(يا أيّها النبيّ قُلْ لأزواجكَ إنْ كنتنّ تُردنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها فتعالينَ أمتّعْكنّ وأسرّحْكنّ سراحًا جميلاً. وإنْ كنتنّ تُردْنَ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ فإنّ اللهَ أعدّ للمُحسناتِ منكنّ أجرًا عظيمًا) الأحزاب 28-29.
لم يقل: إنْ كنتنّ تردنَ الحياةَ الدنيا أمتعكنّ وأسرحكنّ.
قال الألوسي:
«(فتعالينَ) أي: أقبلنَ بإرادتكنّ واختياركنّ لإحدى الخصلتين، كما يقال: أقبلَ يخاصمني، وذهب يكلمني، وقام يهددني.
وأصل: (تعالَ) أمر بالصعود لمكان عال، ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقًا. والمراد ها هنا ما سمعت.
وقال الراغب: قال بعضهم: إن أصله من العلوّ، وهو ارتفاع المنزلة، فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة، كقولك: افعل كذا غير صاغر، تشريفًا للمقول له. وهذا المعنى غير مراد هنا، كما لا يخفى».
لم يقل:
أعدّ لكنّ أجرًا عظيمًا.
إظهار بعد إضمار.
أقوال المفسرين
البغوي: « سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي ﷺ سألنه شيئًا من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فهجرهن رسول الله ﷺ، وآلى أن لا يقربهن شهرًا، ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا: ما شأنه؟ وكانوا يقولون: طلق رسول الله ﷺ نساءه! فقال عمر: لأعلمنّ لكم شأنه، قال: فدخلتُ على رسول الله ﷺ فقلتُ: يا رسول الله أطلّقتهنّ؟ قال: لا. قلتُ: يا رسول الله إني دخلتُ المسجد، والمسلمون يقولون: طلّق رسول الله ﷺ نساءه! أفأنزل فأخبرهم أنكَ لم تطلّقهنّ؟ قال: نعم إنْ شئتَ. فقمتُ على باب المسجد، وناديتُ بأعلى صوتي: لم يطلّق رسول الله ﷺ نساءه»!
القرطبي: « قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدّم من المنع من إيذاء النبيّ ﷺ، وكان قد تأذّى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئًا من عرض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة (…). فأمر ﷺ أن يخيّر نساءه فاخترنه.
وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبيّ ﷺ بين أن يكون نبيًا ملكًا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيًا مسكينًا، فشاور جبريل، فأشار عليه بالمسكنة فاختارها، فلمّا اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخيّر زوجاته، فربما كان فيهنّ مَن يكره المقام معه على الشدّة تنزيهًا له (…).
روى البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم، عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن رسول الله ﷺ، فوجد الناس جلوسًا ببابه، لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي ﷺ جالسًا حوله نساؤه واجمًا ساكتًا! فقال: والله لأقولنّ شيئًا يضحك رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها فوجأتُ عنقها، فضحك رسول الله ﷺ وقال: هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة! فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألنَ رسول الله ﷺ ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأل رسول الله ﷺ شيئًا أبدًا ليس عنده. ثم اعتزلهنّ شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلتْ عليه هذه الآية:(يا أيّها النبي قلْ لأزواجك) حتى بلغ (للمحسنات منكنّ أجرًا عظيمًا).
قال: فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحبّ ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالتْ: أفيكَ يا رسول الله أستشير أبويّ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تُخبر أمرأة من نسائك بالذي قلتُ. قال: لا تسألني امرأة منهنّ إلا أخبرتُها، إنّ الله لم يبعثني مُعنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني مُعلمًا مُيسرًا (…).
قال العلماء: وأما أمر النبي ﷺ عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبّها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه! ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه».
أبو حيان: « سبب نزولها أن أزواجه ﷺ، تغايرنَ وأردنَ زيادة في كسوة ونفقة، فنزلت.
ولما نصر الله نبيّه وفرّق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظنّ أزواجه أنه اختصّ بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدنَ حوله وقلنَ: يا رسول الله، بناتُ كسرى وقيصر في الحليّ والحلل والإماء والخول! ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق! وآلمنَ قلبه بمطالبتهنّ له بتوسعة الحال، وأن يعاملهنّ بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهنّ ما نزل في أمرهنّ».
الشوكاني: « معنى: (الحياة الدنيا وزينتها): سعتها ونضارتها ورفاهيتها والتنعم فيها».
الألوسي: «(يا أيها النبي قُلْ لأزواجك إنْ كنتنّ تُردنَ الحياةَ الدنيا) أي: السعة والتنعم فيها.
(وزينتها) أي: زخرفها، وهو تخصيص بعد تعميم».