيمان القطيعة مع غير المسلمين ورفض العيش المشترك. وعلى هذا بين الشارع في كتابه القواعد التي تحكم علاقة المسلمين بغير المسلمين في ظل المجتمع الإسلامي، ثم جاء الفقهاء وفصلوا تلك القواعد الإجمالية وبينوها، حتى أصبحت الكتب الفقهية لا تخلو من أبواب تتناول الجزية والخراج وأهل الذمة، ورغم هذا لم تزل مسألة وضعية غير المسلمين في التاريخ الإسلامي تلقى انتقادات من بعض المستشرقين والمؤرخين المعاصرين الذين اعتبروا نظام الذمية نظاما تمييزيا، فمن هم أهل الذمة، وما هي حقوقهم وواجباتهم التي كفلها لهم الإسلام، وما حقيقة الاضطهاد الذي تعرضوا له.

أهل الذمة : حقوقهم وواجباتهم

أهل الذمة اصطلاح أطلقه الفقهاء على غير المسلمين المقيمين في المجتمع الإسلامي، وهو  أكثر اتساعا من أهل الكتاب إذ يضم كذلك المجوس والصابئة وغيرهما، وسموا بهذا الاسم لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم  وأموالهم وأصبحوا في ذمة المسلمين، وكانت التقاليد الإٍسلامية تقضي بأن المسلمين إذا أرادوا فتح مصر من الأمصار طلبوا من أهله اعتناق الإسلام فمن آمن به صار مسلما وطبقت عليه أحكام الإسلام ومن لم يؤمن فرضت عليه الجزية، وهي مبلغ مالي معلوم القيمة يدفعه هؤلاء سنويا نظير حمايتهم ويستثنى منهم رجال الدين والنساء والصبيان .

وكان لأهل الذمة في المجتمع الإسلامي واجبات وعليهم حقوق ينبغي تأديتها، أما الواجبات فهي: دفع الجزية، واحترام القرآن والرسول، وعدم القدح في دين الإسلام بأي وسيلة، وألا يصبوا مسلمة بزنا أو نكاح، وألا يحولوا مسلم عن دينه، وألا يعينوا أهل الحرب المعتدين على المسلمين، كما كانت هناك واجبات أخرى مستحبة: كلبس الغيار وشد الزنار، وألا يجاهروا بشرب الخمر وأكل الخنزير ودق النواقيس، وألا تعلوا أبنيتهم فوق أبنية المسلمين[1].

وأما حقوقهم فهي صنفين؛ الأول: حقوق دينية من قبيل: حرية العقيدة وحق ممارسة الشعائر الدينية وهو حق مكفول بقوله تعالى (لا إكراه في الدين) و(لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا  أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ويتفرع من ذلك حق إدارة الشأن الديني الداخلي وانتخاب رجال الدين من دون تدخل الدولة، وحق استخدام اللغات الدينية، والثاني: حقوق  مدنية من مثل: حق العمل والتجارة والضمان الاجتماعي، وحق تولي الوظائف العامة، وحق الحماية الداخلية  والخارجية.

انتقادات استشراقية

وجه كثير من المستشرقين انتقادات إلى نظام الذمية باعتباره نظاما تمييزيا طبقه المسلمون بحق أتباع الديانات الأخرى، ويمكن إيجاز هذه الانتقادات في النقاط التالية:

– أخذ الجزية: نظر كثير من المستشرقين إلى الجزية باعتبارها عقوبة فرضها المسلمون على أهل الذمة لعدم اعتناقهم الإسلام، وهو ادعاء فيه كثير من التحامل لأن الجزية -من الناحية النظرية- لم تكن سوى ضريبة ضئيلة يدفعها غير المسلم نظير تمتعه بالحقوق التي كفلها المجتمع، ولأن هذه الضريبة كان يعفى منها فئات واسعة كرجال الدين والأطفال والنساء وذوي الاعاقة، وهذا المعنى أكده الإمام مالك في الموطأ بقوله: (مضت السنة على أنه لا جزية على نساء أهل الكتاب  ولا على صبيانهم، ولا تؤخذ إلا من الذين بلغوا الحلم)[2].

وأما من حيث الممارسة؛ فقد روى أبو عبيد في كتاب الأموال أن عمر ابن الخطاب أجرى على شيخ منهم من بيت المال وذلك أنه مر به شيخ وهو يسأل على الأبواب، وكان عمر رضي الله عنه يأمر عماله بالتخفيف عنهم فقال : “من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام أو عامين”. ويروى أبو عبيدة جانبا عمليا من جوانب رحمة عمر وشفقته بأهل الذمة حين قدم إليه أحد عماله بأموال الجزية فوجدها كثيرة فقال لعامله: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، فقال: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا، فقال عمر: بلا سوط ولا نوط، فقال : نعم ، فقال عمر الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني[3].

–  ختم الرقاب: ينظر المستشرقون إلى مسألة ختم رقاب غير المسلمين بوصفها عملا تحقيريا، وهم يستندون في ادعائهم إلى ما ذكرته المصادر العربية القديمة من أن عمر بن الخطاب بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى سواد العراق لجمع الجزية وأنهما قالا (ومن لم يأتنا فنختم في رقبته فقد برئت منه الذمة)، وذكر اليعقوبي أنه كانت تختم رقاب أهل الذمة وقت جباية جزية الرءوس ثم تكسر الأختام وتستبدل بشارة تعلق حول الرقبة كدليل على كسر الجزية.

وقد ناقش المؤرخ على حسني الخربوطلي هذا الادعاء فذكر أنها مسألة مؤقتة ولا يمكن تصور استمرارها طوال العام، وأن المسلمين لم يبتدعوها، وإنما كانوا مقلدين لما ابتدعه البيزنطيون من قبلهم، وهي ليست صورة لاضطهاد أو إذلال كما يظن، ولكنها وسيلة لمعرفة وتمييز من أدى الضريبة ومن لم يؤدها في عصر لم يكن عرف الوثائق المكتوبة التي تثبت تأديتها، ويمضي موضحا أن بعض البلدان في عصرنا تتبع هذه الوسيلة في الانتخابات وتفرض على الناخبين ختم أصابعهم بنوع من الأختام لا يزول حتى لا يدلي الناخب بصوته أكثر من مرة[4].

– التمييز في الزي: وهي مسألة ألح عليها المستشرقون في مصنفاتهم معتبرين أنها أهم مظاهر الاضطهاد الإسلامي لأهل الذمة، وهناك تفسيران يمكن سوقهما لفهم الدواعي الحقيقية خلف هذا الإلزام.

الأول قدمه محمد عزة دروزة حين ذكر أن المسلمين في بداية عهدهم لم يفرضوا قيودا في الملبس على أهل الذمة ويستشهد على ذلك بالعهد الذي أعطاه عمر بن الخطاب لنصارى القدس، ويرجح أن التشديد في الزي ظهر متأخرا، وأن وراءه أسبابا تتعلق بمؤازرتهم للروم في حربهم المسلمين، وقيامهم ببعض التمردات في عهد الأمويين، واستغلالهم للأزمات الداخلية التي سادت منذ عهد العباسيين[5].

والثاني ينسب إلى المؤرخ علي حسني الخربوطلي الذي يرى أن تحديد الملابس بغرض التمييز بين أتباع الديانات المختلفة إجراء لا غبار عليه، وبخاصة أننا كنا في وقت مبكر تاريخيا ليس فيه بطاقات تثبت الشخصية وتبين الجنسية والديانة، ومن ثم كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لتحديد ديانة من يرتديها، وإذا كان هذا مظهرا للاضطهاد فقد لحق بالمسلمين أيضا  لأن الفقهاء نصحوا المسلمين بعدم التشبه بغيرهم[6].

وعلى أية حال فإن تعدد المراسيم في التاريخ الإٍسلامي التي تطالب أهل بالتزام الزي الخاص بهم تدفعنا للاستنتاج أن مسألة التقيد بالزي الخاص لم تكن مطلقة وإنما كانت تخف تدريجيا حتى تتلاشى تماما- وهو أمر أشارت إليه كثير من المصادر التاريخية- ومن ثم كانت هناك حاجة لإصدار مراسيم جديدة تعيد الأمور إلى سابق عهدها.


[1] علي حسني الخربوطلي، الإسلام وأهل الذمة، القاهرة: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1969، ص 66.

[2] محمد عزة دروزة، ﺍﻟﻘﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺼﻼﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ : ﺍﻟﺨﺎﺿﻌﻮﻥ ﺍﻭ ﺍﻟﺬﻣﻴﻤﻮﻥ، الكويت: مجلة الوعي الإسلامي، س5، ع 50، ص 12.

[3] أبو عبيد القاسم ابن سلام، كتاب الأموال، الرياض: دار الفضيلة، 2007، ص 100.

[4] على حسني الخربوطلي، المرجع السابق، ص 71-72.

[5] محمد عزة دروزة، المرجع السابق، ص15.

[6] على حسني الخربوطلي، المرجع السابق، ص 85.