من الخصائص الفريدة لهذا الدين أنه لا يزكي الرهبنة، ولا يحض على عزلة الأديرة و السعي نحو الخلاص الفردي. فكل مسلم مشدود إلى المجتمع بحبل المسؤولية والواجب، بفضل تعاليم تنبض بنكران الذات والمخالطة، ومنظومة أخلاقية تنهض على مبادئ الصبر والاحتمال، حتى تستعيد الفطرة الإنسانية توازنها.
تتضافر عدد من نصوص الكتاب والسنة للتأكيد على أن حركة المسلم لا تقف عند حدود منفعته الشخصية، بل يجب أن يعم أثرُها الأحياء والأشياء. والأمر بذلك لا يهم من توافرت لديه القدرة والاستطاعة فحسب، بل يُرتب الشرع على غير القادر مسؤوليةَ السعي والحض على المصلحة العامة. لذا كان ابن الجوزي رحمه الله يفسر قوله تعالى:[ولا يحض على طعام المسكين]-الحاقة:34- بأنه لا يطعمه ولا يأمر بإطعامه.
نعاين اليوم واقعا يتجمع فيه الناس على مضض داخل أبنية سكنية، دون أن يكون لهذا التجمع أثر غير ما تجبرهم عليه أسباب العيش. ونطالع يوميا عبارات الحنين إلى القيم و المثل التي كانت تشد الناس بعضهم إلى بعض في الأزقة والأحياء الشعبية. وصور التآخي ونكران الذات، وتبني هموم الغير بكل نبل وأريحية. بالمقابل تتزايد الشكوى من عواقب الفردية، وإهمال المصلحة العامة، وانسحاب المسلم من موقعه كفاعل ومصلح، ليكتفي بشحذ لسانه الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد نشأ جيل يلقي كل شيء على عاتق الدولة، ويرى أن دوره الاجتماعي يتلخص في الشجب والتنديد، والسخرية من عجز النظام السياسي في بلده عن بلوغ مصاف الدول المتقدمة. وكي يعبر عن غضبه فإن بعض مراهقيه يعمدون إلى إتلاف حاويات الأزبال، وتحطيم المقاعد الخشبية في منتجع طبيعي، أو رجم الحافلات العامة بالقنينات والحجارة! ولنا أن نتساءل عن أسباب هذا الخلط المفجع بين المطلب الاجتماعي أو السياسي والإخلال بالمرافق العامة، وكل ما يحقق النفع لعموم المواطنين؟
هل يرتبط السبب حقا بتقصير الأسرة والمدرسة في تربية الجيل الناشئ؟
أم أن هناك تربية بالفعل، لكن أهدافها وطرائقها تغذي أنانية الفرد ومصلحته الخاصة، وتعزز ذاته على حساب قواعد الحياة الاجتماعية والقيم العامة؟
تتلخص بذور المشكلة في عبارة راجت في خطابنا اليومي، دون أن نتوقف عندها ونعرض دلالتها على الكتاب والسنة، كما هو مفترض في أمة لها هويتها و مرجعيتها الخاصة. العبارة التي تبدو بسيطة في ظاهرها هي أن الحياة ” تغيرت”، ومادام التغير قد طال مرافقها وجوانبها المادية، فلا شك أنه سيمتد إلى طبيعة العلاقات الإنسانية، وأدوار الفرد داخل المجتمع، كما سيشمل بكل “تأكيد” خصائصه الذاتية، بما فيها القيم والأعراف والتوقعات، وكل الأصول المقررة التي ينضبط بموجبها سلوك الفرد ليكون لائقا ومقبولا.
تمثلت الاستجابة للتغيير بداية في الثورة على بعض الأوضاع الاجتماعية السائدة، كحرمان المرأة من التعليم، وخضوعها لوضع حقوقي يتسم بالدونية والتهميش. ورغم أن الإسلام بريء من تلك الممارسات إلا أنها ألصقت به لإيجاد موطئ قدم لبدائل إيديولوجية محددة.
أما الخطوة الثانية فهمّت منظومة الفقه ومؤسساته ورجالاته، باعتبار أن الجهد التشريعي الذي بُذل طوال قرون عديدة لم يعد مناسبا لعصر تخر فيه الدول ساجدة في حضرة الإنجاز المبهر للعقل البشري.
ونحن نعيش اليوم تجليات الخطوة الثالثة التي تستهدف الدين برمته، وتعلن دون مواربة تعطيلَ العمل بالكتاب والسنة، وإنكار الوحي والرسالة.
كل هذا باسم “التغيير ” الذي طال الحياة !
من هذا المنطلق سادت القوانين والتشريعات الحديثة التي تُضيق في بلادنا حركة المسلم، أو بالأحرى تُخضعها لشروط وزواجر تدفع بالأفراد إلى الانسحاب، أو الاكتفاء بمبادرات محدودة الأثر.
والحق أن التغير يجري على المستوى النفسي قبل أن يطفو على السطح المادي، وحين تتمسك أمة ما بأصالتها وعمقها وهويتها فإن التغير يطال الأدوات تحديدا دون الأفكار والقيم. وبالتالي فلا عذر للمسلم في انحساره وتراجعه، ولا صلاح لحاله إلا بتخلصه من فرديته، واستعادته لمبدأ البنيان المرصوص الذي أشاد به الحديث النبوي.
لقد حث الإسلام على النظافة، وجعل إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان. ولو تأملنا هذين السلوكين لوجدنا أنهما مدخلان حيويان لتجديد العناية بالمصلحة العامة. فالنظافة يتعدى أثرها المظهر الخاص للفرد لتشمل محيطه الاجتماعي بشتى مرافقه. ومادام في النهوض بمتطلباتها تعبير عن حقيقة الإيمان، فإن نقل حركة المسلم إلى الفضاء العام يبدد التصور السائد بأن نظافة الحي أو الشارع مهمة عُمال البلدية فقط !
وأما إماطة الأذى عن الطريق فتشمل كل ما يؤذي المسلمين ويعيق حركتهم، سواء كان حجرا أو غصن شجرة، أو مظهرا سلوكيا منفرا يمس الأخلاق العامة، ويُسهم في تآكل الحياة الاجتماعية.
يُحكى أن جارا لأبي حمزة السكري أراد أن يبيع داره، فلما سئل عن الثمن قال: أبيع الدار بألفين وجوار أبي حمزة بألفين. فبلغ ذلك أبا حمزة فأرسل إليه أربعة آلاف، وقال: خذها ولا تبع دارك ! فتأمل كيف أن حركة المسلم لما تتحرر من الأنانية وعبادة الذات، وتجعل من هموم الناس مضمارا لنيل الأجر والثواب، فإن أثرها يبلغ حد المغالاة في ثمن الجوار.
إن الإنذار الذي أطلقته النملة لتحمي بني جنسها من سليمان وجنوده، لا يصح أن يكون شعارَ أمة خصها الله تعالى بالخيرية والشهود الحضاري. لأن دخول التاريخ لا يتحقق إلا بالخروج من المسكن، والتحرر من نوازع الإخلاد إلى الأرض.