أولاً: الحياة الزوجية في مهب مخارج الحروف
قد نجد كثيرًا من الفتاوى والفرضيات الأرأيتية حول الطلاق اللفظي وصيغته، وهي مبثوثة بكثرة في “المدونة الكبرى” للإمام مالك وكتب فقهية أخرى، يكون الهدف منها في المقام الأول ضبط الحياة الزوجية، وبالتالي الحفاظ على سلامة النسب من الضياع. وقد يكون سبب ذلك الضياع هو الكلمة والنية والسياق، وأيضًا الإشارة حينما يقتضيها الظرف والحال. وهذا لا يعني جعل الحياة الزوجية مبنية على الهواء ومخارج الحروف، وإنما المقصد منه ضبط النوايا وصحتها في التعامل الأسري الذي يُشكّل أساس المجتمع واستقراره.
كما أنه، بالضرورة، يتداخل الذوق والسلوك إلى جانب الفقه في المذهب المالكي لتحديد مفهوم النية نفسها والتمييز بينها وبين حديث النفس والأهواء والوساوس. وهذه المواضيع جميعها تدخل في علم السلوك والأخلاق الباطنية؛ ومن هنا تبرز ضرورة تلازم الفقه والتصوف في وعي المسلمين، وخاصةً لدى أهل الفتوى والقضاء، حتى يضبطوا أحكامهم وتصبح أعمالهم ذات معنى روحي وسلوكي ثابت ومنتج.
بحيث لا ينبغي لموضوع الطلاق أن يبقى لعبة في يد الرجل يُوقعها متى شاء ويتصرف كيف يشاء، رغم أنه يتمتع بالعصمة في الحياة الزوجية؛ إذ قد يكون لتدخل السلطان أو القاضي دور حاسم في تهذيب حقوق الزوج في هذه العصمة وتوجيهها أخلاقيًا وقضائيًا، حتى يتقلص التلاعب بهذا الحق وتتناقص العقود والمشاكل النفسية المترتبة عن التساهل في توظيف ألفاظ الطلاق وما يرتبط بها من إجراءات وسياقات ونوايا، كما سبق وبينا.
إن موضوع الطلاق وإيقاعه قد أصبح مهملاً في مجال التقاضي، إذ أخذ جانب الإباحة الفقهية في إطلاقه وأُغفِل المحظور منه في باب الأخلاق والمعاملة الحسنة للزوجة واحترام حقوقها المعنوية.
فقد أصبح لفظ الطلاق كلمة تُوظّف في غير حق وبغير أسباب موضوعية وضرورية، بحيث كما نجد في أمثلة الفقهاء الذين يعرضون نماذج، كقول الزوج لزوجته التي وقفت على السلم:
«إذا صعدتِ درجًا فأنتِ طالق، وإذا نزلتِ درجًا فأنتِ طالق»،
أو أن يقول لها: «أنتِ طالق إذا لم تكوني مثل البدر!».
ومن ثم يبدأ الفقهاء أو القضاة في البحث عن حل هذه المشكلة الرعناء: ما حكمها؟ وما طريقة حلها؟ وهل يقع الطلاق على الزوجة بسبب هذا اليمين أم لا؟
وبالتالي، في المثال الأول، سيكون على المرأة لكي تتخلص من هذه الورطة أن تقفز من السلم كلية، وهذا يعني تعريض نفسها لكسر عظامها، عوضًا عن كسر حياتها الزوجية بإيقاع الطلاق عليها بهذا اليمين!
ثانيًا: القضاء والأذواق في صيانة الحياة الزوجية من العبث
لكن حينما نراجع مواقف أهل المعرفة والأذواق والحكم الصادق والصحيح من الصحابة – رضي الله عنهم – نجد لديهم نماذج حاسمة في صيانة الحياة الزوجية من العبث والتلاعب الناجم عن امتلاك حق الطلاق والعصمة من طرف الزوج. إذ أن الزجر والتأديب قد يؤديان إلى ضرب الزوج، أو حتى الزوجة إن كان التلاعب من جهتها. وقد يروي البيهقي وابن أبي شيبة أن رجلاً في المدينة طلق امرأته ألفًا، فرفع إلى عمر فقال: «إنما كنتُ ألعب»، فعلاه بالدرة وقال: «إنه كان يكفيك ثلاث…»، وفرّق بينهما. وكما جاء في المدونة أن علي بن أبي طالب كان يعاقب الذي يطلق امرأته ألبتة[1].
وروى عبد الرزاق عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قوله:
«طلق غيلان نساءه وقسم ماله بين بنيه في خلافة عمر رضي الله عنه.»
فاستفهَم عمر: «هل طلقتِ نساءك وقسمتِ مالك بين بنيك؟»
فقال: «نعم.»
فقال عمر: «والله، إني لأرى الشيطان فيما سرق من السمع؛ سمع بموتك فألقاه في نفسك، فلعلك تمكثين إلا قليلاً، وأيم الله، لئن لم تراجعي نساءك وترجعي في مالك، لأورثهن إذا مت، ثم لأأمرن بقبرك فيُرجمن كما يُرجم قبر أبي رغال…»
فقال: «فراجعتُ نساءه وأرجعتُ ماله.»
ويضيف نافع: «فما مكث إلا سبعًا حتى مات…»[2]
هذا النص الأخير فيه نموذج الجمع بين الحكم القضائي المؤسس على القرينة أو السياق، والحكم الباطني المبني على الكشف أو الفراسة والإلهام!
إذ إن الحاكم، حسب بعض المذاهب، لا يحكم بعلمه – وهو ما عليه مذهب مالك – ولكن حينما تجتمع القرائن المؤيدة ظاهريًا أو المرجحة لعلمه الباطني في المسألة، فإنه يحكم حينئذ بتلك القرائن وبالعلم الذي اطمأن قلبه إليه.
فالقرينة هنا هي المرض المتوقع منه الموت، ومن ثم فإن الطلاق كان من أجل حرمان النساء من حقهن في الميراث، إضرارًا بسبب مغريات ودوافع تكون سببها الأولاد والورثة الآخرون.
ومن ثم فإن الإجراء غير موضوعي ولا أخلاقي أو سليم، وإنما فيه تضييع لحقوق النساء، ليس له من دافع سوى أهواء النفس ورغباتها. ولهذا كان لابد من استدراك هذا الأمر والحيلولة دون إيقاع الطلاق على هذه المرأة ومن هذه الدوافع.
فحيث أنه قد وقع شفويًا — وهذا ناجز لا مرد له، لأنه صدر باللفظ والنية والسياق كما سبق وبينا — فإنه لابد من اتخاذ إجراء آخر لسد هذه الذريعة، يحول دون فتحها على مصراعيها أهوائيًا ومزاجيًا؛ وذلك بالزجر والتهديد بإيقاع العقوبة المادية والنفسية على المطلق بعد وفاته، والتشهير بسوء تصرفه عبرة لأمثاله. وهذا ما ينبغي أن يسلكه القضاة بأسلوب شرعي في المغرب بعد صدور البيان الملكي الخاص بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية، والتي أصبحت معروفة بمدونة الأسرة، وذلك في خطاب الجمعة 14 شعبان 1424 هـ الموافق 10 أكتوبر 2003.
بحيث يتضمن الحديث عن مشروع الإصلاح، وخاصةً في النقطة السادسة منه، التي تنص على جعل:
«الطلاق حلاً لميثاق الزوجية يُمارَس من قبل الزوج والزوجة كلٌّ حسب شروطه الشرعية وبمراقبة القضاء»،
وهذا بتقييد الممارسة التعسفية للرجل في الطلاق بضوابط، تطبيقا لقوله عليه السلام: «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق»، مع تعزيز آليات التوفيق والوساطة بتدخل الأسرة والقاضي؛ وإذا كان الطلاق بيد الزوج، فإنه يكون بيد الزوجة بالتمليك، وفي جميع الحالات يُراعى حق المطلقة في الحصول على كافة حقوقها قبل الإذن بالطلاق…
فمبدأ التمليك نص عليه مدونة الأسرة في المادة 89، كما يلي:
- إذا ملك الزوج زوجته حق إيقاع الطلاق، كان لها أن تستعمل هذا الحق عن طريق تقديم طلب إلى المحكمة طبقًا لأحكام المادتين 79 و80 أعلاه.
- تتأكد المحكمة من توفر شروط التمليك المتفق عليها بين الزوجين وتحاول الإصلاح بينهما طبقًا لأحكام المادتين 81 و82 أعلاه.
- إذا تعذر الإصلاح، تأذن المحكمة للزوج بالإشهاد على الطلاق، وتثبت في مستحقات الزوجة والأطفال عند الاقتضاء، تطبيقا لأحكام المادتين 84 و85 أعلاه.
- لا يمكن للزوج أن يعزل زوجته عن ممارسة حقها في التمليك الذي ملكها إياه.
إذن، فإن الحكم القضائي هنا له أبعاد مادية ونفسية وروحية وأخلاقية؛ أي أن هناك تشابكًا بين الفقه والتصوف في الظاهر والباطن لا يمكن فصلهما إلا بدافع موضوعي أو ضرورة، كما لا يمكن فصل الرجل عن المرأة بنفس السبب وبغير مبرر شرعي ومعقول.
ومن هنا فقد كان للمالكية موقفٌ من طلاق المريض، فهو أقرب إلى العقوبة والزجر منه إلى مجرد حكم فقهي وقضائي إجرائي، وذلك في الفتوى الموالية كما جاء في المدونة الكبرى:
«قلت: هل ترث المرأة أزواجًا كلهم يطلقها في مرضه ثم تتزوج زوجًا، وأنورثها من جميعهم أم لا في قول مالك؟»
قال: «لها الميراث من جميعهم.»
قال مالك: «وذلك لو طلقها واحدة ألبتة وهو مريض وتزوجت أزواجًا بعد ذلك؛ كلهم يطلقها، ورثت الأول إذا مات من مرضه ذلك.»[3]
فهذا ضمان لحقوق المرأة، وبالتالي حماية لحقوق الطفل ونسبه، من خلال ضبط الكلمة والنية والإجراء في الحياة الزوجية، حتى لا تتعرض للبطلان أو تقع في الفساد، الذي قد يكون فسادًا في العقد وفسادًا في الصداق وعلاقته بامتدادات الحمل ونسبه.
فإذا كانت حماية النسب، سواء تعلق الأمر بالطفل أو المرأة في المقام الأول – والرجل أحيانًا قد تتحقق حماية نسبه رغم وجود الزواج الفاسد بإجراءاته ونواياه، وكذلك المتلفظات والسياقات الطارئة على الحياة الزوجية بحسب العشرة والمعاملة – فإن الحماية قد تذهب أبعد من ذلك، إلى درجة إثبات النسب دون وجود بينة أو شروط عقدية من جنس الزواج الصحيح أو الفاسد، حتى وهو ما عُرف عند الفقهاء بـ “الحمل بشبهة في الوطء!”.