عن ابن مسعود، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت».[[1]]   

من يوم أن خلق الله الإنسان وجدّ النزاع بين بنيه بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، فكان فيه الحكم البالغة، والنصائح القيّمة، وكان منها ما سار في الناس مسير الأمثال، فبقي على مر الحقب والأجيال، ومن ذلك «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .[[2]]

الحياء من شعب الإيمان، وهو تاج الأخلاق وزينة النفوس: ولذا تواطأت الكتب السماوية على مدحه. لأنه يعصم صاحبه عن ملابسة ما لا ينبغي. يقول المناوي: والحياء انقباض يجده الإنسان في نفسه يحمله على عدم ملابسة ما يعاب به ويستقبح منه ونقيضه التصلف في الأمور”أي التكبر” وعدم المبالاة بما يستقبح ويعاب وكلاهما جبلي ومكتسب، لكن الناس ينقسمون في القدر الحاصل منهما على أقسام فمنهم من جبل على الكثير من الحياء، ومنهم من جبل على القليل ومنهم من جبل على الكثير من التصلف، ومنهم من جبل على القليل ثم إن أهل الكثير من النوعين على مراتب وأهل القليل كذلك، فقد يكثر أهل النوعين حتى يصير نقيضه كالمعدوم، ثم هذا الجبلي سبب في تحصيل المكتسب فمن أخذ نفسه بالحياء واستعمله فاز بالحظ الأوفر ومن تركه فعل ما شاء.[[3]]

 ولله در الشاعر إذ يقول:

يعيش المرء ما استحيا بخيرويبقى العود ما بقي اللحاء.

 وكون هذه الجملة من كلام: (النبوة الأولى) معناه أنه مما اتفق عليه الأنبياء، لأنه جاء في زمن النبوة الأولى وهي عهد آدم واستمر إلى شرعنا ولم ينسخ في ملة من الملل بل ما من نبي إلا وقد ندب إليه وحث عليه ولم يبدل فيما بدل من شرائعهم.

 ففائدة إضافة الكلام إلى النبوة الأولى الإشعار بأن ذلك من نتائج الوحي ثم تطابقت عليه العقول وتلقته جميع الأمم بالقبول؛ قال القاضي ـ (عياض) ـ : معناه أن مما بقي فأدركوه من كلام الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع من اقتراف القبائح والاشتغال بمنهيات الشرع ومستهجنات العقل.

وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أمر بمعنى الخبر أي إذا لم تخش من العار عملت ما شئت لم يردعك عن مواقعة المحرمات رادع، وسيكافئك الله على فعلك ويجازيك على عدم مبالاتك بما حرمه عليك؛ كأنه يقول: ما دمت قد أبيت لزوم الحياء، فأنت أهل لأن يقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه، ويتبين لك فساد حالك.

 فهو توبيخ شديد أو هو للتهديد، أي اصنع ما شئت فسوف ترى عاقبته، أو معنى الجملة على ظاهره وحقيقته، ومعناه إذا كنت في أمورك آمنا من الحياء في فعلها لكونها على وفق الشرع فاصنع منها ما شئت ولا عليك من أحد.

وعلى هذا الحديث مدار الإسلام من حيث إن الفعل إما أن يستحيا منه وهو الحرام والمكروه وخلاف الأولى واجتنابها مشروع، أولا وهو الواجب والمندوب والمباح وفعلها مشروع.

 وكيفما كان فقد أفاد الحديث أن الحياء مما كان مندوبا إليه في الأولين كما أنه محثوث عليه في الآخرين؛ وقد ثبت أنه شعبة من الإيمان أي من حيث كونه باعثا على امتثال المأمور وتجنب المنهي لا من حيث كونه خلقا، فإنه غريزة طبيعية لا يحتاج في كونها شعبة منه إلى قصد؛ وقد ذكر النووي أن قانون الشرع في معنى الحياء لا يحتاج إلى اكتساب ونية فينبغي حمل الحديث على هذا المعنى، فدخل الحديث إذا في جوامع الكلم التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم.[[4]] وقد نظم بعضهم معنى الحديث فقال:

إذا لم تخش عاقبة الليالي  ولم تستح فاصنع ما تشاء

وما من نبي إلاّ وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه، وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ولم يبدل فيما بدل منها؛ وذلك أنه أمر قد علم صوابه وبان فضله واتفقت العقول على حسنه، وما كان هذا صفته لم يجر عليه النسخ والتبديل.[[5]]

قال النووي: إذا أردت فعل شيء فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله وإلا فلا، وعلى هذا مدار الإسلام وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يُستحى من تركه والمنهي عنه الحرام والمكروه يُستحى من فعله؛ وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه، فتضمن الحديث الأحكام الخمسة؛ ومعناه إذا نزع منك الحياء فافعل ما شئت، فإن الله مجازيك عليه؛ وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء، وقيل هو أمر بمعنى الخبر أي من لا يستحي يصنع ما أراد.[[6]]

وقد قال الشعبي رحمه الله : تعاشر الناس فيما بينهم زمانا بالدين والتقوى، ثم رفع ذلك فتعاشروا بالحياء والتذمّم، ثم رفع ذلك، فما يتعاشر الناس إلا بالرغبة والرهبة. وسيجيء ما هو شرّ من ذلك.[[7]] نسأل الله السلامة والعافية.


[1] صحيح البخاري / الحديث رقم: (6120)].

[2] الأدب النبوي (ص: 155)].

[3] فيض القدير (1/ 43).

[4] [فيض القدير (1/ 43)].

[5] [معالم السنن (4/ 109)].

[6] [فتح الباري لابن حجر (10/ 523)].

[7]  العقد الفريد (2/253).