كان المجتمع الإسلامي في العصر ما قبل الحديث ينقسم وفق معايير مثل المهنة والنسب والمكانة إلى قسمين: الخاصة والعامة، وكان مفهوم الخاصة يطلق على فئتين هما: أرباب السيف وأرباب القلم، واستمر هذا التقسيم التقليدي قائما حتى القرن التاسع عشر الذي شهد تغير كبير في وضعية العلماء ونفوذهم الاجتماعي بفعل مشروع التحديث، وفي السطور التالية أقدم تعريفا موجزا بعلماء الشريعة التونسيون وأدوارهم الاجتماعية ومواقفهم الفكرية خلال القرن بهدف تقديم بعض التفصيلات حول فئة العلماء ودورهم في مناطق العالم الإسلامي المختلفة.
التكوين المعرفي للعالم التونسي
يزاول الطفل التونسي -مثل أترابه في العالم الإسلامي- تعليمه الأولي في سن صغير لا يتجاوز الخامسة أو السادسة من خلال الكتاب، وهو عبارة عن بناء متواضع مستقل أو ملحق بالمسجد، وقد انتشرت هذه الكتاتيب على نطاق واسع حتى تجاوز عددها في مدينة تونس المائة على حين بلغ مجموع كتاتيب البلاد قرابة ألف خمسمائة كتاب، وفور التحاقه يشرع الطفل في حفظ القرآن عبر ألواح خشبية كما يتلقى بعض مبادئ القراءة والحساب والنحو، وعند بلوغه سن المراهقة يسلك أحد سبيلين إما الالتحاق بالمدارس الدينية الكبرى في: القيروان والزيتونة والكاف أو الانصراف نحو مزاولة مهنة فرضتها الأسرة أو ظروفه المادية المتعسرة.
ومن الجلي أن جامع الزيتونة أضحى أهم حاضرة علمية في البلاد بعيد إصدار أحمد باي قرار ترتيب التدريس بالجامع عام 1842، وبمقتضاه تم تأسيس نظارة علمية للجامع فتعين له ناظر يقوم على شئونه، ومجلس علمي ضم ثلاثين مدرسا من المذهبين المالكي والحنفي، وخصصت رواتب معلومة لهيئة التدريس، وقد أفضى ذلك في نهاية المطاف إلى ازدياد إقبال الطلاب عليه، وقدر عدد خريجيه سنويا بتسعمائة خريج في نهاية القرن.
وكانت مناهج التعليم وطرائقه شائعة ومعتمدة، فكان الطلاب يدرسون العلوم النقلية والعلوم العقلية إضافة إلى علوم العربية التي كانت تشكل أكثر من ثلث المنهاج الدراسي، ويحضرون ثمانية دروس يوميا تبدأ منذ الفجر حتى نهاية اليوم باستثناء الخميس والجمعة، وكان للطالب حرية اختيار الكتاب (المنهج) الذي يدرسه، وحرية اختيار الشيخ (المعلم) ولكنه كان ملزما باختيار أحد المدرسين مستشارا أو مرشدا له يرشده في اختيار المدرسين وفي كيفية تنظيم دروسه- وهو ما لا نجد له نظيرا في الأزهر- وتستغرق مدة الدراسة عادة ثماني سنوات يخضع الطالب في نهايتها إلى امتحان شفوي من أجل نيل الشهادة المسماة “شهادة التطويع”، التي كانت بمثابة جواز المرور للالتحاق بسلك العلماء.
الوظائف والأدوار الاجتماعية
كان العالم التونسي في القرن التاسع عشر يشغل ثلاث وظائف دينية رئيسة، وهي:
– التعليم الشرعي: وهي الوظيفة الأهم التي يشغلها خريجو المعاهد العلمية، وكان يشترط في شاغلها أن يكون حائزا على عدة “إجازات” من شيوخه تثبت تمكنه من هذه المصنفات وقدرته على تدريسها، وكان الشبان المدرسون يدعون “المتطوعين” لأنهم حائزون على شهادة التطويع، كما كان هناك مدرسون أكثر خبرة وكفاءة وهم أساتذة المرتبة الأولى من كبار المشايخ، وأساتذة من المرتبة الثانية وهم دونهم في الخبرة والكفاءة والقدرة العلمية.
– القضاء: يحق للعالم كذلك تولي وظائف القضاء، وكان كبار المشايخ يحتلون المناصب القضائية الكبرى ويتقاضون رواتب ضخمة، وقد بدأ عدد كبير منهم عملهم كشهود عدول يصادقون على الوثائق القضائية، وفي منتصف القرن تم إلغاء عدد من شهادات العدل في المحاكم فانخفض عدد العدول من ستمائة إلى حوالي مائتين فقط، وفي أعقاب الاحتلال الفرنسي عام 1881 تم إقرار القوانين الوضعية الأمر الذي أفقد العلماء قسما كبيرا من وظائفهم التي باتت قاصرة على القضاء الشرعي.
-إقامة الشعائر الدينية: وهي المجال الثالث الذي كان متاحا أمام العالم، حيث كان بإمكانه أن يرتقي وظيفة الإمامة ويتدرج في مراتبها، وكان عدد الجوامع والمساجد والزوايا ضخما بحيث أن العاصمة التونسية ضمت مائتي مسجد وقرابة عشرون جامعا لأداء الجمع، وكان أئمة الجوامع الكبرى يختارون من أهل المرتبة الأولى من العلماء، أما المساجد والزوايا فكان يؤمها المتطوعين أو أرباب المرتبة الثانية.
ومن الناحية الواقعية لم يقتصر دور العلماء الاجتماعي على أداء الوظائف السالفة وإنما تعداه إلى تأدية أدوار أخرى أكسبتهم وضعية اجتماعية مميزة، ومن أهمها: ضمان حقوق الأطفال والمعاقين ذهنيا، والتصرف نيابة عن النساء -في حال غياب قريب لهن- لإتمام مراسم الزواج، وتنفيذ الوصايا، وإدارة الأوقاف العامة، ومنع البناءات غير المشروعة التي تتخطى حدود الطرقات والساحات العامة، ومراقبة الخزانة العمومية، ومما يبرهن على تجاوز دورهم دائرة القضاء والتدريس أنهم تصدوا بحزم للتغلغل الغربي في المسائل المتعلقة بعدم جواز تمليك الأراضي للأجانب وهناك فتاوى قاطعة في ذلك، من جهة أخرى واجه العلماء عملية التغريب الفكري التي انتشرت في أعقاب الانفتاح على الغرب حتى دعا شيخ الإسلام أحمد بلخوجة إلى رفع كل الكتابات عن الإسلام إلى المجلس العلمي لفحصها وإبداء الرأي فيها.
العلماء ومشروع التحديث
شهدت تونس في النصف الأول من القرن أولى محاولات التحديث -أي محاكاة النموذج الغربي في النظم والمؤسسات والقوانين- وقد سارت حركة التحديث التونسية بالتوازي مع المحاولتين العثمانية والمصرية بتأخر طفيف، وفي حقبة زمنية وجيزة أسفرت عن: تحديث الجيش وتزويده بأسلحة أوروبية، وتأسيس أكاديمية عسكرية يشرف عليها الأجانب، وإصدار مرسوم يقضي بإعفاء اليهود من زيهم المخصوص ومنحهم حق تملك الأراضي، وإصدار أول دستور حديث للبلاد عام 1861 يؤمن حرية العبادة، ويقر المساواة بين المسلمين وغيرهم، وبمقتضى الدستور تم إنشاء مؤسسات قضائية كالمجلس الأكبر فصلت القضاء المدني عن القضاء الشرعي.
ورغم أن العمل بالدستور لم يدم العمل به سوى ستة أعوام إلا أن جل العلماء رفضوا المشاركة في صياغته، وعارضوا الانخراط في المؤسسات القضائية الجديدة وتمثيل غير المسلمين بها، ويمكن تفهم دواعي هذا الرفض العلمائي فقد كانت هذه الاجراءات ذات طبيعة علمانية واضحة ولم يمكن ممكنا تسويغها شرعيا حتى ولو أرادوا.
ولا ينبغي أن يحملنا هذا على الاعتقاد أن العلماء اتخذوا موقف الرفض من مشروع التحديث، فهم على سبيل المثال لم يعارضوا سياسة التحديث الطبي التي قادها الأطباء الأجانب، ولم يبدوا أدنى اعتراض على المشروعات التقنية؛ مثل قناة جلب المياة المعروفة بالحنايا، بل لقد اظهروا ارتياحا للعمل بالتلغراف الذي أتاح للقاضي المالكي التونسي إعلام القضاء في كافة الانحاء بحلول شهر رمضان، ويمكن تفسير هذا القبول على ضوء عاملين، الأول: أن هذه المشروعات لا تعلق لها بثوابت الشريعة، والثاني: أن كتاب الوزير الأكبر خير الدين (أقوم المسالك) ربما آتى بعض ثماره، فكان من أهدافه إقناع العلماء المعارضين لمشروع التحديث بعدم مخالفته للشريعة، وتفنيد الحجج النظرية والاعتراضات الدينية الموجهة إليه، وعلى أي حال كان هذا الكتاب خطوة ضرورية لازمة قبيل إقدام خير الدين على إصلاحاته الواقعية وعلى رأسها تحديث التعليم الزيتوني.
خلاصة القول أن علماء تونس قاموا بدور اجتماعي واسع المدى ولم يقتصروا على أداء وظائفهم الرسمية ولعبوا دورا مؤثرا في الحياة الاجتماعية والفكرية، ولكن هذا الدور أخذ في الانحسار منذ منتصف القرن التاسع عشر بفعل تمدد المشروع التحديثي ونجاحه في خلق نخبة علمانية حلت تدريجيا محل النخبة الدينية.