في وقفتنا التربوية هذه سنتناول أمرا في غاية الأهمية والكثيرون منا لا يلقون له بالا ألا وهو احترام النعمة وتقديرها.

روى ابن ماجة في سننه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت دخل عليَّ رسول الله ذات يوم فرأى في بيتي كسرة طعام ملقاة على الأرض ، فمشى إليها ، ثم شمها ، ثم مسحها وأكلها ، ثم قال : “ياعائشة ، احسني جوار نعم الله ؛ فإنها قل ما نفرت من أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم”. هذا الحديث أخرجه أبو يعلى أيضا والبيهقي ، وصححه الألباني في إرواء الغليل. وهو حديث عظيم.

ما أحوجنا أيها الأحبة إلى أن نعي هذا الجملة بل ينبغي أن تكون شعارا في كل بيت وعلى كل سفرة وعند كل وليمة: “أحسنوا جوار نعم الله فإنها ما نفرت من قوم فعادت إليهم” النبي هنا يحث على احترام الطعام وتوقير النعمة وحفظها.

ومن ذلك أيضا أنه كان النبي لا يعيب طعاماً قط بل إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وعن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي بتمرة في الطريق فقال: “لو لا إني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها” (متفق عليه). فبين -- أنه لو لا المانع لأكل هذه التمرة ولم يتركها تذهب وتفسد. وهذا مما يدل على اهتمامه -- بشأن النعمة وحفظها من الإهدار.

وعنه أخذ أصحابه وأهل بيته هذا الأدب فعن أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: “إن الله لا يحب الفساد”، كيف لا وهي تسمع الحبيب صلوات الله وسلامه عليه يحث على حفظ النعمة ويحذر من احتقارها وإهمالها وإهدارها ومن ذلك قوله: “إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان” رواه مسلم. وأمر -- بلعق الأصابع والصحفة وقال: “إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة” (رواه مسلم).

كل هذا من حفظ النعمة وتوقيرها وتوفيرها عن الضياع وابتعاداً عن التكبر. وإذا قارنت بين هدى النبي -- في ذلك وبين ما عليه غالب الناس اليوم من امتهان للنعمة وإسراف في عمل الأطعمة وإهداره تبين لك الفرق العظيم، وخِفْت على الناس من العقوبة العاجلة، فترى كثيراً من الناس في حفلات الزواج وغيرها يضعون الولائم الكبيرة من الأطعمة واللحوم، ثم لا يؤكل منها إلا القليل، وأكثرها يهدر ويلقى في المزابل وينتج عن ذلك مفسدتان عظيمتان:

  • الأولى: مفسدة الإسراف وإفساد المال –وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] وقال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } [الإسراء:27]
  • والمفسدة الثانية: أن في هذه الولائم إهانة للنعمة بإلقائها مع القاذورات، وإذا كان النبي أرشد إلى رفع كسرة الخبز وأخذ التمرة من الطريق وأمر بأخذ اللقمة إذا سقطت وإزالة ما عليها من الأذى ثم أكلها، وأمر بلعق الأصابع ولعق الصحفة؛ لئلا يضيع شيء من نعم الله أو يمتهن؛ فكيف بالذي يهدر الأكوام من الطعام واللحوم وقد يلقيها مع الزبالة! إنها لجريمة عظيمة ومنكر ظاهر تخشى عواقبه الوخيمة.