اختُتمت أعمال مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب” في العاصمة القطرية الدوحة، حيث سلّط المؤتمر الضوء على ثراء التوجيهات النبوية في شؤون السلم والحرب، بما يشمل تحقيق السلام ونشره، ومنع النزاعات وتسويتها، وتطبيق أحكام الحرب، وفق ما ذكرت صحيفة العرب القطرية في خبر لها.

ركز المؤتمر على التوجيهات النبوية فيما يتعلق بإدارة السلم والحرب. كما سلط الضوء على أهمية الهدي النبوي في قضايا السلم والحرب، بما في ذلك تحقيق السلام ومنع النزاعات.

شهد اليوم الثاني لمؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب” انتقالا في النقاش من الأطر التأسيسية إلى القضايا الأكثر تعقيدا وتخصصا، حيث ركزت الجلسات على آليات إدارة الصراع، والمقارنات مع القانون الدولي، وقراءات معاصرة للسيرة في سياق النزاعات العالمية، واختتم اليوم بمنظور شبابي واعد.

بين الهدي النبوي والقانون الدولي المعاصر

شكلت الجلسة الرابعة التي أدارها الدكتور مصطفى عثمان الأمين، جسرا حيويا بين التراث الإسلامي والمنظومة القانونية الدولية، وتناولت عنوان “إدارة الصراع وتسوية النزاعات بين الهدي النبوي والقانون الدولي المعاصر”.

قدم الدكتور إبراهيم محمد زين أستاذ بكلية الدراسات الإسلامية، ورقة بعنوان “إدارة النزاع بين اتفاق صفين والقانون الدولي”. الدكتور زين قدم قراءة مبتكرة لحدث تاريخي إسلامي داخلي (معركة صفين والتحكيم الذي تلاها) كنموذج مبكر لإدارة الصراعات. لم يتناولها كحدث تاريخي مجرد، بل استخلص منها آليات مثل “وقف إطلاق النار”، “اللجوء إلى التحكيم”، و”اختيار المحكمين”، وقارنها بآليات تسوية النزاعات في القانون الدولي الحديث.

رجل وامرأة يحملان لوحة فنية تحمل اسم محمد عليه السلام بخط عربي، خلال حدث ثقافي. يبتسم كلاهما ويبدو في الخلفية جمهور ومكان مؤتمرات.

أبرزت المداخلة أن التراث الإسلامي لا يقتصر على تنظيم العلاقة مع “الآخر” الخارجي، بل يمتلك أدوات غنية لإدارة النزاعات الداخلية يمكن تفعيلها اليوم، مما يفتح الباب أمام فقه “إدارة الأزمات” المستلهم من التاريخ الإسلامي.

المرأة في السلم والمرأة في الحرب

الدكتورة حمدة الشريم (أستاذ مساعد بجامعة قطر) قدمت ورقة بعنوان “وضع المرأة في حالتي السلم والحرب: بين الهدي النبوي وموقف الاتفاقيات الدولية”. قدمت خلالها مقاربة حقوقية بالغة الأهمية. لم تكتف بسرد الأحكام التقليدية، بل وضعت الهدي النبوي في حوار مباشر مع اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها.

كما أبرزت الشريم كيف أن السيرة النبوية منحت المرأة حماية خاصة كغير مقاتلة، ونهت عن استهدافها، وحفظت كرامتها حتى في حالة الأسر. وفي المقابل، سلطت الضوء على دور المرأة كعنصر فاعل في السلم، مستشهدة بدور أم سلمة في صلح الحديبية. كانت المداخلة دعوة لإعادة قراءة مكانة المرأة في السيرة ليس كمفعول به يتلقى الحماية، بل كفاعل رئيسي في بناء السلام.

فهم الجهاد في السياق المعاصر

أما الدكتور كنان موسيتش (أستاذ مشارك بجامعة سراييفو) فقدم ورقة بعنوان “فهم الجهاد في ضوء السيرة النبوية والحديث والسنة: السياق المعاصر وتحدياته”. حيث تصدى الدكتور موسيتش لواحدة من أكثر القضايا إشكالية وقدم تفكيكا علميا للمفهوم، موضحا الفروق الدقيقة بين “الجهاد” بمفهومه الواسع (جهاد النفس، والبناء، والعلم) و”القتال” بمفهومه الضيق والمقيد.

كما ركز موسيتش على أن الجماعات المتطرفة قامت بـ”اختطاف” المفهوم وتفريغه من سياقه الأخلاقي والشرعي. كانت ورقته بمثابة بيان علمي رصين يهدف إلى استعادة المفهوم من قراءاته المشوهة، وتقديمه كطاقة روحية وأخلاقية للبناء الحضاري وليس للهدم.

تأصيل أخلاقي لمفاهيم القتال

بدوره الدكتور معتز الخطيب (أستاذ مشارك بمركز التشريع والأخلاق الإسلامية) كان له مداخلة بعنوان “بين الحرب والجهاد: نحو تأصيل أخلاقي لمفاهيم القتال في ضوء السيرة النبوية”.. قدم خلالها تأصيلا فلسفيا وأخلاقيا عميقا. حيث ميز بين “الحرب” كمفهوم مادي وصراعي، و”الجهاد” كمفهوم أخلاقي وقيمي.

رجل يتحدث في مؤتمر السيرة النبوية، يركز على الإرشادات النبوية في السلام والحرب، مع وجود شاشة عرض أمامه.

كما جادل بأن القتال في الإسلام ليس مجرد “حرب” بالمفهوم الميكافيلي، بل هو “جهاد” محكوم بإطار أخلاقي صارم قبل وأثناء وبعد المعركة. هذه الرؤية تحول القتال من عمل عنف مجرد إلى ممارسة مضبوطة بقيم عليا تهدف إلى تحقيق العدل ورفع الظلم، وهو ما يمثل جوهر الاختلاف بين المفهوم الإسلامي والمفاهيم المادية للحرب.

جلسة الطلاب.. الأطفال الاقتصاد وإدارة الصراع

أدارت هذه الجلسة الطالبة حميدة الكواري، وكانت بمثابة نافذة على رؤى الجيل الجديد من الباحثين، مما أضفى على المؤتمر حيوية وأملا.

تناولت لولوة متعب الشمري (طالبة دكتوراه) موضوع “الرعاية النبوية للأطفال في مجتمع المدينة في حالتي السلم والحرب”، مسلطة الضوء على البعد الإنساني العميق في السيرة الذي يولي اهتماماً خاصاً للفئات الأكثر ضعفاً حتى في أقسى الظروف.

كما بحث عبد الرشيد إيموتولا محمود (طالب ماجستير) في “الهدي النبوي الاقتصادي في الحرب والسلم”، مقدما رؤية استراتيجية لكيفية إدارة الموارد الاقتصادية للدولة في الظرفين، وهو موضوع نادر الطرح ومهم للغاية.

أما عبد الرحمن عوض الله أحمد علي (طالب ماجستير) فقد حلل “القيادة النبوية في إدارة الصراع”، مركزا على المرونة السياسية وتقديم المصلحة العامة، مستخلصا دروسا في القيادة يمكن تطبيقها اليوم.

توصيات ونتائج

على مدار يومين، نجح مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب” في تحقيق هدفه المتمثل في تقديم السيرة النبوية كمنهاج عمل حيوي ومصدر إلهام لمعالجة أزمات العالم المعاصر. لم يكن المؤتمر مجرد سرد تاريخي، بل كان ورشة عمل فكرية ومنهجية أنتجت رؤى عميقة وتوصيات هامة.

أولاً: أهم النتائج المستخلص:

1.     إعادة تعريف المفاهيم: كان هناك إجماع بين الباحثين على ضرورة تحرير المفاهيم الإسلامية الكبرى (كالجهاد، والعلاقات الدولية) من الاختزالات التاريخية والقراءات المتطرفة التي شوهتها. فـ”الجهاد” ليس القتال، بل هو طاقة بناء حضاري، و”العلاقات الدولية” ليست قائمة على الصراع، بل على التعاهد والسلام.

2.     الأخلاق قبل القوة: أبرز المؤتمر أن السمة الأبرز للنموذج النبوي هي “أخلقة السياسة والحرب”. فالقوة العسكرية لم تكن أبدا غاية، بل كانت أداة مقيدة بإطار أخلاقي صارم يهدف لتحقيق العدل والرحمة، وهو ما يمثل مساهمة إسلامية فريدة في الفكر الاستراتيجي العالمي.

3.     السيرة كمنهج وليس كحلول جاهزة: أكدت المداخلات أن السيرة لا تقدم وصفات جاهزة، بل تقدم “منهجا في التفكير” و”إطارا قيميا” يمكن من خلاله الاجتهاد لإنتاج حلول تتناسب مع تحديات كل عصر، وهو ما أطلق عليه الدكتور شنتورك “التجديد المؤصل”.

4.     التكامل بين الأصالة والمعاصرة: نجح المؤتمر في وضع الهدي النبوي في حوار مباشر ومثمر مع المفاهيم المعاصرة كالقانون الدولي، وحقوق الإنسان، وإدارة النزاعات، مبرزا نقاط السبق في التراث الإسلامي وقدرته على إغناء الفكر الإنساني المعاصر.

صورة مقال اختتام مؤتمر "الهدي النبوي" .. دعوة للتجديد المؤصل
جانب من المشاركين في مؤتمر الهدي النبوي

ثانياً: توصيات المؤتمر الرئيسية

1.     نحو فقه جديد للسلم: دعا المؤتمر إلى ضرورة تجاوز التركيز الفقهي التقليدي على “أحكام الحرب” وتأسيس “فقه للسلم” يكون أكثر تفصيلاً وعمقاً، يعنى ببناء السلام، ومنع النزاعات، وتعزيز التعاون الدولي.

2.     تفعيل النماذج النبوية في الدبلوماسية: أوصى المؤتمر المؤسسات الأكاديمية والدبلوماسية في العالم الإسلامي بدراسة النماذج النبوية في التفاوض (صلح الحديبية)، وبناء التحالفات (وثيقة المدينة)، وإدارة ما بعد الصراع (فتح مكة) وتحويلها إلى أدوات عمل في الدبلوماسية المعاصرة.

3.     توجيه الخطاب الديني والإعلامي: شدد المؤتمر على مسؤولية العلماء والمؤسسات الدينية والإعلامية في تقديم قراءة متوازنة وأخلاقية لمفاهيم السلم والحرب في الإسلام، وتحدي الخطابات المتطرفة التي تستغل هذه المفاهيم لتبرير العنف.

4.     دعم الباحثين الشباب: أظهرت جلسة الطلاب أهمية الاستثمار في الجيل الجديد من الباحثين، وأوصى المؤتمر بإنشاء المزيد من المنصات والمشاريع البحثية التي تمكن الشباب من التفاعل مع السيرة النبوية وتقديم قراءات مبتكرة لها.

لم يكن مؤتمر السيرة النبوية 2025 مجرد حدث علمي، بل كان رسالة حضارية من الدوحة إلى العالم، مفادها أن في ثنايا سيرة النبي محمد تكمن حكمة خالدة وبوصلة أخلاقية قادرة على إرشاد البشرية نحو عالم أكثر سلما وعدلا وإنسانية.