قال تعالى : { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } الزخرف : 40
إنك لتدهش لتقديم الضمير في هذا النظم الإلهي المحكم العجيب! ” أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ “
فلم يكن التقديم لاختصاص الاستحالة، وإنما لاستحالة الاختصاص!
إذ لايتصور إسماع الأصم لا منه – ﷺ – ولا من غيره!
فلا ينفي عنه على وجه الخصوص استحالة إسماعه الأصم؛ فإنه مستبعد حصوله من كل إنسان، أفتحسب أنك تستطيع ذلك؟
وفي هذا البيان إشارة وتبيان أن الرسول – ﷺ- بلغ الغاية في الدعوة والتبليغ، حتى بلغ به من حرصه محاولة إسماع من لايريد السماع والاهتداء،
وأن المدعوين بلغوا الغاية في الإعراض، وأن هذا البيان الإلهي المحكم بلغ غاية الغايات في التعبير عن ذلك بنظم محكم مبين، يأخذ بتلابيب النفس ويستجمع كل قدراتها النفسية والبيانية لسماعه والتأثر ببيانه!
ويتغلغل في إحكام البيان ومخاطبة النفوس والإبانة عن ذلك إذ يقول : ” أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ” والأصم لايسمع، ويستحيل إسماعه؛ فقد فقد آلة السماع ووسيلتها، ولكنه قد يفهم بوسيلة الإشارة ولغتها، وتصل إليه بعض رموزها ومعانيها؛ فارتقى البيان في سماوات الخطاب بالنفس، والتدرج في إحكام المعنى العجيب!
{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين }
فأردف ذلك بنفي آلة الإبصار وانعدام الهداية عن العُمي” فقال: “أَوۡ تَهۡدِی ٱلۡعُمۡیَ” فأوغل المعنى في استحالة الهداية لمن هذا حاله من كل وجه وحال.
ثم أوغل في المعنى بوصف الانغماس والتمكن في الضلال المبين؛ فقال: ” وَمَن كَانَ فِی ضَلَـٰل مُّبِین” ، فمن كان هذا حاله فلايهتدي بأي حال؛ لذلك ناسب في مقدمة الآية غاية المناسبة في الخطاب؛ تقديم الضمير على وجه اختصاص للاستبعاد والاستحالة.
و هذا غاية البيان، في التعبير عن غاية الحرص على الهداية، والتعبير عن غاية الاستحالة للاستجابة!
وهذه المعاني على نحو هذا البيان، تفهمه الإنسانية جميعا، من خلال معجزة البيان، والبيان ارتبط فهمه وإدراكه بالعقل الإنساني، وهو أخص سمات الإنسانية في مخلوقات الله؛ “خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ، عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ”
لذلك كان القرآن معجزة للإنسانية جميعها، لاللعرب خصوصا، وإنما اختص التنزل باللسان العربي؛ لأنه أقدر الألسنة وأمكنها في التعبير عن المعاني الإنسانية، ويتضح ذلك جليا؛ لو أقيمت دراسات عميقة دقيقة في علم اللغة المقارن للغات الإنسانية.