تعدُّ آية “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” من أعظم الكلمات التي يرددها المسلمون عند المصائب، وهي تعبير عن التسليم لأمر الله وقضائه، واعتراف بأن كل شيء في هذا الكون ملك لله، وأن كل إنسان سيعود إلى الله ليحاسب على أعماله. هذه العبارة التي جاءت في القرآن والسنة النبوية، تحمل في طياتها الكثير من المعاني الروحانية والفقهية، وتُعد ملجأً للصبر والرضا في أوقات المحن. في هذا المقال سنستعرض ذكر هذه العبارة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ونوضح متى تُقال، وفضلها في حياة المسلم.

قال تعالى: { وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا {إنّا لله وإنّا إليه راجعون } (البقرة : 155 -156)

معنى “إنّا لله وإنّا إليه راجعون”

جاء في التفسير الوسيط : الخطاب في قوله ( وَبَشِّرِ ) للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من تتأتى منه البشارة.

والجملة عطف على (لنبلونكم) عطف المضمون على المضمون أي: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر.

والمصيبة اسم فاعل من الإصابة، والمراد بها الآلام الداخلة على النفس بسبب ما ينالها من الشدائد والمحن.

وراجِعُونَ من الرجوع بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه، يقال: رجعت الدار إلى فلان إذا ملكها مرة ثانية، وهو نظير العود والمصير.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون .. فهم وتأمل
وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون

والمعنى : وبشر يا محمد بالرحمة العظيمة والإحسان الجزيل، أولئك الصابرين الذين من صفاتهم أنهم إذا نزلت بهم مصيبة، في أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم، أو غير ذلك، قالوا: بألسنتهم وقلوبهم على سبيل التسليم المطلق لقضاء الله والرضا بقدره إِنَّا لِلَّهِ أى: إنا لله ملكا وعبودية، والمالك يتصرف في ملكه ويقلبه من حال إلى حال كيف يشاء، «وإنا إليه راجعون» أي: وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التي ليس في استطاعتنا دفعها.

فقولهم : ( إِنَّا لِلَّهِ ) إقرار بالعبودية والملكية لله رب العالمين. وقولهم (وإنا إليه راجعون) إقرار بصحة البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.

وليست هذه البشارة موجهة إلى الذين يقولون بألسنتهم هذا القول مع الجزع وعدم الرضا بالقضاء والقدر، وإنما هذه البشارة موجهة إلى الذين يتلقون المصائب بالسكينة والتسليم لقضاء الله لأول حلولها، يشير إلى هذا قوله- تعالى-: { الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} قالُوا فإنه يدل على أنهم يقولون ذلك وقت الإصابة “ويصرح بهذا قوله صلّى الله عليه وسلّم «الصبر عند الصدمة الأولى”.

وهذه الجملة الكريمة وهي قوله- تعالى: { الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ } إلخ  وصف كريم لأولئك الصابرين، لأنها أفادت أن صبرهم أكمل الصبر، إذ هو صبر مقترن ببصيرة مستنيرة جعلتهم يقرون عن عقيدة صادقة أنهم ملك لله يتصرف فيهم كيف يشاء، ومن ربط نفسه بعقيدة أنه ملك لله وأن المرجع إليه، يكون بذلك قد هيأها للصبر الجميل عند كل مصيبة تفاجئه.

ملجأ لذوي المصائب وعصمة للممتحنين

قال القرطبي: جعل الله هذه الكلمات وهي قوله- تعالى: { إنا لله وإنا إليه راجعون } ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله { إنا لله} توحيد واقرار بالعبودية والملك وقوله ( وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له.

قال سعيد بن جبير: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: { يا أسفى على يوسف} . هذا، ولا يتنافى مع الصبر ما يكون من الحزن عند حصول المصيبة، فقد ورد في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى عند موت ابنه إبراهيم وقال: “العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون” .

وإنما الذي ينافيه ويؤاخذ الإنسان عليه، الجزع المفضى إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من بأساء أو ضراء، أو إلى فعل ما حرمه الإسلام من نحو النياحة وشق الجيوب، ولطم الخدود.

وجاء في تفسير ابن رجب الحنبلي : الرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه، مستحبٌّ، والصبرُ واجبٌ على المؤمنِ حتمٌ.وفي الصَّبرِ خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ اللَّه أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجرِ.قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: { إِنَّمَا يُوَفَى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

وقال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } .

قال الحسنُ: الرِّضا عزيزٌ، ولكنَّ الصبر معولُ المؤمنِ.والفرقُ بين الرِّضا والصبرِ: أن الصَّبرَ: كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخطِ مع وجودِ الألم، وتمنِّي زوالِ ذلكَ، وكفُّ الجوارح عن العملِ: بمقتضَى الجزع ، والرِّضا : انشراحُ الصدرِ وسعتُهُ بالقضاءِ، وترك تمنَي زوالِ ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسَ بالألمِ، لكنَّ الرِّضا يخفِّفُه، لما يباشر القلبَ من رَوح اليقينِ والمعرفةِ، وإذا قوِيَ الرِّضا، فقد يزيلُ الإحساسَ بالألم بالكليّة.

وأورد ابن جزي الغرناطي في كتابه التسهيل لعلوم التنزيل فائدة عن ذكر الصبر في أكثر من سبعين موضعاً في القرآن ، وذلك لعظمة موقعه في الدين. قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلاّ الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

بماذا وعد الله الصابرين؟

أولها: المحبة، قال: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ } [آل عمران: 146].

والثاني: النصر قال: { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ } [البقرة: 153].

والثالث: غرفات الجنة. قال: { يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ} [الفرقان: 75].

والرابع: الأجر الجزيل قال: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، ففيها البشارة، قال: { وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ } [البقرة: 155] والصلاة والرحمة والهداية {أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُون}

الصابرون على أربعة أوجه

  1. صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع.
  2. وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر، وعدم الطغيان، وعدم التكبر بها.
  3. وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها.
  4. وصبر عن المعاصي بكف النفس عنها، وفوق الصبر التسليم؛ وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهراً، وترك الكراهه باطناً، وفوق التسليم: الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعله المحبوب محبوب.

أحاديث نبوية في أجر الاسترجاع

وقد ورد في ثواب الاسترجاع، وهو قول {إنا لله وإنا إليه راجعون} عند المصائب أحاديث كثيرة.

فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله ، فقال: لقد سمعت من رسول الله قولا سررت به. قال: “لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا فعل ذلك به”.

وفي صحيح مسلم، عنها أنها قالت: سمعت رسول الله يقول: “ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله من مصيبته، وأخلف له خيرا منها” قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله ، فأخلف الله لي خيرا منه: رسول الله .

روى الإمام أحمد: عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي، فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة -يعني الخولاني -فأخرجني، وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله : “قال الله:يا ملك الموت، قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم. قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنو له بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد”.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون .. فهم وتأمل
القرآن الكريم

ذكر “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” في القرآن

وردت عبارة “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” في القرآن الكريم في سياق التوجيه إلى الصبر عند المصائب. ففي سورة البقرة، قال الله تعالى:
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155-157).
هذا النص القرآني يعبر عن كيفية تلقي المؤمن للمصيبة. حينما يقول المؤمن “إنّا لله وإنّا إليه راجعون”، فإنه يعلن استسلامه التام لقدر الله، ويؤكد إيمانه بأن الله هو المالك الحقيقي للكون، وأن كل ما يحدث هو بإرادته. هذا التسليم يعقبه بشرى من الله بالرحمة والهداية، وهو وعد إلهي للصابرين الذين يرضون بقضائه وقدره.

ذكر “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” في السنة النبوية

لم تقتصر هذه الآية على القرآن الكريم فقط، بل وردت كذلك في السنة النبوية. عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله يقول:
“ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول:إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله من مصيبته وأخلف له خيرًا منها” (رواه مسلم).
هذا الحديث الشريف يؤكد على عظمة الصبر عند المصيبة، إذ أن الاسترجاع وقول “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” يمنح المؤمن التعزية ويجلب له الأجر، بل ويمنحه الله من الخير ما يعوضه عن المصيبة التي أصابته. وتجلى ذلك في قصة أم سلمة، التي عوضها الله بزواجها من النبي بعد وفاة زوجها أبو سلمة.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون .. فهم وتأمل
وبشر الصابرين

متى تقال “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”؟

تقال عبارة “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” في كل وقت يصاب فيه الإنسان بمصيبة، سواء كانت فقدان شخص عزيز أو وقوع حادثة مؤلمة أو أي نوع من البلايا والشدائد. فهذه العبارة ليست مقتصرة فقط على الموت، بل تشمل كل المصائب الدنيوية.
يقول العلماء إنه ينبغي للمسلم أن يبادر بقول هذه العبارة فور وقوع المصيبة، كما أشار النبي في حديثه: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى” (رواه البخاري). بمعنى أن الاسترجاع والصبر في اللحظات الأولى للمصيبة هو الذي يؤجر عليه المسلم أكثر من أي وقت لاحق.

فضل “إنّا لله وإنّا إليه راجعون”

تحمل هذه العبارة في طياتها فضلًا عظيمًا. فهي توحيد لله، واعتراف بملكيته التامة لكل شيء، وإقرار بأن العبد سيعود إلى الله ليحاسب على أعماله.
قال القرطبي في تفسيره لهذه العبارة: “جعل الله هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة”. فهي تعبير عن الرضا بحكم الله وقدره، وتسليم بأن كل شيء يحدث في هذه الدنيا هو بتقدير إلهي حكيم.
وقول “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” عند المصيبة إشارة إلى عظم الأجر الذي يناله المسلم إذا استرجع وصبر على قدر الله.

خلاصة

ختامًا، فإن عبارة “إنّا لله وإنّا إليه راجعون” ليست مجرد كلمات تردد في لحظات المصيبة، بل هي تعبير عن العقيدة الراسخة في قلب المسلم، بأنه مملوك لله، وأن كل ما في هذه الدنيا هو بتقدير الله وحكمه. كما أنها ملجأ للمؤمن في أوقات البلاء، ودليل على الرضا والصبر. وردت هذه العبارة في القرآن الكريم والسنة النبوية لتكون نبراسًا يهتدي به المسلم في مواجهة الأزمات، وهي وعد من الله بالبشرى والهداية والرحمة لمن يقولها بإخلاص ويصبر على ما أصابه.