في السنة السادسة للهجرة قصد الرسول ﷺ ومعه نحو ألف وأربعمائة من الصحابة مكة المكرمة في حملة سلمية دينية خالصة، القصد منها أداء شعائر العمرة كما كانت تفعل العرب ، غير أن قريشا حالت دون ذلك ، ودخلت في مفاوضات مع المسلمين أسفرت عن إبرام معاهدة سلام مؤقتة مدّتها عشر سنوات ، تعرف باسم ” صلح الحديبية ” وهو المكان الذي تمّ فيه الاتفاق بين الطرفين.
لم يدخل المسلمون مكة المكرمة للعمرة كما كانوا يأملون ، وتضمّنت المعاهدة بنودا هي – في ظاهرها – في غاية الإجحاف بالنسبة للطرف الإسلامي ، فأحاط ذلك الصحابة بجوّ من الكآبة والمرارة ، وعندما قفلوا راجعين إلى المدينة المنوّرة نزلت سورة ” الفتح ” ، كان مطلعها أمرا عجبا في حينها ، فقد سمع الصحابة آيتين تقولان:
– { إنا فتحنا لك فتحا مبينا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } (سورة الفتح 1-2 ).
فالله تعالى يسمي صلح الحديبية فتحا، بل فتحا مبينا ، ويعد الرسول ﷺ بنصر عزيز ، وبين الفتح والنصر مغفرة سابغة للذنوب وإتمام للنعمة وهداية للهدي الأكمل.
لماذا هو فتح بل و ” فتح مبين ” أي واضح المعالم جليّ المعاني؟ هذه الدقة في البيان الإلهي المعجز تشير إلى أوّل ثغرة أحدثها المسلمون في الطوق المضروب عليهم من قبل قريش ومن والاها من القبائل العربية ، فقبل وقت وجيز من هذا الصلح كان المسلمون محاصرين في المدينة المنوّرة من طرف الأحزاب ، يخاف الواحد منهم أن يخرج لقضاء حاجته ، وها هم اليوم كيان تعترف به قريش وتتفاوض معه وتبرم معه معاهدة … وهذا من معاني الفتح.
وهذا التراجع القرشي عن الصلف والأحادية ستتحدّث به العرب فيكبر شأن الإسلام والمسلمين في أعينهم ، و تكمن أهمّ مدلولات الفتح – في تقديرنا – في الهدنة المتّفق عليها وسكوت السلاح واستتباب الأمن في الجزيرة العربية ، فقد أتاح ذلك للدعوة أن تنطلق فتخاطب العقول وتلامس القلوب وتعزّز صف الإيمان ، وأيّ فتح أعظم من زوال الخوف والتهديد وإشاعة الحرية وإعطاء الفرصة للحوار والنقاش ؟
إنّه بالفعل ” فتح مبين ” لأن المناخ الذي أنشأه الصلح هو أنسب شيء للدعوة الإسلامية التي تعتمد الحجة والإقناع لتفتح القلوب قبل الأرض ، وقد ذكر المؤرخون أن عدد من دخلوا الإسلام في مدة عامين التي سرى فيها مفعول الصلح كان أكبر من إجمالي من اعتنقوه منذ البعثة النبوية … لقد أحدثت ” الحديبية ” ثغرة واضحة في الجدار فأبصر الناس النور الوضيء وأقبلوا عليه طوعا بغير إكراه مهما كان .
وكان من بركات الصلح أن أسلم اثنان من أعمدة قريش هما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وحسن إسلامهما، وكان ذلك مددا ربانيا قويا لدين الله تعالى وللصف الإسلامي، وكان لهما بعد ذلك من العطاء في سبيل الله تعالى ما لا يخفى على أحد.
ومن معاني هذا الفتح أيضا تفرّغ الرسول ﷺ للجبهة الداخلية التي طالما لغّمها اليهود بالدسائس وأنواع التآمر والخيانة ، كان آخرها تحالفهم مع الأحزاب – العدوّ الخارجي – رغم أنهم مواطنون بأتمّ معنى الكلمة بموجب وثيقة المدينة المنورة ، فقد أجلاهم النبي ﷺ من خيبر ، فدرأ بذلك خطرهم ووضع حدّا لعدوانيتهم المتواصلة ، وقد فتّ هذا الإجراء النبوي الحكيم في عضد المنافقين – حلفاء اليهود التقليديين – فخفت صوتهم في المدينة ونضاءل شأنهم.
ومن معاني هذا الفتح في وقوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) أن صار للمسلمين سرايا إلى مناطق بعيدة من الجزيرة كاليمن ونجد والبلقاء ، وأصبح الرسول ﷺ يستقبل وفود العرب من مختلف أنحاء الجزيرة ، وهذا ما لم يكن متيسّرا قبل الحديبية .
فهو إذن فتح حقيقي باهر ساقه الله للمؤمنين بين يدي النصر النهائي المرتقب ، لهذا تكرّر لفظه ثلاث مرّات في نفس السورة :
– { إنا فتحنا لك فتحا مبينا }
– { فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا }
– { فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا }
ماذا نتعلّم من هذا ” الفتح ” الذي افتتحت به السورة وتوسّطها وورد في نهايتها ؟
إنّه محمّل بمنهج تربوي كفيل بإرشاد الدعاة والعاملين للإسلام إلى أفضل طرق الدعوة بانتهاج فقه العافية وبسط أدبياته ومعانيه ونشره على أوسع نطاق ممكن لتطرق الحجّة البالغة الآذان الموصدة وتقرع أبواب القلوب شرقا وغربا ، تناقش وتحاور وتسوق الدلائل وتحبّب للناس دين الله الحقّ ،وهذا يحتاج إلى رسوخ كرسوخ الصحابة رضي الله عنهم وفهم كفهمهم الواثق الدقيق، والمسلمون اليوم – خاصّة – في أمسّ الحاجة إلى منهج ” الفتح المبين “وإحداث نقلة نوعية تشيع الحرية وتفتح للدعوة آفاقا محلية وعالمية رحبة تبلغ فيها حقائق الإسلام ما بلغ الليل والنهار عبر الوسائل التقنية الحديثة التي تفتح للدعوة أبواب العقول والبيوت والمنتديات والمواقع والجرائد والفضائيات وغيرها .
كلّ هذا ليعلم كل ذي عقل أن مهمة المسلمين ليست قتل الآخرين ولا تعريض أنفسهم للقتل من دون لزوم إنما هي بيان محاسن الإسلام الروحية المدنية والمساهمة بها في إنقاذ البشرية من الضلال ومن المخاطر المحدقة بها لبعدها عن قيم الحق والخير والعدل والمساواة ، وليعلم كل ذي عقل أيضا أن الإسلام ليس انقلابا سياسيا أو عسكريا بل هو انقلاب عقلي وتربية طويلة تفجّر طاقات البشر الخيّرة وتضع الضوابط الأخلاقية الضرورية لمنع الانفلات والاعتداء والطغيان.
لا يخفى على أحد أن المسلمين اليوم ضحية عدوان متعدّد الأوجه تتفنّن فيه الأنظمة السياسية والإعلامية الغربية لهضم حقوقهم وتشويه صورتهم ورهن مستقبلهم ، فقط لأنّهم يحرصون على تميّزهم الديني ويرفضون الانصهار في بوتقة العولمة المادية الطاغية ، لكن لا حيلة لهؤلاء المسلمين سوى اعتماد المنهج الدعوي الذي يمكّنهم من تبليغ صوت الإسلام وصورته الحقيقية الناصعة المفعمة بحبّ الخير للإنسانية قاطبة والرغبة في التعاون من أجل معاني الحقّ والأخلاق والرقي ّ المادي والسموّ الروحي ، وهذا هو الفتح المبين الذي نرجو أن يتكرّر بشكل معاصر يستصحب شحنات الفتح الأول.
إن الفتح ضدّ الإغلاق ، فكأنّه فرصة سانحة ثمينة لانطلاق الناس والعقول والكفاءات من أغلالها إلى رحابة السياحة الفكرية والتفاعل الإيجابي ، أمّا النصر فضد الهزيمة ، ولن يتحقق إلا بعد الفتح ، تماما كما أشار مطلع سورة ” الفتح.
إنها منهجية واضحة لن تخطئ نتائجها بإذن الله تعالى ، ففتح مكّة وتحويلها من عاصمة للشرك إلى عاصمة للتوحيد هو النصر والفتح الأكبر ولم يحصل إلاّ بعد أن آتى فتح الحديبية أكله.