تحل علينا هذه الأيام الذكرى المئوية لرحيل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي توفي في العاشر من فبراير عام 1918 بعد عزله ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ورغم مضي قرن على وفاته إلا أنه لم يزل حاضرا بسياساته في المشهد السياسي فمنذ أشهر قليلة رفع المحتجون الأتراك صورا ضخمة للسلطان عبد الحميد أثناء تظاهراتهم الاحتجاجية على قرار الإدارة الأمريكية اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، كما لم يزل حاضرا في النقاشات الأكاديمية إذ صدرت في العقدين الأخيرين عدة مؤلفات تاريخية تركية -كمؤلفات مصطفى أرمغان- حاولت إعادة قراءة الحوادث التاريخية التي شهدها عصره بحياد وانتهي الكثير منها إلى تفكيك الصورة السلبية التي التصقت به.
وعلى خلفية هذه المراجعات الفكرية شرع الأتراك في رد الاعتبار إلى السلطان الذي طالما وصف بأنه “السلطان المستبد”، وصارت أعدادا منهم تحيي ذكراه كل عام بزيارة قبره وتنظيم مسيرات تطوف المدن الكبرى رافعة صوره، وقد اكتست هذه الاحتفالات طابعا رسميا مؤخرا إذ نُظِم في العام الماضي مؤتمرًا لإحياء ذكرى ميلاده افتتحه رئيس البرلمان التركي، وتحتفي بلدية اسطنبول هذا العام بالذكرى المئوية لوفاته بإعادة افتتاح قبره بعد إصلاحه وبتنظيم عدة فعاليات شعبية وأكاديمية.
السلطان عبد الحميد وتحديات عصره
ولد عبد الحميد الثاني في عام 1842 وهو ابن السلطان عبد المجيد صاحب فرمان التنظيمات الخيرية الذي سعى لإصلاح الدولة بإدخال بعض التنظيمات الأوروبية ومنح الرعايا من غير المسلمين حريات دينية، وقد تولى الحكم خلفا لأخيه مراد في 31 أغسطس 1876 فكان السلطان الرابع والثلاثون بين سلاطين آل عثمان.
وجاءت توليته في ظل ظروف عصيبة؛ فقد قتل عمه السلطان عبد العزيز إثر مؤامرة داخلية ثم نودي بأخيه مراد سلطان ولم يكد يمضي في الحكم ثلاثة أشهر حتى قيل أنه جُن وأطيح به، واختير عبد الحميد خلفا له ولم يزل في السادسة والثلاثين من عمره، ويبدو أن صغر سنه أوحى لرجال الباب العالي أنه سيكون طيعا كأسلافه فاشترطوا عليه إعلان العمل بالدستور وتعيين مدحت باشا وهو أحد الإصلاحيين في منصب الصدارة العظمى “رئاسة الوزارة”.
وفي تلك الآونة جابهت الدولة تحديات داخلية وخارجية أبرزها: تمرد الصرب والجبل الأسود وقد بدأ في أواخر عهد عبد العزيز، كذلك كان الوضع في كريت مضطربا ولم يكن في مصلحة الدولة، وانزلقت الدولة بعد أشهر قليلة من توليته إلى مواجهة عسكرية مع روسيا انتهت بالهزيمة، وفي الداخل واجهت الدولة تحديات لا تقل خطورة إذ بلغت الديون العثمانية في عام 1881 حوالي 252 مليون ليرة ومعظمها ديون اقترضها عمه عبد العزيز من بريطانيا وفرنسا، وانتشرت الجمعيات السرية كجمعية “الاتحاد والترقي” التي كان لها فروع في عدد من العواصم الغربية وتأسست جمعيات أخرى تزكي القومية العربية في بلاد الشام [1] ولعب المسيحيون الشوام كنصيف اليازجي وبطرس البستاني دورا كبيرا فيها.
ولمواجهة هذه التحديات لجأ السلطان إلى استراتيجية مؤلفة من ثلاث عناصر:
الأولى، الإفادة من الاختلافات الأوروبية والعمل على تعميقها وهي المسألة التي عول عليها السلطان كثيرا وحاول الإفادة منها في مواجهته المسلحة مع الروس، وكذلك عمل على توثيق الروابط مع الدول الأوروبية التي لم يكن لديها مطامع في أراضي الدولة كألمانيا التي لجأ إليها لتوفير الخبرة التقنية لمشروعات السكك الحديدية.
والثانية، تدعيم الرابطة الإسلامية، لمَّا كانت الدولة تضم أجناسا متعددة من أتراك وعرب وألبان وبلغار ويونانيين وزنوج فقد ارتأى السلطان أن الإسلام وحده هو القادر على توحيد هذه الشعوب وجعلها بمثابة أفراد في أسرة واحدة، ولأجل هذا تبنى السلطان الدعوة إلى “الجامعة الإسلامية” وأنشأ المجلات الناطقة بلغات مختلفة للترويج لها، ومد خطوط السكك الحديدية لتربط الدولة العثمانية بالولايات التابعة لها في الشام والحجاز.
والثالثة، تقليص النفقات الحكومية والقضاء على الرشوة والفساد الإداري الذي التهم ميزانية الدولة، وإلغاء الإقطاعيات الكبيرة في الدولة، كما قلص نفقاته الشخصية وقضى على البذخ في القصور السلطانية، وقد أدت هذه الاجراءات التقشفية إلى خفض الديون العثمانية وفوائدها إلى حوالي النصف تقريبا.
هل كان السلطان مستبدا
كانت الحجة الرئيسة التي استند إليها معارضو السلطان لخلعه هي كونه سلطانا مستبدًا، وهم يستدلون على ذلك بإلغائه الدستور بعد أقل من عامين من إعلانه وتعطيله الحياة النيابية وحكمه البلاد حكما فرديًا مطلقًا طيلة ثلاثين عاما، وهذا القول يتغافل الحقائق التالية: أن الدولة كانت تخوض حربا فعلية على أكثر من جبهة وجميع الدول في مثل هذه الحالات تلجأ إلى تدابير استثنائية حفاظًا على كيان الدولة وأمنها العام، وأن مجلس المبعوثان -البرلمان العثماني- قد ارتكب خطأ فادحا برفضه مقررات مؤتمر الاستانة باعتبارها “اقتراحات مزرية ومخلة بشرف الدولة” فلم تجد الدولة بدا من خوض غمار حرب مع روسيا تكبدت خلالها هزيمة عسكرية قاسية وأفقدتها أراضي شاسعة قدرت بنحو ثلث مساحة الدولة[2]، يضاف لذلك اقتناع السلطان بأن التوسع في منح الحريات لم يعد على الدولة بأي منفعة فتجربة والده في إجراء التنظيمات الخيرية أسفرت عن استقواء الأقليات الدينية في الشام والبلقان وكانت السبيل الذي تسلل من خلاله النفوذ الأجنبي إلى هذه المناطق، لذلك كان السلطان ميالا للحكم الفردي الذي يمكنه من فرض سطوة الدولة وملاحقة المتمردين.
ورغم ما عرف عن السلطان من ميل للحكم الفردي وتقليص لمساحة الحريات العامة والفردية، فإننا لا نذهب إلى القول أنه كان مستبدا غاشمًا ونستدل على ذلك بشاهدين:
الأول تلك الرسائل التي رفعت إليه من الكتاب والمصلحين من كافة أنحاء الدولة، وبعضها حمل بشدة على سياسة الدولة الداخلية كتلك التي رفعها شبلي شميل اللبناني إلى السلطان العثماني في عام 1896 تحت عنوان شكوى وآمال[3] ورغم الانتقادات التي بلغت حد التجاوز لم يصب الدكتور شميل أذى ولم يتم اعتقاله أو ملاحقته، وليس هذا فحسب فقد كان السلطان حريصا على مشاورة رجال الإصلاح الإسلامي واستطلاع آراؤهم بشأن كيفية تجاوز الدولة لمأزقها، وقد عثر على بضع رسائل في هذا الصدد احداها تنسب إلى الشيخ محمد بيرم الخامس[4].
والثاني اتساع المعارف في عهده، فقد أنشأ السلطان عددا كبيرا من المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وأنشأ أول جامعة علمية في اسطنبول عام 1900 وشملت أربع كليات (العلوم الدينية، الكلية الرياضية، الكلية الطبيعية، الكلية الأدبية)، كما أنشأ ثمانية عشر مدرسة عليا متخصصة في الهندسة والبيطرة والقانون والتجارة، ومن جهة أخرى شهدت المطبوعات في عصره ازدهارا كبيرا حتى أن الاحصائيات تشير إلى تضاعف عدد الكتب المطبوعة في عصره في العلوم الدينية والمعارف الحديثة، وهذا الاتساع الكبير لا يتسق مع فكرة الاستبداد الذي هو قرين الجهل كما يؤكد الكواكبي وغيره من منظري الاستبداد.
وبالجملة، كان السلطان عبد الحميد آخر سلاطين الدولة العثمانية الأقوياء وقد استطاع أن يرجئ انهيارها لقرابة ثلث قرن تقريبا رغم أن اللحظة التاريخية التي وصل خلالها كانت تنبئ باقتراب هذا السقوط.
[1] محمد حرب، مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني، دمشق: دار الفكر، 1991، ص45-48.
[2] محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، القاهرة: مكتبة الآداب، 2009، ص248.
[3] شبلي شميل، شكوى وآمال مرفوعة إلى جلالة السلطان عبد الحميد خان، القاهرة: 1896.
[4] محمد بيرم، ملاحظات سياسية عن التنظيمات اللازمة للدولة العلية، القاهرة: بدون بيانات.