تأثير الأسرة كبير وعميق وممتد في تنشئة الإنسان، لا يتوقف عند موت الأبوين، أو مفارقة الأبناء لهم، فالأبناء يصطحبون تلك التربية في سلوكهم ومسلكهم وتفاعلهم مع الحياة والناس، وكذلك في مستقبلهم المهني، وكما يقول الأديب الروسي المعروف “تولوستوي” : “العائلة إما أن تصنع إنسانا، أو كومة من عُقد”، فالتدليل الزائد له مضاره، أما القسوة عليهم فلا تقل خطورة، كما أن ترك الأبناء لتعلمهم الحياة دروسها من خلال التجربة المريرة، دون توجيه ورعاية معقولة من الأبوين، قد يكون عائقا أمام التنشئة السوية، يماثل فرض الرعاية الشاملة والكاملة على الأبناء، وكأنهم في “صوبة زجاجية” لا يتعاملون من البيئة المحيطة إلا من خلال وسيط، حجب عنهم حرارة المنافسة وطاقتها، وأعاق نموهم الذاتي.

الإفراط في الرعاية

في كثير من الأحيان، يكون إفراط الرعاية من الأبوين مسلكا غير جيد في التربية، فالإفراط  في رعاية الأطفال والناشئة، يعيق نمو شخصياتهم، وهو مسلك حذرت منه الكثير من الدراسات الحديثة، ووصفته بـ”الأبوة المروحية” أو “الأبوة المكثفة “، فبعض الآباء يمنعون أبنائهم من اتخاذ القرارات، وينوبون عنهم في ذلك، كما أن بعض الآباء يرهقون أنفسهم وأبنائهم من كثرة المتابعة والرعاية، والتدخل في كافة شئونهم، ومراقبتهم باستمرار، وهذه الحالة قد تكون جيدة في السنوات الأولى في حياة الطفل، لكن استمرارها يعيق التنمية الذاتية للأبناء.

ومن الخطورة أن تقفز الرعاية المفرطة من الأبوين، لمراحل متقدمة من حياة الأبناء، خاصة في مرحلة المراهقة أو الجامعة  والحياة العملية والوظيفية، وحسب دراسات نفسية واجتماعية فإن الكثير من الأبناء الذين يخضعون لتلك الرعاية المكثفة، شعروا بفقدان الثقة في أنفسهم، وفي القدرة على حل مشكلاتهم ومواجهة الحياة، وتزداد أزمة هؤلاء مع فقد الأبوين، فيشعر الإبن أنه ضعيف في الحياة لا يستطيع مواجهة أزماتها ومشكلاتها اليومية، لتبدو شخصيته في كثير من الأحيان مهتزة، تتسم بالتردد، وغياب القدرة على اتخاذ القرار، أو مواجهة المواقف بما تستحقه من الحزم وحسن التقدير.

يرى بعض الآباء أن حماية الطفل من خوض غمار المنافسة، نوع من الرعاية لهم، ولكن الواقع لا يؤيد ذلك، فالحماية الزائدة، تحرم الأبناء من وهج التنافس، وعزيمة الاصرار على الفوز، وهي جوانب نفسية، غاية في الأهمية في بناء الشخصية القوية والناجحة.

كذلك يتوهم بعض الآباء أن مساعدة الأبناء في الحصول على فوز أو ميدالية سيحقق السعادة للأبناء، لكن التجارب تؤكد أن غالبية الأبناء تكون سعادتهم أكثر عندما يحصلون على الفوز باستحقاق، فهذا الاستحقاق يغذي فيهم تقدير الذات، والشعور بالرضا والسعادة.

وعندما سئل عالم الأحياء الأمريكي الشهير ” إي.أو.ويلسون” عن أكثر عائق أمام نمو الأطفال؟ أجاب بأن هذا العائق يكمن في محاول الوالدين إزالة التجربة والخطأ من حياة أطفالهم، وخلق حالة من الهوس لدى الأبناء للعمل على الخراط التي رسمها لهم الآباء، ففي هذه الحالة يتحول الأبناء إلى ما يشبه أجهزة الكمبيوتر التي تمت برمجتها وليس عقلا إنسانيا مدربا للتعامل مع الغموض، فعدم اليقين والغموض هما الذين يخلقان الشغف في الحياة، وليس الصرامة التي يحاول الوالدان فرضها على حياة الأبناء.

لذلك كان تحذير الفيلسوف والخطيب الروماني القديم “سينيكا” بأن “الأم القلقة التي تمسح دموع ابنها دائما، لن تجعله يتحمل المعاناة في الحياة”، فالأباء الذين يمنحون الأبناء كل شيء يحتاجون إليه، فإنهم بذلك يحرمونهم من أهم شيء وهو شغف التطلع في الحياة، لذلك يرى بعض علماء النفس والأعصاب أن الأبناء يحتاجون إلى الخضوع لقدر من المخاطرة المعقولة، لأنها تمنحهم القوة، وتحفز عقولهم للابداع، فالمخاطر المعقولة مدرسة عظيمة للتعلم وبناء الخبرات.

النجاة من فخ الأبوة المفرطة

يتطلب النجاة من فخ الأبوة المفرطة، ألا يتخلى الأبوان عن رعاية الأبناء، ولكن أن يمارسا ذلك من وراء ستار، أي أن يراقبا الابن دون أن يشعر بهما، ولا يزعاجاه، ولا يتدخلا إلا في اللحظات التي تتطلب التدخل فقط، وهو ما يعني السماح للأبناء بخوض التجربة بحلوها ومرها، ثم يتوقف الأبوان مع الابن لتقييم ما تم، والاستفادة من التجربة، وبذلك يتحقق التوزان بين عاطفة الأبوين في الرعاية، وبين تأهيل الأبناء لممارسة أدوارهم الحياتية باستقلالية وبدافعية المنافسة وحماسة البدايات.

 الحرية مدخل لمقاومة نزعة الأبوة المفرطة، فمنح الأبناء حرية أوسع في حركتهم، وطريقة استكشافهم لمحيطهم والتفاعل معه، ينمي قدرات ابتكارية لتعامل أمثل مع الواقع، ويجعل حركة الأبناء منبثقة من ذاتهم، فيدرك الإبن مبكرا حدود القوة واستخدامها، وأهمية ضبط الغضب، وضرورة المبادرة، وتعدد طرق الوصول للأهداف، وحتى في حال فشله، فإن الفشل يكون وسيلة للتعلم الذاتي، أما في حال الإفراط في الرعاية، فإن كل الأسباب والاخفاقات يتحملها الأبوان، في حين يكتفي الأبن بدور المتفرج .

ومن هنا فالحرية مدخل لإلجام عاطفة الإفراط في الأبوة، ومدخل لتشجيع الابن على الامساك بزمام المبادرة، يؤكد بعض علماء التربية أن إحدى القواعد التي لا يقبل الآباء بتحطيمها، هي أن الأطفال لا يحتاجون إلى الكثير من الاهتمام، لذلك كانت نصيحة العلماء، هي أن يتوقف الأب عن الإدارة الدقيقة لكل جانب من جوانب حياة أبنائه، على اعتبار أن الطفل لم يولد مدمنا على كثرة الاهتمام به، ولكن وجد اهتماما مبالغا فتمسك به وطلب المزيد منه، ولا شك أن ذلك مفسدة كبرى.

 ومن الضرورة أن تقترن الحرية الممنوحة للأبناء بالمسئولية، حتى لا يقتنع الآباء بأن التقصير في الرعاية، هو مما تسبب في الكوارث التي وقع فيها الأبناء، فيرجع الآباء إلى ممارسة رعايتهم بصورة مفرطة للغاية، فتكون إعاقة أبنائهم أكبر، لذا فالمسئولية حماية للتوازن في حرية الأبناء، وبين إلجام نزعة الآباء في السيطرة الكاملة على حياة أبنائهم.

ومن تجارب الأبوة المفرطة في التراث العربي، قصة “أبو إسحاق الصابي” الأديب والشاعر والكاتب الكبير في العصر العباسي، والذي جاء من أسرة توارثت الطب، وكان والده يرغب في أن يسير الابن في نفس المسار، لكن الابن كان يرغب في شيء آخر، يقول أبو اسحاق: “كان والدي أبو الحسن، يلزمني في الحداثة والصبى، قراءة كتب الطب والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في البيمارستان، عشرون دينارا في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب ومائل إلى قراءة كتب الأدب كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب، وكان إذا أحس بهذا مني يعاتبني عليه وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة  أسلافك.

فلما كان في بعض الأيام، ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان، يتضمن أشياء كثيرة كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغا، قد تأنق مُنشئه وتغارب، فأجاب عن تلك المسائل وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يدي إلى كاتب، لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه.

فمضيت، وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه قال” يا بني سبحان الله، ما أفضل هذا الرجل وأبلغه.

فقلت له: هذا من إنشائي.

فكاد يطير فرحا وضمني إليه وقبل بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن فأمض فكن كاتبا”.