تتعالى أصوات الاقتصاديين والسّاسة، وترتفع نداءات التنمويين ورجالات الأعمال في أفريقيا وغيرها من الدول النامية للاهتمام بالمنشآت المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، وتعقد مؤتمرات اقتصادية لتشجيع الحكومات على سنّ قوانين ضرائبية تحفّز وتسهّل إنشاء هذه الشركات والأعمال، كما تزداد مدارسة قضايا هذه المنشآت بغية الوقوف على  التحديات التي تواجهها للحصول على التمويل من البنوك التجارية والاستثمارية والتي تتحاشى تمويلها بدعوى ارتفاع مخاطرها الائتمانية والسوقية، وتقلبات العملات والتضخم في كثير من هذه الدول الأفريقية النامية وغيرها.

 

وفي خضم بحث هذا الملف من هذا الاتجاه وذاك، هناك قضية أخرى مهملة وتكاد تكون غائبة تماما في أروقة النقاشات التنموية ولا تكاد تذكر عند رسم خرائط الازدهار الاقتصادي في أغلب هذه الدول، وهذه القضية تتعلق بإنشاء شركات مساهمة، وأزعم أن احدى أسباب التخلف التّنموي والاقتصادي وخاصة في البنى التحتية وفقدان المصانع وشركات المقاولات وغيرها  هو عدم وجود ثقافة إنشاء الشركات المساهمة لدى غالبية الأفارقة، والتي أصبحت ثقافة منتشرة في أوروبا منذ مئات السنين وهي تزدهر اليوم في الصين وتتنامى في الهند وآسيا الوسطى والصغرى والشرق الأوسط.

ميزة الشركة المساهمة

إن نمط التجارة التقليدية السائدة في القارة السّمراء، وأسلوب إنشاء الشركات الشّخصية المحدودة التي يقدم عليها رجال الأعمال الجدد لا يمكن لوحدها -على رغم أهميتها القصوى للاقتصاد القومي- أن تضمن استمرارية المشاريع والأعمال والمصانع وغيرها، فجميع الأنماط التجارية التقليدية المعروفة قابلة للموت والاندثار بموت أصحابها، إلا الشّركة المساهمة فلا تملكها أحد وإنما تملك نفسها، فهي شخص مستقل، ولها شخصية اعتبارية مستقلة كذلك.

فكما أن ولادتك وموتك لا يؤثر موضوعيا وذاتيا على حياة غيرك ولا على موته لكونكما شخصان مختلفان عن بعضكما، فكذلك فإن موتك أو حزم حقائبك كمساهم من شركة مساهمة لا تنهي الشركة لانها شخص آخر مختلف عنك في شخصك وشخصيتك، فأنت تملك حقا في تلك الشركة ولا تملك الشركة نفسها.

ففي الْيَوْمَ الذي تقرر الانسحاب من الشركة، فعليك ان تأخذ حقك وتترك الشركة تشق طريقها للمستقبل ويحل غيرك مكانك، زد على ذلك أن مثل هذه الشركات تكفل دخول آلاف المستثمرين الكبار والصغار فتوفّر لهم فرصة لاستثمار أموالهم، وتعطيهم مسؤولية محدودة، وتزودهم بإدارة ذات خبرة علمية وعملية منافسة.

مقارنة بين أفريقيا وماليزيا!

إننا نطالب دولنا الأفريقية أن تقتدي بمثيلاتها الأسيوية التي استقلت معها في السيتنات، وأصبحت أسواقها وبورصتها المالية متطورة ومتقدمة، فقد نالت بعض البلدان الأفريقية استقلالها قبل ماليزيا كما هو الشأن في نيجيريا، (1957) غينيا (1958) وبعضها تزامنت معها تماما، مثل السنغال، نيجيريا، مالي، كونغو، كوت ديفوار، كميرون، توغو، مدغسقر، صوماليا، بينين، نيجر، بوركينا فاسو وغيرها من الدول، وذلك كله عام (1960).

وعند اجراء مقارنة بسيطة بين ماليزيا وهذه الدول نجد البون شاسعا، والهوة سحيقة، فبينما نجد سوقا مالية متطورة في ماليزيا والتي تتمثل في بورصة ماليزيا التي أنشأت عام  1964م أي بعد الاستقلال بأربع سنوات والتي تعد احدى أهم خمس وعشرين بورصة مالية في العالم، وتصل حجم رأسمالها السوقية 372 مليار دولار.

وهي بهذا تتفوق على جميع الدول الأفريقية والعربية باستثناء هيئة سوق الأوراق المالية لجوهنسبرغ في جنوب أفريقيا، والتي تصل رأسمالها (995) مليار الدولار،  والبورصة السعودية (التداول) والتي تصل442  مليار دولار.

فالأسواق الأفريقية متخلفة جدا عن الأسواق الماليزية حتى تلك البورصات التي أنشأت قبل البورصة الماليزية، فقد أنشأت البورصة المصرية عام (1883)وحجم سوقها 32 مليار دولار،  النيجرية ( 1960 ) 28 مليار دولار،  الكينية (1954)  17 مليار دولار، كما أن أسواق بعض هذه الدول لم تنشأ إلا بعد استقلالها بعقود مثل الغانية  (1990) الايفوارية (1998) وحجم أسواقها صغيرة ومتخلفة جدا، إلا أنها تبقى أفضل من بعض الدول التي لا توجد فيها بورصات أصلا رغم استقلالها قبل ماليزيا كما هو الشأن في غينيا، أو عدم تعرضها للاستعمار أصلا كما في حال اثتوبيا.

وباستثناء بورصة مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا، والتي توجد على منصة الأولى(833) شركة مدرجة، وعلى الثانية (393) شركة،  ونيجريا (223) شركة، فإن بقية الدول لا تتجاوز الشركات المدرجة لديها مائة شركة، ففي كينيا (64) شركة، وكوت ديفوار (39) شركة،  وغانا (37) شركة، أما في ماليزيا فنجد الشركات المدرجة على منصتها التداولية  أكثر من 900 شركة.

هل لاحظتم الآن كيف توجد في الغرب مئات الشركات والجامعات والمشروعات الكبرى التي تمتدّ أعمارها لمئات السنين، وقد قامت بمشاريع ضخمة في جميع حقول الحياة المختلفة، ولا توجد في بلداننا شركات مرّ عليها عقود، ولم تمت بموت أصحابها ومنشئيها؟!

لقد غادر ستيف جوب الحياة لكن شركة آبل لم تغادر، وقلّص بيل غيت أسهمه في ميكروسوفت لكن الشركة راجت، وطرح مارك زوكيربوغ فيسبوك للاكتتاب العام، فتقلص نفوذه لكن نفوذ فيسبوك ازدادت علوا وعتوا!!! وهكذا توجد في الغرب جامعات عريقة، ومصانع ضخمة، وشركات كبرى كلها تعمل بطريقة المساهمة والاكتتاب، ولذلك فهي مرشحة للبقاء والحيوية لمئات السنين.

عوامل غياب الشركات المساهمة

أعرف ان هناك عوامل كثيرة تحول دون انخراط كثير من أصحاب رؤوس الأموال في مثل هذه الشركات، ومن ذلك مثلا:

1- ان أكثر الأغنياء في دولنا أميون أو لا يتمتّعون إلاّ بأدنى مستوى من التعليم، فإما غني طاغ قاده حظوظه إلى مناجم الذهب والماس، فانقلبت حياته بين عشية وضحاها من أفقر الفقراء إلى أغنى أغنياء المدينة، دون أن يتعلم شيئا عن إدارة الأموال وبناء الشركات، وإما صاحب ثورة حيوانية وزراعية ضخمة موروثة من أبيه وجده، أو تاجر تقليدي يستورد كل شيئ من الصين حتى معجون الأسنان ، أو سياسي  مختلس منتفخ من فلوس الشعب وثروة الأمة.

2-عدم تنفيذ القانون وتطبيقه Lack of law enforcement على المتلاعبين بأموال الناس، والمختلسين لحقوق الشركاء، فأغلب هذه الدول قد توجد فيها قوانين جميلة ورائعة، لكن خالية من التنفيذ فلا تتجاوز الحبر والورق الذي كتبت عليه ، وبالتالي فمن يضمن لأصحاب رؤوس الأموال أن حقوقهم ستكون مصونة، وأن الخونة سيواجهون العدالة وينالهم العقاب الرادع عندما يختلسون أموال الشركة؟

3- عدم وجود بنى تحتية ومنصات تداولية متطورة لإقامة أسواق الأسهم، فهناك أربعون دولة في عالم لا توجد فيها سوق أوراق مالية، منها اثتوبيا، أنغولا، غينيا، ليبيريا ومدغسقر، وحتى الدول الأخرى التي توجد فيها سوق الأسهم فإنها صغيرة الحجم ضعيفة القدرة، فنيجيريا التي هي أكبر اقتصاد أفريقيا لا تتجاوز حجم سوقها 5%.

كما أن مصر التي تأتي سوق أسهمها في المرتبة الثانية في أفريقيا لا تتجاوز 10%  من حجم سوق الأوراق المالية الأفريقية، أما نصيب الأسد فهو لجنوب أفريقيا التي تستحوذ على 75% من سوق الأرواق المالية الأفريقية، والسبب في هذا طبعا واضح وبين، وهو سيطرة البيض الذين عندهم موروث ثقافي قديم في مثل هذا المجال منذ قبل فترة التمييز العنصري إلى ما بعده،  وكذلك وجود عدد ضخم من الشركات الأجنبية الكبرى في جنوب أفريقيا.

إن المشاريع والمنشآت الصغيرة تبقى لها مكانتها الريادية في الاقتصاد الوطني والقومي، لكن الشركات الكبرى الضخمة تبقى لها الكلمة الأخيرة لإنجاز المشاريع العملاقة بأيد وطنية، وإذا أرادت دولنا الأفريقية العبور إلى هذا المسار الصحيح فلا عليها إلا أن تحدث قوانيها، وتكون صارمة في تنفيذها، وتعمل على وضع منصات تداولية متطورة، وقبل ذلك كله، تعمل على تطوير التعليم، وعمل ورشات ودورات استثمارية لتثيقيف الناس على أسلوب ونهج الاستثمار الأمثل والمعاصر.