أقرر بدءا أني لست ضد أي اجتهاد حر لا يخضع لأية ضغوط في مسألة فوائد البنوك، وأن القول بجواز إيداع الأموال في البنوك، وإباحة فوائدها إن كان محض اجتهاد أعمل فيه أدواته، فهو واجب الاحترام، ولو مع المخالفة، ويكون للمصيب في المسألة أجران، وللمخطئ أجر، ولكن المأخوذ على دار الإفتاء – حسب الظن- أن الاجتهاد في هذه المسألة بعينها لم يكن محض اجتهاد ممن قال بإباحتها، بل هناك من القرائن ما تدفع للقول بأن القول بإباحة فوائد البنوك حلال وراءه دوافع سياسية، وفرق بين من اجتهد، وبين من دفع لقول رأي معين، أو وضع في ذهنه رأيا – أيا كان مصدره- ثم سعى للتدليل على صحته، مستندا إلى عدد من أدلة التشريع.
فقد غيرت دار الإفتاء رأيها في فوائد البنوك بدءا من الدكتور محمد سيد طنطاوي، ثم مرورا بالدكتور نصر فريد واصل، وهما يمثلان القول بإباحة فوائد البنوك صراحة، وهذا هو أحد الاتجاهات في المسألة.
والاتجاه الثاني، ويمثله غالب مفتي دار الإفتاء المصرية، مرورا بالدكتور محمد سيد طنطاوي الذي كان يفتي بحرمة فوائد البنوك واعتبارها ربا محرما بالإجماع، وذلك قبيل تغيير فتاويه.
أما الاتجاه الثالث: فهو حكاية الخلاف، ويتمثل في فتاوى الدكتور أحمد الطيب – في غالبها-، والدكتور علي جمعة، فيما هو موثق في سجلات دار الإفتاء المصرية منذ تولية سنة 2003 حتى عام 2005م، آخر فترة لمحل الدراسة، مع كون الدكتور علي جمعة يعلن في الفتاوى المباشرة في الجرائد و المجلات والفضائيات بجواز الودائع، ولكن الموثق في دار الإفتاء من فتاويه حكاية الخلاف مع وضع قواعد للتعامل مع المسألة، من أن البعد عن الشبهات أولى، والخروج من الخلاف مستحب، وتقليد رأي مختلف فيه لا غبار عليه.
والذي يدفعني لاعتبار تحويل فتوى فوائد البنوك من الحرمة إلى الحل هي فتوى وراءها دوافع سياسية ما يلي:
– التحول من القول بأنها ربا صريح إلى القول بجوازها واعتبارها استثمارا. وذلك في سبتمبر سنة 1989، وكان الدكتور محمد سيد طنطاوي قد تولى الإفتاء في 26-10-1986م، أي أنه كان يفتي باعتبار الفوائد ربا ما يزيد على ثلاث سنوات.
– أن الفتوى جاءت في وقت كانت شركات توظيف الأموال بمصر تستثمر أموالا طائلة للمواطنين، وهذا يعني أن البنوك التجارية قد تضررت من تلك الشركات، فكان لابد من ضربها، وخاصة أنها جذبت ودائع الناس إليها حتى شكت البنوك من انخفاض عدد العملاء في التعامل معها، وجاءت الفتوى لتسكن ضمير الناس وتزيل شبهة اعتبار ودائع البنوك حراما، فيفتى بالحل، فيندفع الناس إلى البنوك مرة أخرى. وقد تم ضرب شركات توظيف الأموال بداية من عام 1988، وجاءت الفتوى في 1989م.
– أن ضرب شركات توظيف الأموال جاء تبعا للسياسة النقدية، وذلك أن صندوق النقد الدولي لاحظ أن عائد الشركات يزيد على العشرين بالمائة، بينما البنوك كانت تعطي نسبة في متوسط (10%) فكان لابد من التساوي بين الطرفين، أو إيجاد حل، فكان الحل الأيسر هو ضرب شركات توظيف الأموال. ولا أعنى بهذا دفاعا عن تلك الشركات بقدر ما أحلل التوجه السياسي لفتوى البنوك.
– أن صياغة الفتاوى الخاصة بالبنوك لم تكن وليدة سؤال مطروح من خارج دار الإفتاء في غالب الفتاوى الأولى، بل كانت فتاوى معدة من قبل فريق من الاقتصاديين وبعض أساتذة الشريعة، ثم صيغت أسئلة لها، وكأن البحث الذي عكف عليه قطع أجزاء، ليظهر على صورة سؤال، مما يعني أن هناك دفعا نحو هذا الرأي الجديد.
وهذه أسئلة الفتاوى:
– هل يستغني الناس عن التعاملات فيما بينهم؟
– ما هي المعاملات التي شرعها الله – تعالى للناس، لتبادل المنافع فيما بينهم؟
– ما أهم الآداب التي جاءت بها شريعة الإسلام لتنظيم المعاملات بين الناس؟
– ما تعريف الربا؟ وما المنهج الذي سلكته شريعة الإسلام في تحريمه؟ وما الحكمة من تحريمه؟
– هل اختلف الفقهاء في الربا المحرم شرعا؟
– هل كل زيادة على رأس المال من الربا المحرم شرعا؟
– ما المقصود بربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه؟ وهل كان ربا العباس يختلف عن ربا الجاهلية؟
– نريد أن نعرف بعض الأمثلة للربا المجمع على تحريمه، وهل تقع على الدائن والمدين؟
– هل العقوبات التي تقررها الهيئات على المدين المماطل لها علاقة بالربا؟
– هل ما يؤخذ من المدين كأجرة لمن يقوم بكتابة الديون أو توثيقها له علاقة بالربا؟
– ما معنى ألفاظ القروض- الديون- الودائع- الاستثمار؟ وهل هناك فرق بينها؟
– هل تحديد الربح مقدما بالنسبة للبنوك أو غيرها له علاقة بالحل أو الحرمة؟
– ما هي أهم وظائف البنوك التجارية كالبنك الأهلي وبنك مصر وما يشبههما؟وهل من وظيفة هذه البنوك أن تقرض أو تقترض؟ وما الفرق بين هذه البنوك وبين البنوك الإسلامية؟
– ما الحكم الشرعي بالنسبة للتعامل في صناديق التوفير؟
– ما الحكم الشرعي في التعامل مع البنوك عن طريق شهادات الاستثمار أو ما يشبهها من معاملات؟
– ما الحكم الشرعي للتعامل في سندات التنمية الدولارية؟
– ما الحكم الشرعي للتعامل في أذونات الخزانة؟
– هل قامت دار الإفتاء المصرية بالرجوع إلى المتخصصين في أعمال البنوك عندما أفتت في مسائل تتعلق بمعاملات البنوك؟
– ما أهم الشبهات التي أثارها المعترضون على فتاوى دار الإفتاء المصرية بشأن معاملات البنوك؟ وما هي إجاباتكم عليها؟
– هل الفتاوى التي أصدرتها دار الإفتاء المصرية بشأن بعض معاملات البنوك خاصة بظروف مصر؟ وما الذي يريده مفتي مصر بالنسبة لجميع معاملات البنوك؟([1])
ويلاحظ أن كل هذه الفتاوى سجلت في سجلات دار الإفتاء المصرية بين تاريخ: 10 يناير سنة 1994 إلى 15 يناير سنة 1994، وهذا يعني أنها ليست أسئلة مقدمة من المستفتين، وإنما هي من وضع دار الإفتاء المصرية، كما يلاحظ أيضا هذا من صياغتها، وإدخال الأمور الشخصية كـ”ماذا يريد مفتي مصر من البنوك وما شابهها.
فكل هذه قرائن تدل – في ظني- على أن فتوى إباحة فوائد البنوك في سبتمبر سنة 1989 دبرت بليل، وبإيعاز سياسي، وهذا غلبة ظن لا يصل إلى درجة اليقين.
فتوى الدكتور محمد سيد طنطاوي بجواز فوائد البنوك:
أما فتوى الإباحة، فكانت بتاريخ 8-9-1989م، وهي فتوى مطولة جدا، موجودة بسجلات دار الإفتاء المصرية([2]).
ويلاحظ أن الدكتور محمد سيد طنطاوي- وهذه أول فتوى له بالإباحة- لم يتراجع عن فتواه، بل تعامل معها كأن الأمر جديد، ولم ينص على أنه راجع اجتهاده، وبدا له شيء غير الذي كان يفتي به.
هذا بالإضافة إلى عدد من الفتاوى الأخرى التي لم توثق في سجلات دار الإفتاء، ولكنها كانت تمثل رأي دار الإفتاء، أو خرجت على هيئة بيانات تخرجها الدار، تمثل رؤيتها في بعض الأحداث، ولكنها رؤية مساندة لاتجاه الدولة في الحدث.
نماذج من الإفتاء بالتحريم:
أفتى الشيخ جاد الحق بأن الفوائد المأخوذة من إيداع الناس في البنوك هي من قبيل الربا المحرم؛ لاعتبار أن فوائد البنوك من الربا الحرام
وسئل الشيخ عبد اللطيف عبد الغني حمزة مفتي الديار المصرية – جاء بعد أن تولى الشيخ جاد الحق رحمه الله مشيخة الأزهر- عن فوائد البنوك، وشهادات الاستثمار وذلك في عدد من الأسئلة تتعلق بالتعامل مع البنوك التجارية.
فأفتى بأن فوائد البنوك، وشهادات الاستثمار فئة (أ، ب) حرام شرعا؛ لأنها من سبيل الربا([3]).
و لم يفرق الشيخ عبد اللطيف عبد الغني بين الودائع أو القرض للإنتاج الزراعي أو الحيواني أو إقامة مشاريع أو كانت من بنك التسليف أو غيره
وسئل عن رجل له فوائد من البنك يسأل عن أوجه إنفاقها، وذكر عددا منها، فأفتى بوجوب التخلص منها وإنفاقها في وجوه الخير المتعددة، شريطة ألا ينتفع بها، فلا يحل للسائل الانتفاع به فى ترميم المحل الذى يملكه أو خلاف ذلك كالديون وضريبة التركات التى ذكرها فى طلبه. ويجوز صرفه فى معالجة فقير وتجهيز مجاهد فى سبيل الله وخلاف ذلك كما مر. انتهى
وما زالت دار الإفتاء المصرية إلى يومنا هذا تفتي بأن فوائد البنوك سواء بالإيداع أو من خلال شهادات الاستثمار أو السندات أو غيرها هي مباحة وهي عقد جديد يسمى عقد التمويل.
الناحية القانونية
والقول إن شهادات الاستثمار من باب التمويل الاستثماري يخالف القانون قبل أن يخالف الشرع، كما أنه يخالف القانون.
وذلك أن قانون البنك المركزي الذي ينظم حركة البنوك ويشرف عليها، يحظر على البنوك التجارية ما أسماه بـ ( المخاطرة بأموال المودعين)، فيحظر على البنك البيع أو الشراء أو الاستثمار، إنما جل فعله أن يأخذ من الناس أموالا بفائدة بسيطة، وأن يدفعها إلى آخرين بفائدة مركبة، ويأخذ هو الفرق، وما التمويل إلا قرض، بناء على التكييف الواقعي، والتكييف القانوني.
فقد جاء في المادة رقم (60) من قانون البنوك المصري الصادر سنة 2003م ما يلي:
– بند (4) يحظر على البنك الدخول كشريك متضامن في شركات الأشخاص والتوصية بالأسهم.
– وفي البند رقم (5) يحظر على البنك التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة.
– وفي المادة (2) : لقانون 1965م تم النص على الفائدة، جاء فيها:
تعفى شهادات الاستثمار المنصوص عليها في المادة السابقة وما تغله من فائدة أو جائزة وكذلك قيمة استردادها أو استحقاقها من كافة الضرائب ورسوم الدمغة, فيما عدا الضريبة على التركات ورسم الأيلولة.
وعليه:
فالقول إن فوائد البنوك الربوية هي من قبيل التمويل أو أنها مباحة قول يجافي الواقع والصواب، كما أنه يخالف شريعة رب العباد.
([1]) -راجع: سجل: 133، و الفتاوى الإسلامية، ج21، ص: 8109-8202
([2]) -راجع نص الفتوى في ملاحق الرسالة
([3]) – المقيد برقم 159 لسنة 1984 م/ 27-10-1984/20، وانظر: المقيد برقم 1984/190- 11-11-1984/26، و المقيد برقم 1985/102- 30-07-1985/138، و برقم 285 لسنة 1985 فى 1985/11/10- 11-12-1985/171