في موضوع الأخلاق في العصر الرقمي تبدو التكنولوجيا ليست محايدة من الناحية الأخلاقية والثقافية، فكل تقنية جديدة تأتي بثقافتها، وتأثيراتها السلوكية، حتى وإن كانت في المجال الصناعي، ففي بعض المجتمعات أثرت ميكنة النسيج على الترابط الاجتماعي، القائم على شيوع “أنوال النسيج” التي كانت تخلق وشائج قوية، فتسللت ثقافة جديدة سمحت بتغييرات اجتماعية، كذلك الرقمية، لا تعرف الحياد الأخلاقي، فهي أشد توسعا وتأثيرا على الإنسان، حتى بات يطلق على العصر الذي نعيش فيه هو “عصر الشاشة”، التي تقف في وجه الإنسان أينما التفت.
تشير الاحصاءات عام 2020 أن أكثر من 4.5 مليار شخص يستخدمون الانترنت، وأن 3.8 مليار شخص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، أي أن ما يقرب من 60% من البشر “رقميون”، كما أن أغلب سكان الأرض يمتلكون هاتفا محمولا.
تمنح الرقمنة الشخص القدرة، على أن يكون فاعلا ومتفاعلا مع البيئة الافتراضية التي يتسلل إليها وقتما شاء، ويفعل فيها ما يشاء، مشاهدا، وناشرا، ومتحدثا، ومُعلقا، وهذا فرض أن تكون للرقمنة أخلاقها، التي توقظ الضمير في ذلك الشخص المنعزل في زاوية ما، بهاتفه المتصل بالانترنت.
الرقمنة والتغيرات الأخلاقية
من أهم التغيرات الأخلاقية في عصر الرقمنة، تنامي النزعة الاستهلاكية، فلم تعد وظيفة الهاتف، هي الاتصال أو التواصل، وإنما بات “موضة” الموبايل تشغل الإنسان، وتغرقه في الاستهلاك من أجل الاستهلاك، حتى بات الفقر يعني فجوة التوقعات وليس العوز، وربما هذا ما تنبه إليه بابا الفاتيكان، عندما حذر قبل سنتين من تنامي شراهة الاستهلاك، واصفا إياها بـ”فيروس يهاجم الإيمان من الجذور”، وقال في عظته قبيل أعياد الميلاد: “نحتاج لفضح الوهم بأنك سعيد عندما تمتلك الكثير من الأشياء، قاوم الأضواء الساطعة للاستهلاك التي تلمع في كل مكان”، فهذا التسارع الرقمي جعل الإنسان ينظر إلى إمكانات الشاشة وليس إلى عطايا السماء، بل أصبح الإنسان مستغرقا في البحث عن الجديد الرقمي، وباتت نفسه لا تشبع أبدا، فمثلا، بلغ حجم بيع الهواتف الذكية في الربع الأول من العام الحالي 345.5 مليون وحدة، وهو عدد ضخم للغاية، خاصة إذا أدركنا أن غالبية هؤلاء استبدل هاتفه الذكي، بآخر أحدث منه.
يؤكد الفيلسوف الألماني ” يورغن هابرماس” أن التكنولوجيا تحولت إلى أيديولوجيا، والاستهلاك من أهم مرتكزاتها، فكل شيء قابل للاستهلاك، وهو ما يفرض خلق رغبات دائمة ومصطنعة لهذا الانسان المستهلك، فزادت الشراهة في مجال الاستهلاك الرقمي، الذي جعل الإنسان أسيرا للحظة الراهنة التي يشاهدها، ويغوص في عالمها الافتراضي.
وفي خضم الحديث عن الأخلاق في العصر الرقمي، نجد أن هذا الاستهلاك الرقمي بدل مفهوم السعادة والخلود بالنسبة للإنسان، فباتت سعادته تتحقق من الأعداد التي تتابعه على صفحات التواصل الاجتماعي، أم خلوده فأصبح مرتبطا بقدرته على التأثير والانتقال لحيز الشهرة الطاغية، ولعل هذا ما جعل بعض مشاهير الفضاء الرقمي أشبه بكائنات لا جذور لها، وبذلك انتقلت السعادة والخلود إلى العالم الافتراضي، الذي أصبحت له متطلباته الاستهلاكية في المجال الرقمي، في نوعية الهواتف الذكية، وسعتها التخزينية، وقدرتها على التواصل السريع مع الانترنت بجودة عالية، وصارت شهوة الاستهلاك الرقمي بئر لا قعر لها، ولا ترتوي أبدا، فالعطش دائم للاستهلاك الرقمي.
في كتابه “دستور الأخلاق في القرآن” للدكتور محمد عبد الله دراز، الصادر عام 1950، لمس هذا الانحراف نحو تحويل الحياة إلى الاستهلاك، وانعكاس ذلك على الأخلاق، فالاستهلاك الرفاهي خطير على الأخلاق، وأغلب الاستهلاك الرقمي، جعل باطن الإنسان يتآكل لصالح الشاشة، يقول “دراز”: “إن الصراع من أجل الرفاهية لا يبدو أنه يقترب من نهايته؛ بل إنه يتزايد بنسب متضاعفة، فكل نقطة تقدم، تثير الشهية إلى نقطة تقدم أخرى أعلى منها، وهكذا بحيث يمكننا القول بأننا بصفة عامة نكرس وقتًا أطول للبحث عن أسباب راحتنا، أكثر من الوقت الذي نستمتع فيه بالراحة. ولكثرة انهماكنا في هذا الإتجاه فإن ما كان مجرد وسيلة أصبح غاية حقيقية نجري وراءها. مما يجعلنا نقرر أن هذا الحرص الجامح على السعادة المادية يعتبر انحرافًا من الضمير في عصرنا الحاضر”.
وهي رؤية تقترب مما كتب عنه الصحفي النمساوي روبرت ميسيك Robert Misik الذي عرف الإنسان بأنه “كائن متسوق” بعدما أصبح الاستهلاك أحد معايير تحديد الهوية، بل جزءا من البنية الحياتية المعاصرة، وأحد وسائل بناء الهوية، فالهوية تتحدد بنوعية وكمية الشراء.
تحدث “الفيلسوف البولندي” “زيجمونت باومان” في كتابه “الأخلاق السائلة” أن القيمة العليا التي تحكم الحياة حاليا هي الاستهلاك، والاستهلاك لا يحتاج إلى ضوابط ولكن يحتاج إلى إطلاق للرغبات من عقالها، فالرغبة تحفز الانسان للتخلص مما في يديه لشراء الجديد، لكن ألمح “بومان إلى أن ذلك أدى إلى عدم اليقين، والحقيقة أن الانسان إذا كان خواء من الداخل صفرت فيه كل ريح، إذ تغيب القيم الضابطة والأخلاق الحاكمة لسلوكه، وتقتصر رؤيته على ما يستهلكه.
أسرى الشاشة
أصبح الإنسان أسيرا للشاشة لا يستطيع أن يستغني عنها، فنشأت عبودية جديدة، لها أخلاقها التي ترسخها، فهذا “الأسر الرقمي” أيقظ الكثير من الشهوات في النفس، وكما يؤكد الدكتور “طه عبد الرحمن” اقترنت الفُرجة بالفرج” أي أن الصورة صرفت متعة الإنسان إلى المشاهدة، وهذا ما رفع الطلب على المواقع الاباحية، وبات الكثير ممن يمتلكون الهواتف الذكية، يرتادون تلك المواقع، أو تُفرض عليهم مشاهد بعض المقاطع غير الأخلاقية، وهو ما شجع المال الخبث للاستثمار في الاباحيات، فضخ أكثر من مائة مليار دولار.
ويلاحظ في مجال الأخلاق في العصر الرقمي، أنه مع الرقمية توارت عن الكثير من الناس ثقافة الستر، وأخلاقياته، فأصبح التعري أمام كاميرا المحمول أحد وسائل الدخل السريع والكبير، لكن الذي تخفيه تلك المكاسب، هو الحجم الضخم للمشاهدين، بعدما أصبح العري أموالا يجنيها هؤلاء الذين يهتكون الأستار، ويغيبون المعاني السامية للأخلاق، تحدث ” طه عبد الرحمن” عن ظاهرة التكشف، ليس الجسدي فقط، ولكن التكشف النفسي، باعتباره الأخطر، إذ زالت قشرة التحضر عن الكثير من هؤلاء الرقميين، وبات الكثير لا يتحرج من نشر مقاطع مخجلة لنفسه أو زوجته أو جيرانه، سواء بطريق الاتفاق أو حتى من خلال التلصص والتجسس، فخرج هذا الانسان من ظلمة الجهل الرقمي، إلى ظلمات الانحدار الأخلاقي، تشير الاحصاءات الأخيرة في بريطانيا-مثلا-أن ثلث الفتيات البريطانيات زرن المواقع الاباحية، في مقابل ارتفاع النسبة إلى 75% من الشباب البريطاني.
هذا التلازم بين الرقمية والجنس، يجعل الاخلاق الانسانية في خطر، بل يجعل النوع الانساني ذاته في مأزق كبير، فالأنسان يهدر طاقتها الجنسية في المشاهدة، وليس تحقيقا لمعنى الاستخلاف في الأرض، والأخوف ما أشارت إليه بعض الدراسات الغربية من أن ما يقرب من 88% من المقاطع الاباحية أصبحت مقترنة بالعنف الجسدي، و49% منها يحوي على ألفاظ بذيئة، كذلك فمشاهدة المواد الاباحية تخلق حالة من عدم الرضا عن الجسد، أي أن غالبية الناس أصبحت تكن الكراهية لنفسها ولجسدها.
هذه الخطورة الرقمية على الأخلاق تحتاج إلى منظومة أخلاق تعالج آثار تلك التقنية، ففي مسار الأخلاق في العصر الرقمي لكل تقدم مشكلاته الأخلاقية، فالفرد الذي ينعزل بهاتفه الذكي بعيدا عن الأعين، ويستطيع أن يقوم به بالكثير من العمليات كالتصوير والنشر والتفاعل، باتت في حاجة كوابح أخلاقية قوية، حتى لا يوظف الرقمية في الانحراف، فالأخلاقيات الرقمية تفرض يقظة الضمير، وتقوية المراقبة، وهي قضايا أعطاها علماء الأخلاق والتربية المسلمون نصيبا وافرا ، حتى إنه من النادر أن ترى كتابا في الأخلاق لا يتحدث عن المراقبة، التي هي صوت الخالق سبحانه وتعالى في أعماق الإنسان، وهنا لابد أن يدرك هذا الإنسان الرقمي جيدا مقولة “ابن القيم“: “فلا تقدم لله ما يكره، ثم تطلب منه ما تحب”.