حب الإنسان للمال غريزة، وهذا الحب هو الذي دفع البشر إلى تنميته واستثماره، أو البخل به على أنفسهم والآخرين. وقد كثرت مقالات الناس حول المال وما يمكن أن يحدثه من فارق، حتى قال قائلهم: “يا مال الدنيا أنت والناس حيث كنت”.
ولموقع المال في الدين والحياة، كتب العلماء حول هذه القضية وتناولوها من جوانب عدة، نختار منها شيئاً مما يشغل أرباب الأموال وهو “الاستثمار”، وقد عبر عنه ابن أبي الدنيا بلفظ: “إصلاح المال”.
رسالة “إصلاح المال” وموقعه في الشرع
“إصلاح المال” هو الكتاب الذي نعرض له، والإصلاح رسالة المسلم التي تصاحبه منذ التكليف وتسير معه في كل اتجاه يستطيع أن تصل إليه يده أو صوته أو قلمه، كل ذلك بالحكمة والرحمة وحسب الاستطاعة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ومما يلفت الانتباه أن رجلاً ممن اعتنى بجمع الحديث ونبغ في الوعظ والزهد (ابن أبي الدنيا) يخصص جزءاً من وقته وجهده لجمع ما يتعلق بالمال؛ وذلك رعاية لحق الإسلام الذي اعتنى بهذا الجانب المهم في حياة البشر، وبياناً للخلق كيف يعبدون الله تعالى خلال طلبهم للمال وخلال إنفاقه، فالمال أحد أصدق الاختبارات لعبودية الإنسان.
السياق الاجتماعي والاقتصادي للكتاب
جاء تأليف هذا الكتاب استجابة لظرف دقيق؛ فبعد أن فتح الله تعالى الدنيا على المسلمين، اتسعت الثروات وزاد الرخاء، وتبع ذلك اتساع الشهوات وزيادة الانغماس في الدنيا، وبالتالي البعد قليلاً أو كثيراً عن تحقيق العبودية لله تعالى.
في المقابل، نشأ اتجاه معاكس لتيار الترف وما يصحبه من أمراض اجتماعية وخلقية، وهو اتجاه يدعو إلى الزهد. وقد كان بعض دعاته يغالون في ذلك حتى خرجوا بالزهد عن نطاق الشريعة، ومنهم من كان زهده ملتزماً بالكتاب والسنة وشعاره: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77].
جاء كتاب “إصلاح المال” ممثلاً للوسط الذي يراعي حق الله تعالى وحظ النفس وواجبها نحو المجتمع. والكتاب مع غيره مما كتب قديماً وحديثاً يمثل لبنة في صرح الاقتصاد الإسلامي لا زلنا بحاجة إلى الإضافة عليها.
منهجية الكتاب ومحتواه
يحتوي الكتاب على ما يزيد عن خمسمائة نص رويت بالأسانيد المتصلة بين المؤلف وقائليها، ومنها أشعار وحكم وما توارثته الأمم السابقة مما يتفق مع الشريعة الإسلامية. وأحياناً ينقل أقوالاً دون نسبة ويصدرها بقوله: “وكان يقال”، وهذا يدل على ثراء معرفي على الدعاة والكتاب أن يتحلوا به.
وقد قسّم ابن أبي الدنيا كتابه إلى سبعة عشر باباً، شملت:
- الدعوة إلى الكسب الحلال وفضل المال وإصلاحه وحسن التدبير.
- أهمية أن يكون للمسلم حرفة.
- أفضل التجارات والمذموم منها ومحاولة إنقاص الثمن أثناء الشراء.
- الحديث عن العقارات والضياع وعمل اليد.
- الاقتصاد في استخدام المال والطعام واللباس.
- أبواب للتركات وكثرة المال والفقر.
إصلاح المال: مسؤولية الفرد والمجتمع
يمثل الكتاب رسالة إلى الأفراد يرسم لهم ما يمكنهم عمله لإصلاح أموالهم. وإصلاح المال في ظل ما يشهده العالم قضية كبرى جوانبها متعددة ومتشابكة، يشترك فيها الفرد والمجتمع والدولة والعلماء ومن يحولون الاكتشافات العلمية إلى سلع تفتح بيوتاً وتبني مجداً. ولا يزال للفرد دوره في إصلاح المال، قد يكبر أو يصغر بحسب المتاح من الفرص، أو ما يتيحه الإنسان لنفسه بالحيلة أو بالقوة والانتباه للفرص وعقد الشراكات إلى غير ذلك من أدوات.
نظرة الإسلام للمال وفلسفة الاستخلاف
تهذيباً للغرائز الإنسانية، كانت نظرة الإسلام إلى المال وإلى صاحبه تقوم على أن المال مال الله والعبد مستخلف فيه.
- نصيب الإنسان من الدنيا لا يدل على رضا الله تعالى إذا أعطاه، أو سخطه إذا منعه، بل هو ابتلاء على كل حال.
- تقدير الناس بعضهم لبعض في المجتمع المسلم يكون على أساس التقوى التي تجعل المسلم نافعاً لغيره، وليس بمقدار ما يملك من متاع.
- المال في الإسلام أداة لحماية الحق وأهله من خلال إعداد القوة اللازمة التي توقع الرعب في قلوب الأعداء فيفكرون ألف مرة قبل العدوان.
فضيلة تملك المال الحلال
تعبد الله سبحانه وتعالى المسلمين بعمارة الأرض، وهذه العمارة ينتج عنها مال وثروة وقوة، يستخدمها المسلم فيما يرضي الله تعالى دون بغي. وتعمير الأرض أحد مقاصد الشريعة، ففي توفير الحاجات الأصلية للمسلم وأسرته راحة لنفسه وإتاحة الفرصة للطاعة مع فراغ النفس من شواغل القوت، مما يهيئ فرصة أفضل لتحقيق العبودية وتجنيب النفس مذلة السؤال. كما أن الغنى يعين المسلم على تحقيق عبادة الإحسان إلى الفقراء، فكلما زاد المال عند العبد الصالح اتسعت دائرة من ينتفع به من الأقارب والجيران وزملاء العمل.
موقع المال في حياة الصحابة
أورد ابن أبي الدنيا نصوصاً تدل على ثراء الصحابة، مما يدلل على أن الغنى ليس مذموماً، بل المذموم هو الكسب الحرام والإسراف وحرمان أصحاب الحقوق. كان المال بيد الصحابة -رضوان الله عليهم- يقومون بحقوق الفقراء، فكان زهدهم شرعياً إذ المال في أيديهم لا في قلوبهم. ومع زهدهم فقد تركوا لأولادهم ثروات طائلة؛ ومن الأمثلة ما ورثه أحد أبناء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد باع نصيبه من التركة بعشرة آلاف درهم أو بمائة ألف درهم كما ذكر ذلك ابن أبي الدنيا.
مكافحة الفقر والبطالة في المنهج الإسلامي
ذم الفقر
ترغيباً من الإسلام في اقتناء المال، ذم الإسلام الفقر وبين مساوئه النفسية والاجتماعية؛ فحين تغيب العدالة وينزوي الإيمان يستبد بالإنسان شياطين الإنس والجن وتحيط به الوساوس. وفي استعاذة النبي ﷺ من الفقر مع الكفر في جملة واحدة بيان لفظاعة الفقر وأنه مرتبط بالضعف، فينبغي على العبد أن يترفع عنه.
الحث على العمل والادخار
سعياً لمكافحة الفقر، دعا الإسلام للعمل وحذر من البطالة. ففي العمل تحقيق لعمران الأرض وحيازة للقوت، وهو عمل يرضي الله وينفع الناس. وقد عمل النبي ﷺ والأنبياء من قبله أعمالاً يدوية، مما يرفع من قيمة هذه الأعمال ويدعو المسلمين لتعلم المهن. كما شرع الإسلام الادخار، وقد ادخر النبي ﷺ، وكان السلف يرون أن ذلك سبباً لاطمئنان الإنسان واستقرار حياته وتفرغه للعبادة.
معالجة البطالة
من سبل الإسلام في معالجة البطالة:
- عدم إعطاء الصدقة لمن كان قادراً على العمل.
- التحذير من سؤال الناس.
- بيان الطريق للانتقال من صفوف العاطلين إلى صفوف المنفقين أصحاب اليد العليا. ومهما كان العمل صعباً ومجهداً، فإنه أشرف لصاحبه من مد يده، وجهد العامل خير من انعزال العابد في عبادته وهو من الأمور التي ترضي الله عز وجل.
وسائل إصلاح المال وتنميته
1. الزراعة
رغب الإسلام في الزراعة، فكل زرعة يؤجر صاحبها على كل من استفاد من ظلها وورقها وثمرها، سواء كان إنساناً أو طيراً أو حيواناً. أما النصوص التي وردت تحذر من لزوم الزراعة، فينبغي أن تفهم في سياقها وفي إطار القيم العليا للإسلام التي تحض على العمل. فكل شيء شغل الإنسان عن عبادة الله مذموم، وكل تحول في العلاقة بين المسلم وأدوات كسبه من وسيلة إلى معبود مرفوض، وكل تعلق بالدنيا يلهي عن حماية الحق لابد أن يقيم الإسلام سداً منيعاً بينه وبين الناس.
2. التجارة
بينت السنة فضل التجارة، وأن منها ما يجلب رضا الله ويرفع الدرجة في عليين إذا تحلى التاجر بالصدق والأمانة. ومنها ما يجلب اللعنة، كـ الاحتكار الذي يحرم الناس من سلعة هم بحاجة إليها وهي شحيحة ليرتفع ثمنها. وهذا يثير الأحقاد، وقد توعد النبي ﷺ المحتكر بألوان من العقوبة في الدنيا والآخرة.
الترشيد: الطريق لاستدامة المال
من الأمور التي تعين على إصلاح المال ترشيد التعامل مع الموارد.
- تحريم التبذير: حرم الإسلام التبذير وذم المبذرين وتوعدهم بالفقر ، ومنع طاعة النفس في كل ما تشتهي، وإنفاق المال في غير حق.
- الاقتصاد في المعيشة: هو سبيل الغنى وأحد صفات الأنبياء. ويشمل ذلك الاقتصاد في الطعام، فأسوأ الأوعية التي يملؤها الإنسان هي البطن، والسمنة تعيق الحركة وتحرم لذة العبادة وتقسي القلب، وهي إتلاف للصحة وللمال واستجابة لشهوة مهلكة.
- الاقتصاد في الثياب: كان هدي الصحابة ألا يشتروا جديداً إلا بعد استهلاك القديم، ولم يكونوا يلقونه بل يعيدون استخدامه في العمل المنزلي. ولم يكن هذا بخلًا، فقد كانت لهم أموال كثيرة ينفقونها في الخير، ولكنها الحكمة؛ فإن كان في سعة وسع على نفسه، وإن كان في ضيق أنفق بحسب ما معه.
- كنز الأموال من معوقات إصلاح المال: من ثمار كنز الأموال المرة تعطيل حركة رأس المال، مما يفاقم البطالة، والكانز موعود بعذاب أليم.
خاتمة: نحو قراءة معاصرة
وبعد، فلا يزال الكتاب بحاجة إلى قراءة يجتمع فيها المتخصص في علوم الشريعة والمتخصص في الاقتصاد؛ ليقدما للثقافة الإسلامية منهجاً يمكن السير عليه في “إصلاح المال”، يستند إلى تراثنا الفكري والفقهي الذي تكون عبر مئات السنين من خلال القرآن والسنة وما اختارته العقول المسلمة من تراث الإنسانية.
