فرانكفورت، الباردة المزدحمة، عاصمة المال والثقافة ومعرض الكتاب الأضخم في العالم، المدينة التي تحتوي أهم الطرق في أوروبا كما يحتوي كيس الحاوي عشرات الأفاعي، وترتفع في جنباتها مداخن المصانع وتقذف المطابع بالكثير من الكتب كل يوم، وتطل على نهر الماين كما تطل أم على ولدها الأثير عليها بعدما ارتدى ملابسه الجديدة.

كانت فرانكفورت مكاناً يصلح ليخرج منه النجوم، أو ليمروا به، ليس بدءاً بالإمبراطور شارل العظيم، ولا مروراً بغوته، الشاعر والأديب العجاب، ولا انتهاءً يضيف هذه المقالة: كارل هنريتش بكر.

بدأت رحلة بكر في هذه الحياة مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، الذي كان العالم يغلي فيه غليان المرجل قبل أن ينفث نفثته الحارقة المدمرة، التي جاءت بعد نحو أربعين عاماً على هيئة حرب عالمية لم تبق ولم تذر..

وفي أسرة ثريةٍ عاش بكر، وكان له -إضافة إلى حظه الضخم من النشأة الهانئة- حظ ضخم من الذكاء والنباهة، وحظ أضخم من البذل والجلَد، وهذه حظوظ تبرهن عليها أعماله ومنجزاته.

غير بعيد عن ألمانيا، وفي مدينة لوزان السويسرية الناطقة بالفرنسية، توجد جامعةٌ عريقة تسمى باسم المدينة التي تقع في قلبها وإلى جوار كنيستها، في جامعة لوزان قضى بكر بعض الوقت، قبل أن يعود إلى ألمانيا ليدرس في جامعة هايدلبرغ.

وفي تلك الجامعة أقبل بكر على التعلم إقبال الناقة العطشى على الماء، وكان يتلقى دروساً خاصةً على أكابر علماء جامعته، إضافة إلى جهوده الخاصة التي يبذلها في تعلم اللغات الشرقية، والاطلاع على تاريخ الأديان، واستذكار دروس الجامعة.

مطلع القرن العشرين، يبلغ بكر السادسة والعشرين من عمره، ويظفر بالدكتوراه، ويشد رحاله إلى فرنسا ثم إسبانيا، يتجوّل بين غرناطة وإشبيلية وقرطبة، ثم يشرع في نسخ بعض المخطوطات العربية من مكتبة “الأسكوريال” قرب مدريد، تلك المكتبة التي تضم الآلاف من نفائس المخطوطات التي جُمعت أثناء فترة محاكم التفتيش وخروج المسلمين من الأندلس.

طالع بكر بعض الكتب، ونسخ من البعض الآخر، ومضى إلى الشرق، إلى القاهرة  التي كانت في ذلك الحين واحدة من أجمل مدن العالم، بميادينها، ومبانيها، ومعالمها، وحدائقها، كما كانت تشهد حراكاً ثقافياً ضخماً، وتزدحم بشخصيات علميةٍ وفكرية كان لها أبلغ الأثر في مجرى تاويخ مصر والعالم العربي.

كان أول ما صنعه بكر في القاهرة: تحسين لغته العربية من خلال التتلمذ على أستاذ مصري. ثم انطلق يستكشف مصر في رحلة طويلةٍ، انحدر فيها من القاهرة حتى الصعيد ثم توغل في الجنوب حتى بلغ الخرطوم، وعاد إلى ألمانيا مروراً بإسطنبول وإيطاليا.

لم يلبث بكر في دياره سوى شهور قليلة، عاود بعدها السفر إلى مصر، ليتعرف إلى بعض شخصياتها البارزة كالشيخ محمد عبده، ويقرأ المجتمع الإسلامي على صفحات وجوه الناس، كما قرأه على صفحات الكتب التي ألفها أساتذته من المستشرقين: مثل فلهوزن وجولدتسيهر وهورخرونيه.

كان بكر محباً للشرق، محباً لعمله، يبذل فيه جهداً غير قليل، وينشط في تأمل القضايا التي يدرسها نشاطاً يستحوذ على كيانه كله، عقله، وعاطفته، ونفسه، وقد أوتي ذهناً وقاداً، وبصيرة خارقة، وقدرة على التحليل الشامل مذهلة.

يبدو أنه كان بود بكر أن يبقى في مصر ما امتدت به الحياة، غير أن ثمة عملاً يستدعي انتقاله من القاهرة إلى هايدلبيرغ ليعمل أستاذاً مساعداً في جامعتها مدة ست سنوات، قبل أن ينتقل إلى هامبورغ التي تدعى “فينيسيا الشمال”، بجسورها الكثيرة المقامة على جداولها ومجاريها المائية التي تعيي من يود إحصاءها، وتزدحم فيها الحدائق والبحيرات، والأسواق والكنائس ومدن الألعاب، والجامعات والمعاهد، والمعامل والمصانع.

في هامبورغ أسست الحكومة معهداً خاصاً بالدراسات الاستعمارية وقضايا إدارة الدول الاستعمارية للأراضي التي احتلتها، والمشكلات الكثيرة التي واجهت المستعمرين، وأوكلت الحكومة أمر الإشراف على هذا المعهد إلى بكر، الذي أداره ست سنوات حافلةً بجد واقتدار، ثم ذهب أستاذاً في جامعة بون.

ولكن العالم كله سوف يفجع في السنة التالية بخبر نشوب الحرب العالمية الأولى، التي نالت من ألمانيا ما لم تنله من أية دولة أخرى، وخاصت ألمانيا الحرب، وحالفتها الدولة العثمانية، واستدعي بكر ليكون مستشاراً سياسياً لحكومته باعتباره خير من يعرف الترك.

وباءت ألمانيا بالخسارة في تلك الحرب، كانت خسارةً موجعة سرعان ما أفاقت منها ألمانيا، وشرعت تعيد بناء نفسها، وترتب أوراقها من جديد، وكان بكر واحداً من رجالات الدولة في تلك المرحلة.

خاض بكر بحر السياسة، مستشاراً، ثم وكيل وزارة، ثم وزيراً، ولم يكن مجرد موظف كبير يذهب إلى مكتبه صباحاً ويغادره بعد الظهر، بل كان عالماً وناشطاً ثقافياً، يكتب الأبحاث، ويشارك في المؤتمرات، ويلقي المحاضرات، ويتابع جديد الاستشراق، ويدير مجلة “الإسلام” التي أسسها وصارت من أهم مجلات المستشرقين.

وبعد خمسة عشر عاما من التقلب في المناصب الحكومية العليا، استقال بكر من العمل الحكومي، وعاد إلى دراساته وأبحاثه، وبعد سنوات ثلاث غادر الحياة عام ١٩٣٣.