على وجه التحديد لا يمكن لباحث أن يقر بالموطن الذي نشأت فيه القصة القصيرة؛ وذلك ببساطة لأن الحكي خصيصة إنسانية فهي “حكاية” أو “حدوتة” أو “قصة” كانت دومًا في وجداننا حتى صارت جنسًا أدبيًّا متميزًا ونظَّر النقاد والأدباء لهذا الفن وأصَّلوه..

ويتعلم الطفل الحكي كما يتعلم النطق والمشي والغناء، فالجدة هي أمهر القُصَّاص في حياتنا إلى اليوم، وهي قصاص ذكي يحكي حسب حالة المتلقي، فتكافئنا بالحكايات الرومانسية الخيِّرة أو ترعبنا بالأسطورة الموحشة.

والقصة القصيرة باعتبارها نشاطا إنسانيا فإننا لا يمكن أن نحدد لها موطنا بدقة، وإن كان أهل كل حضارة يتنازعون بأحقيتهم في القصة باعتبار ولادتها من رحمهم، وإذا تجاوزنا الأساطير باعتبارها تمهيدًا للفن القصصي، فإننا نجد أن عالم الحيوان كمادة للحكي، كان اعتمادًا أساسيًّا في قصص الأمم كلها، فكليلة ودمنة الهندية أو الأمثال العربية أو حتى القصص اليونانية والإغريقية كل ذلك مَثَّل الحيوان فيه دورًا رئيسًا.

هل نشأت في الشرق؟

كثير من الباحثين يرون أن القصص الأوربية في عصر نهضة أوروبا تأثرت كثيرا بالأدب الفارسي ومن هذه الأشكال “الفابولا” أحد الأجناس الأدبية الأولى للقصة، وقد ظهرت في فرنسا منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي وحتى أوائل القرن الرابع عشر، وهي أقصوصة شعرية تحمل روح ومعنى الهجاء الاجتماعي.

ومن هؤلاء “جاستون بارى” أستاذ الأدب المقارن الذي يقول عن الفابولا: إنها استمدت عناصرها وروحها من كتاب “كليلة ودمنة” الفارسي الأصل، والذي ترجمه ابن المقفع، وكانت فكرته الأساسية هي الحكم والفلسفات التي تقال على ألسنة الحيوان، وتعتبر الترجمة العربية لـ”ابن المقفع” أساسا مباشرا أخذت عنه الفابولا”.

ومن أمثلة الفابولا الغربية أقصوصة تسمى “اللص الذي اعتنق ضوء القمر” تحكي عن لص يخدعه أحد الأشخاص بأن للقمر سحرا خاصا في نقل الأشخاص دون صوت من مكان إلى آخر، ويصدق اللص الخدعة، ويقع في يد الشرطة، ونجد هذه الأقصوصة نفسها بالكيفية والفكرة والتفاصيل الدقيقة نفسها في كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع.

وللقصة العربية تاريخ طويل، فالأمثال العربية هي “قصص” في إطار محكم، وتذكر المصادر بعض القصص العاطفي القديم كمثال علي البداية المبكرة لظهور القصة القصيرة في التراث العربي، مثل قصة زنوبيا، وقصة المُرَقَّش الأكبر مع أسماء بنت عوف، كما كان لهم قصص تاريخي اسْتَقَوه من أيام العرب وبطولاتهم وأعملوا فيه مخيلاتهم.

وإذ نلحظ بوضوح تسلل القصص إلى ثنايا كتب التراث مثل “التِّبْر المَسْبوك” للغزالي أو “سراج الملوك” للطرطوشي إلا أنها لم تكن إلا قصصا وعظية ما أريدت لذاتها إنما أريدت لأثرها التربوي والتعليمي، كما أنها لم يُفْرَد لها مؤلَّف خاص بالقصص القصيرة، قبل كتاب (الفرج بعد الشدة) لأبي بكر ابن يحيى الصولي وفيه قصص محكمة النسج، قوية العقدة، سعيدة الخاتمة، متنوعة الأغراض.

كان ذلك حتى برع أحد كتاب الطولونيين بمصر (ابن الداية) فألَّف (المكافأة) وهو عبارة عن 71 قصة موزَّعة على ثلاثة أقسام: الأول عن حسن الصنيع، والثاني عن مكافأة الشر بمثله، والثالث حول حسن العُقْبى.

ومن أشبه الأجناس بالقصة القصيرة في أدبنا العربي “المقامة” التي تعتمد على المحسنات اللفظية والبديعية في الأساس، وللمقامات بطل واحد في كافة الأحداث وهو دائمًا يعتمد على الحيلة والذكاء للتخلص من مآزق يضعه المؤلف فيها، والبطل مثل أبي زيد السروجي عند الحريري أو أبي الفتح السكندري عند مؤلِّفه أبي البديع الهمذاني شخصية تجمع بين الدهاء وطيبة القلب وحب الأسفار وهي أقرب إلى الفكاهات الاجتماعية.

بدايات القصة الحديثة تأثرت بالقصص الشرقية

أول لون من القصة عرفته أوروبا في العصر الوسيط كان كتاب (التربية الدينية) ليهودي أندلسي يدعى (موسى سفردي) اعتنق الكاثوليكية 1106م وسَمَّى نفسه (بدرو ألفونسو)، وأغلب الظن أنه كتبها بالعربية ثم ترجمها وهي خليط من كليلة ودمنة والسندباد البحري وغيرهما، وكان هذا هو مَعْبَر أوروبا إلى القصة، وهو جسر عربي واضح المعالم باعتراف نقاد الغرب أنفسهم، وباقتصار القَصّ الأسباني على الوعظ والتربية، نما القص الإيطالي في القرن الرابع عشر داخل حجرة فسيحة في الفاتيكان أطلقوا عليها: “مَصْنع الأكاذيب”، اعتاد أن يتردد عليها العاملون في الفاتيكان للَّهو والتسلية وإطلاق القصص المختلفة عن رجال ونساء الفاتيكان حتى دوَّن أحدهم (بوتشيو) هذه القصص وسماها “الفاشيتيا”..

وفي القرن السادس عشر انتشرت في أسبانيا وإيطاليا وفرنسا قصص الرعاة، وهي قصص تمجِّد الحب العذري وأخلاق الفرسان وحياة البداوة متأثرة بوضوح بقصص العرب (محور الحضارة وموضة العالم آنذاك!)، حتى خبا وهج القصة القديمة في القرن 18 الميلادي وكادت تندثر بتأثير إهمال الأدب في العالم كله والاهتمام بما هو مادي ملموس فحسب.

القصة الحديثة أوروبية خالصة

ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأ انتشار الصحافة وانتشر معها الفن القصصي، ودخول القصة معترك السياسة أعطاها حيوية ومضيًّا كسلاح لا يُفَلّ، ودخلت في الصراع الاجتماعي والديني حتى أصبحت مناضلة دون مقصدها تتنفس بالشكوى والتمرد، وتصارع مع البسطاء قسوة الحياة وغلظتها، ويكفي أن نذكر أسماء ذات اعتبار لندرك كيف أن هذا القرن هو قرن القصة القصيرة:

موباسان – تشيخوف – إدجار آلان بو – جوجول- أوسكار وايد- دوديه – هوفمان.

وملخص القول في هذه القضية ما يؤكده الناقد الأدبي د. عبد المنعم تليمة (الأستاذ بكلية الآداب – جامعة عين شمس بمصر) أن العرب لم يأخذوا القصة الحديثة عن أوربا، فـ(القَصّ) جذوره ممتدة في التراث العربي.. أما القصة القصيرة بشكلها الحديث الذي وصلت إليه فهي نتاج أوربي بلا مراء، ولكن العرب لم يتخلفوا عن ركب القصة القصيرة؛ لأننا أبدعنا في هذا المجال في عصر موازٍ للإبداع الغربي، ودعوى سبق أوربا لنا لا تقوم؛ لأن الفارق الزمني بيننا وبينهم لا يتعدى عشرات من السنين، وهذا -في رأيه- ليس زمنًا طويلاً ولا عصرًا كاملاً.