تعتبر إنتاجية الفرد عنصرا مهما بالنسبة لأي نهضة اقتصادية ، حيث تعكس هذه الإنتاجية مدى قدرة المجتمع على خلق أجيال قوية قادرة على خلق انتاج مميز يسهم في عملية نهوض المجتمع ، ويشكل مؤشر إنتاجية الفرد أو ما يعرف في الأوساط الاقتصادية ب (Individual Productivity Index ) عاملا إحصائيا مهما تستخدمه معظم الدراسات الاقتصادية والتقارير الأكاديمية لدراسة إنتاجية المجتمعات ورسم صورة عن مستقبلها في مجال التنمية ، هذه الأهمية جعلت العديد من الحكومات تسعى جاهدة إلى خلق استراتيجيات متقنة وسياسات فعالة لزيادة كفاءة الفرد الإنتاجية في المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء، من ضمن هذه الاستراتيجيات خلق ظروف عمل ملائمة و تجذير الوعي داخل الفرد بأهمية الانتاج وإبراز أهمية الفرد في تحقيق الرفاه الاقتصادي للمجتمع. تعالج هذه المقالة استراتيجيات زيادة انتاجية الفرد وأهميتها في تحقيق النهضة الاقتصادية.
تجارب ميدانية ناجحة
حققت العديد من الدول الأوربية والآسيوية نجاحا مهما في مجال تكوين الفرد وإعداده ليكون قادرا على تحقيق الانتاجية المطلوبة والمساهمة في اقتصاد بلاده ، شكلت حكومات هذه الدول استراتيجيات تشمل جوانب متعدد منها الجانب التعليمي والتكويني بالإضافة إلى خلق مؤسسات قوية مزودة بالتقنيات التكنلوجية وتستخدم الأساليب الإدارية الحديثة, وقد حققت هذه الاستراتيجيات أهدافها وساهمت في تحقيق ازدهار اقتصادي ، فحسب تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في عام 2017 حول الدول العشر الأكثر إنتاجية للفرد ، أظهرت البيانات أن ليكزمبورغ تتصدر هذه المجموعة حيث تصل ساعات العمل للفرد سنويا 1512 ساعة ، بينما تبلغ انتاجية الفرد 78320 يورو سنويا أي بمعدل 301 يورو يوميا ، وجاءت النرويج في المرتبة الثانية بعدد ساعات عمل للفرد تبلغ 1424 ساعة ، وهو ما يعادل56550 يورو سنويا أي بمعدل 217 يورو يوميا، جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المركز السادس ، بينما حصدت السويد المرحلة العاشرة ضمن التصنيف.
إن نجاح هذه التجارب كان ثمرة لمجموعة من السياسات والاستراتيجيات الفعالة التى تستهدف بناء الإنسان وبناء المؤسسات وخلق ظروف ملائمة لتحقيق هذا النجاه المهم في مسار تطور ونهضة الأمم. اعتمدت الدول التى حققت نجاحات مميزة في الرفع من انتاجية الفرد على مجموعة من السياسات والاستراتيجيات ، هذه السياسات ترتكز في مجملها على الموائمة بين تطوير الفرد ومهاراته وإمكانياته وبين تطوير المؤسسات ومحيط العمل وبيئته ومن ضمن الاستراتيجيات التى اتبعتها الدول في هذ المجال نذكر مايلي:
1- أهمية التوازن بين العمل والحياة
يشكل التوازن بين الحياة والعمل إحدى التحديات الكبيرة للمجتمعات ، فبالرغم من أن بعض المجتمعات تغرق في أتون العمل وتهمل جانب الحياة إلا أن الدراسات أثبتت أن هذه المجتمعات التى تشهد هذه الظاهرة هي مجتمعات مهدد بالكثير من المشاكل منها زيادة الشيخوخة و تراجع نسبة الشباب مثل ما يحدث في اليابان حيث تعتبر اليابان من الدول التى تقدس العمل ، حتى أنشرت فيها ظاهرة “كاروتشي” أو الموت بسبب ضغط العمل حيث تشير الإحصائيات إلى أن 2000 ياباني يفقدون حياتهم سنويا بسبب العمل. غياب التوازن بين العمل والحياة خلق مجتمعا مشوها في اليابان وبالرغم من إرتفاع انتاجية الفرد الياباني إلا أن غياب هذا التوازن تسبب في مشاكل أخرى عميقة ووضع الحكومات اليابانية المتعاقبة أمام تحديات كبيرة. استفادت الدول التى وازنت بين العمل والحياة في صفوف الشعب إلى تحقيق نتائج إيجابية كبيرة في مجال إنتاجية الفرد دون أن يتسبب ذلك في مشاكل أخرى ديمغرافية أو إجتماعية.
2- تكوين وبناء وتأهيل الفرد
في الدول التى تسعى إلى رفع انتاجية الفرد والتى تدرك أهمية هذه الخطوة في التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي ، تطلق هذه الدول لأجل ذلك سياسات تستهدف بناء الإنسان وتكوينه حتى يكون قادرا على أداء واجباته بشكل فعال، وتشمل هذه السياسات توفير التعليم الجيد وربط سياسات التعليم باحتياجات السوق ، كما تشمل هذه السياسات التركيز على التعليم المهني والفني من خلال تطوير أساليب التدرييس في الجامعات والمراكز والمعاهد العلمية المتخصصة ، إن هذه الخطوات تسهم في خلق جيل مزود بالمعارف والتجارب وقادر على تحقيق انتاجية كبيرة تسهم في تنمية وازدهار الاقتصاد وتطوير وتحسين معيشة المجتمع ورفاهيته. ونظرا لتكاملية دور الفرد والمؤسسة فإن هذه الدول تعمل على خلق إطار عمل مناسب وملائم للفرد حتى يكون قادرا على تحقيق أكبر قدر من الانتاجية.
3- خلق الوعي بأهمية الانتاج الفردي
تسعى الدول التى ترغب في رفع انتاجية الفرد إلى خلق وترسيخ الوعي بين الناس حول أهمية الإنتاج الفردي ودور هذا الانتاج في المساهمة في الاقتصاد الوطني ، وهكذا تتشكل لدى الفرد أهمية بالدور الذي يقوم به والانتاج الذي يسهم به ضمن اقتصاد بلده. لقد أدى تراكم الوعي حول أهمية الانتاج الفردي بالعمال في اليابان إلى العمل دون توقف بعد الحرب العالمية الثانية مقابل وجبة غداء وذلك من أجل أن يعيدوا بناء بلدهم المدمر بسبب الحرب ، كما قام العمال المضربين إلى وضع قطعة قماش حمراء دليلا على مواصلة إضرابهم دون توقف العمل وبالتالي إرباك مصانعهم وخفض إنتاجها.
تسهم استراتيجيات زيادة الانتاجية الفردية في تطوير المجتمعات وتحقيق الرفاهية وذلك عبر خلق وعي بين الأفراد حول أهمية العمل الفردي وضرورة المساهمة في تحقيق الأهداف التنموية للدول، حققت العديد من البلدان نجاحات مميزة في هذا المضمار حيث كانت إنتاجية الفرد عنوانا لما حققت هذه الدول من نجاحات في المجالات التنموية.