يؤكد أندريه سغفريد منذ البداية أن (اللاتين) ليسوا عرقا إذا استعملنا الاصطلاح بمعناه الحقيقي، هناك لغات لاتينية تعبر عن فكر معين وتطابق حضارة كان مهدها البحر المتوسط، شكلتها عدة أعراق وليس عرقا واحدا، وإن كان العرق الإيبيري (سكان اسبانيا والبرتغال) هو أقدم هذه الأعراق وأشملها تمثيلا لخصائص ما يطلق عليه اللاتينيون.
هذا المزيج العرقي عزز تنوعه امتزاج ثقافي حضاري آخر، فالتأثير الروماني الكاثوليكي والتأثير الإغريقي من طريق روما اختلط بهما تأثير الشعوب المتسللة من الشرق (اليونان ـ العرب)، وإذا كانت المنطقة الجغرافية الرئيسة للغة اللاتينية هي منطقة الامبراطورية الرومانية القديمة فإن الحوض الشرقي المتوسط قد عرف شعوبا أخرى مثل الغزو التركي كما عرف الحوض الإفريقي الإسلام و”تسللت التأثيرات التركية إلى اليونان، والتأثيرات العربية إلى اسبانيا، وبالمقابل اتسع نطاق اللتنتة(latinité) لتصل أمريكا المسماة لاتينية”.
إن الروح اللاتينية ـ حسب سغفريد ـ هي التي تميز أوروبا، وبدون تلك الروح تبقى أوروبا بلا هوية، وقد أسهمت عدة عوامل في تكوين سيكولوجية اللاتين منها طبيعة مناخ البحر الأبيض المتوسط والبنية الجغرافية للبيئة المتوسطية والتأثير المباشر لحضارة روما، ويصف أحد الكتاب تأثير هذا المناخ على نفسية الشعوب اللاتينية فيقول:”هواء جاف يمر فوق هذه السهول ويثير الأعصاب إلى أقصى حد، وعلى الرغم من ريح الشمال(Cers) الغربية، فإن الميسترال(Mistral) العنيف والصحي والذي نصب له أغسطس معبدا، والهواء الحار الثقيل المفسد القادم من إفريقيا يلقيان بثقلهما على هذه البلاد، إن جروح السيقان يصعب مداواتها في ناربون” ص39.
وإذا كان المناخ في تلك البلاد يثير الأعصاب فإن طبيعة الجغرافيا شكلت قيم المجتمع اللاتيني، ورغم أن حضارة الأبيض المتوسط موغلة في القدم إلا أن تشكيلات الأسرة والقبيلة ظلت أقوى من الدولة ذاتها، ذلك بأن السهول المنعزلة بعضها عن بعض والمحاطة بالجبال القريبة منها ترسخ مثل هذه القيم الفردية والعشائرية دون روح الأمة والشعب الكبير.
يتسم الشعب اللاتيني ـ حسب سيغفريد ـ بواقعية بارزة ويعكس مفهومهم الخاص للقانون تلك الواقية بجلاء، فبينما يقوم جوهر القانون الإنجليزي على الثقة معبرا عن مفهوم الإنصاف والعدالة، حيث نكتب أقل ما يمكن، إلا أن القانون اللاتيني يقوم على التحرز والواقعية المجردة من دون ادعاء من ناحية الأوهام القائمة على الطبيعة الإنسانية، ويعكس تقنين الملكية هذا التحرز المرتاب، حيث لم يترك شاردة ولا واردة إلا وبينها في العقد المحرر.
ويعقد سغفريد مقارنة بين السمات العامة للشعبين اللاتيني والإنكليزي، فيرى أن الإنسان اللاتيني إنسان واع يسعى قبل كل شيء لإثبات نفسه وينظر إلى الأمور من خلالها، ولذلك فهو مصاب بالزهو والكبرياء والأنفة وحب الظهور، وقد يضحي في سبيل نجاحه الشخصي بنجاح الجماعة، بينما الإنجليزي ـ حسب سغفريد ـ شديد التواضع على المستوى الفردي ولكنه شديد الاعتزاز ببلاده إلى حد عدواني، ويتعاون مع غيره بإخلاص، بالنظر إلى كونه مدنيا بالتقليد المتوارث كما بالغريزة الفطرية.
هذه السمات السالفة الذكر تترك تأثيراتها لا محالة على طبيعة الدول اللاتينية حيث ينتسب الشخص إلى العشيرة قبل انتسابه للوطن، ولذلك لم تنجح الشعوب اللاتينية ـ حسب سغفريد ـ في إرساء قواعد لنظم سياسية قوية لها صفة البقاء “إنها تنتقل من الفوضى إلى الاستبداد من دون أن تجد ولو لمرات قليلة (الحالة الوسطى) التي بلغها ـ في غير مشقة ـ الاسويسريون والإنجليز والهولنديون، وهم ليس لهم من اللاتينية شيء” ص48.
اللاتينيون يعتبرون سلطة الدولة أعلى من الفرد وخارجة عنه، إنها في مخيلاتهم سلطة مفارقة، ولذلك يمكن الاستلاء عليها بأي طريقة حتى ولو كانت السلاح، كما يمكن استخدامها أداة للسيطرة والتسلط، ومن ثم فإن واجب الفرد ـ عند اللاتين ـ هو حماية نفسه منها، فالدولة في نظرهم ليست رحيمة بالضرورة، وهذا يختلف تماما عن تصور الانكلوسكسوني للدولة التي يعتبرها معبرة عن روح الجماعة، كما هي ـ في نظره ـ أداة المواطن وخادمته وهو فوضها سلطاته.
لكن السمات ذاتها تعبر عن نفسها بشكل إيجابي في مجال الإنتاج، فحبه لذاته يدفعه إلى التفاني في العمل من أجل إثبات شخصيته وظهوره على الملإ، كما أنه واسع الحيلة وله قدرة كبيرة على التخلص من المآزق لأن الاستسلام لها يناقض طبيعة الزهو والأنفة التي توجه سلوكه، إنه يريد أن ينجح لأنه ينظر إلى الأمور من زاوية ذاتية، فهو لذلك مستعد للتنازل والمرونة والديبلوماسية لأنه لا يريد أن يفشل، ويدافع في سبيل نجاحه بكل ما يملك حتى ولو اقتضى الأمر الدسيسة والغش.
يتمثل إسهام الحضارة اللاتينية في تقدم الإنسانية في تلك النظرة الخاصة للكون والحياة “والتي تشكل وجها لا يستغنى عنه في حضارتنا، فإننا نحقق بهذه النظرة أرقى ثقافة وأكثرها نزاهة، وفي صورة نوعية ودقيقة يغلب عليها الأدب أكثر مما يغلب عليها العلم” ص52. وشيء آخر يميز الحضارة اللاتينية عن الحضارة الإنجليزية وهو ذلك النظام العجيب الذي يفصل بوعي بين الفكر والعمل ويتيح للفكر أن يقف أمام الواقع ذاته ـ ومن دون توسط من مناخ مكتنف ـ وذلك هو الضمان الأكيد للحرية الفكرية الكاملة، وإذا ما انتزعت اللاتينية من العالم فإنه يفقد بلا شك هذه المقدرة النفيسة” ص52.
يرى سغفريد أن الواقعية الفكرية للروح اللاتينية ضرورية لأوربا كي توازن ما يسميه “الثقل المضاد” للدينامية الانكلوسكسونية في الحدود التي تبتعد فيها هذه الدينامية عن التراث الكلاسيكي، “وفي حال انفصل الغرب الأقصى للعالم الجديد عن هذه الجذور، فإنه سيظل غربيا دون شك، ولكنه لن يستطيع مع الوقت أن يوجه مصيره إلا بطرائق مختلفة عن طرائق الغرب” ص35