لحظات التفكير الهادئة وتدافع الخواطر في النفس، قليلة نادرة وسط ظروف الحياة المعاصرة. وحين تأتي تلك اللحظات الخاطفة، تكون غاية في الإيمان، لأنها مرتبطة بالتفكير فيما حولنا من أمور لا نستشعرها إلا نادراً، ومن تلك اللحظات التي لا أشك أن أحدكم ربما مرت عليه مرة، هي تلك المتعلقة بتوزيع الأرزاق والحكمة الإلهية في طريقة توزيعها، التي لا يمكن فهمها للوهلة الأولى.
ذات يوم كنت وزميلا لي في حديث حول موضوع توزيع الأرزاق والفقر والغنى، وكنا نتفكر في المسألة من المنطق البشري القاصر غير الحكيم، واتفقنا على أن ما نراه اليوم أو ما رآه أسلافنا في الأيام الغابرة، أو ما سيراه أحفادنا في المستقبل البعيد في مسألة الأرزاق وجني الثروات والأموال، إنما هو أمر لا يعتمد على ذكاء أو قوة عقل وجسم أو أي سبب مادي يمكن أن يخطر على قلب بشر.
اليوم قد ترى مسكيناً ذا متربة تشفق لحاله، وتعتبر نفسك وأنت المتوسط الحال مقارنة به، في أفضل حال وفي غنى يتمناه ذاك المسكين، وإذا هو بعد حين من الدهر، ليس هو ذاك الذي عرفته قبل زمن، بل بقدرة قادر انفتحت أبواب الدنيا عليه، ووسع الله في رزقه حتى تبدأ تشفق على نفسك حين تعيد المقارنة!
وترى آخر تلعنه الأرض ومن عليها من شدة ظلمه وجبروته، ومع ذلك تجد عنده من (الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) من المال المتدفق عليه وبأشكاله المتنوعة وبشكل مستمر لا يتوقف.. في الوقت الذي ترى تقياً نقياً أو عابداً خاشعاً، يصل الليل بالنهار اجتهاداً في العمل والحركة والعبادة، تجده مع ذلك من أصحاب الدخل المحدود، بل وربما المحدود جداً! وترى ثالثاً فاسقاً لا يعرف صلاة ولا زكاة، أو دين وعبادة، وهو يرفل في النعيم ويبذر الملايين! فما الحكاية؟
هل الرزق مرتبط بكثرة العبادة أو قلتها؟ هل هناك علاقة بين الرزق الواسع وبين دين المرء؟ هل هناك منطق إلهي مختلف عن منطق البشر في مسألة الأرزاق؟ الأسئلة في هذا المجال كثيرة قد تطرأ على البال في أي وقت أو أنها طرأت على بالك في لحظة من اللحظات وفي وقت من أوقات عمرك المديد بإذن الله..
الحقيقة التي يجب أن ندركها، ونحن نتحدث عن مسألة الأرزاق، وما إذا كان هناك منطق إلهي مختلف عن المنطق البشري فيها، هي أن الله سبحانه وتعالى له حكمته الخاصة في تلك المسألة الحرجة، مثلما له حكمته في الأمور كلها، كأن يموت الصغير قبل الكبير، أو أن تتزوج امرأة وتعنس أخرى، أو يرزق الله رجلاً البنات ويحرمه الأولاد أو العكس، أو غيرها من أمور حياتية كثيرة لا نفهمها بعقولنا المحدودة وإن تفتقت عن أفكار غاية في العبقرية والإبداع والفهم.
الله سبحانه له حكمته في أن يوسع في رزق ذاك الغبي الجاهل أو ذلكم الفاسق العربيد، أو كافر يعادي الله ورسوله والإسلام والمسلمين، أو ملحد بليد لا يعترف بوجود الله أو أبله آخر يشكك في وجوده سبحانه، في حين يضيق الرزق على ذاك العابد التقي النقي، أو مؤمن مخلص نظيف القلب، أو مجاهد في سبيله أو داعية يهتدي على يديه الآلاف من البشر.. فما هذا المنطق؟
إنه دون ريب المنطق الإلهي، الذي يختلف عن المنطق البشري تماماً ولا شبيه له مطلقاً. نحن نشاء أمراً، والله يشاء آخر.. نحن نفعل ونخطط ما نريده لأنفسنا ولغيرنا، والله يقرر ما يريده هو لنا ولغيرنا.. تدعو فلاناً إلى التقوى والعبادة حتى يفتح الله عليه أبواب الرزق، فتراه يرد عليك قائلاً: « وما رأيك في فلان الفاسق الفاجر الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف ديناً أو شرعاً، وهو مع ذلك لا يدري كم رصيده في البنوك المختلفة من ضخامته، وكم يملك من عقارات وأسهم وغيرها من خيرات الدنيا؟! »، فتقول له : إن الله قد يكون وسع له في رزقه وحرمه من الصحة، فيقول لك إنه يتمتع بصحة أفضل مني ومنك ومن أي إنسان على وجه الأرض!
تدخل عليه من جانب آخر وتقول : إن الله قد يضيق في رزق إنسان مؤمن تقي ليوسع له في الآخرة ويرزقه الجنة، فيرد عليك بأن فلاناً بن فلان صاحب دين وتقوى، ومع ذلك فخزائنه شبيهة بخزائن قارون، وهو سعيد في دنياه ويشكر ربه على الدوام، ويتصدق باستمرار وزكاة ماله لا يتأخر أبداً في توزيعها على الفقراء والمحتاجين كما أمر الله.. فهو إذاً سعيد في دنياه وسيسعد في آخرته أيضا إن شاء الله.. فتحتار أنت مع هذا الإنسان الذي يجادلك بمنطق سليم، فلا تملك حينها سوى القول كما بدأنا الحديث في أن الأرزاق مسألة لا يعرف حكمة توزيعها على البشر سوى الله.
وأحسب كخلاصة لهذا الموضوع، وحتى لا نتوه كثيراً في مسألة توزيع الأرزاق، التسليم بذلك التقدير الإلهي وعدم الخوض في الكيفيات والتساؤلات، فمن اقتنع فذاك حظه من الإيمان ومن لم يقنع فذاك حظه أيضا من الإيمان والأمر لله من قبل ومن بعد.