كيف يمكن لشخص لم يتلقَّ التعليم الأكاديمي أن يكون نموذجا للأخلاق والقيم السامية، بينما قد يقع المتعلم في براثن الجهل الأخلاقي؟ يعالج القرآن الكريم هذا السؤال من خلال تقديم مفهومين عميقين: “الأمي” الذي يفتقر للمعرفة الأكاديمية و”الجاهل” الذي يعبر عن فساد السلوك والأخلاق. إن هذا التمييز يفتح آفاقًا للتأمل في العلاقة بين المعرفة والقيم، ويحفزنا على إعادة النظر في معايير تقييم الإنسان. فهل يمكن أن تكون الأمية معبرة عن بساطة معرفية دون نقص أخلاقي؟ وهل الجهل دائمًا مرادف لانعدام المعرفة؟ في هذا المقال تحليل دلالات الأمي والجاهل في القرآن الكريم، واستكشاف كيف يمكن لهذا التكامل أن يصبح أساسا لنهضة إنسانية متوازنة.
دلالات (الجهل) في القرآن الكريم
الجهل ليس مرادفًا للأمية، والجاهل ليس عكس المتعلم الذي لا يقرأ ولا يكتب كما قد يُظن. ولا تلازم بين التعليم وسوء التصرف، أو حسنه، فقد يكون المتعلم فظًا عديم الخلق، والعكس صحيح. وقد استعمل القرآن الكريم لفظة “جاهل” لوصف السلوك والتصرف القائم على الخلق السيئ والمذموم. لنقف على الآيات الآتية:
- الجهل يعني الاستخفاف بالناس ومحاولة الضحك عليهم أو استغلالهم: { قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (البقرة: 67).
- عدم معرفة الله كما يليق بجلاله جهل، والاعتقاد بالله على غير وجهه جهل: { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } (آل عمران: 154). ومثله: { َالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138).
- الخروج عن شرعة الله قصدًا، واعتقاد أن غيره من الشرائع أفضل منها جهل، وتفضيل العادات والتقاليد وموروثات الآباء على الدين جهل: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة: 50)
- عدم الإيمان بالقدر، وعدم الرضا بما اختاره الله للإنسان جهل: { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (الأنعام: 35).
- العناد والإعراض عن الله والجحود به جهل: { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (الأعراف:198 – 199).
- الركون إلى الخطأ والإصرار على الباطل بعد معرفته جهل: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (هود: 46). ومثله: { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (يوسف: 33).
- سوء التصرف في التعامل مع الناس، قولاً كان أو فعلاً، جهل: { قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } (يوسف: 89).
- عدم الالتزام بتعاليم الإسلام بعد معرفتها جهل: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } (الأحزاب: 33).
- السب واللمز والغمز والتنمر، وما يقال عنه اليوم “خطاب كراهية”، جهل: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } (الفرقان: 63).
- عبادة غير الله وعدم الخضوع لأوامره والإذعان له جهل: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (الزمر: 64).
- التمييز العرقي والعنصرية والعصبية والقبلية والاستعلاء والظلم جهل: { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } (الفتح: 26).
وعليه، فالضابط لمعيار الجهل والجاهل هو السلوك والأخلاق لا المعرفة، فالنقاط الواردة أعلاه لا تدل على عدم معرفة أو إدراك ، وإنما على سوء التصرف وعدم سلوك الأخلاق السليمة. على عكس كلمة الجاهل نجد الكلمات التي تقابلها : الأخلاقي، العاقل، صاحب الخلق، صاحب الذوق وغيرها.
وبالتالي يتضح الفرق بين مفهومي الجاهلي والأخلاقي :
- الجاهلي: يرتبط هذا المفهوم تاريخيًا بثقافة الجهل أو السلوك غير الحضاري الذي لا يلتزم بالقيم أو الأخلاق، وقد يكون المتعلم جاهليًا إذا فقد البوصلة الأخلاقية.
- الأخلاقي: هو الشخص الذي يلتزم بالقيم والمبادئ الأخلاقية، سواء كان متعلمًا أم غير متعلم. ولعله من النصطلخات التي تصلح أن تكون مباينا للجاهلي، ومثله: صاحب الخلق، أو العاقل.
فالضابط والمحور هنا هو السلوك والقيم الأخلاقية.
تجدر الإشارة إلى بيان أن جميع الآيات الواردة فيها كلمة “جهل” هي بهذا المعنى؛ أي السلوك والأخلاق لا مجرد عدم المعرفة. لكن هناك آية تجعلنا نقف بمزيد تأمل وتدبر، دون حسم تعميم الحكم، وهي: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 273). إذ يفهم من الوهلة الأولى أن الجهل في هذه الآية يأتي بمعنى عدم المعرفة بفقرهم، على أن: { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } يجعلنا نتمعن أكثر؛ وننظر في السياق ونغوص في كتب التفاسير للوقوف على من أشار إلى معنى لطيف غير المعنى الظاهري.
دلالات (الأمية) في القرآن الكريم
على عكس الجاهل، فالأمي ليس مرتبطًا بسلوك أو تصرف أخلاقي بقدر ما هو وصف لحالة حصول المعرفة من عدمه. وقد بيّن القرآن الكريم أن الأميّ هو الذي لا يعرف القراءة والكتابة فردًا كان أو جماعة: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } (العنكبوت: 48)، وهي أفضل تفسير بالأثر لقوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (الأعراف: 157). وقد قابل القرآن الكريم بهذا بين الأمية والعلم أو المعرفة.
والآيات الآتية تدلنا على ذلك:
- الأميّ هو الذي لا يعرف القراءة: { أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (البقرة: 77-78).
- الأميّ وصف لحال أغلب الناس في كثير من المجتمعات الإنسانية سابقًا، والنبي محمد ﷺ لم يتعلم القراءة أو الكتابة بهذا المفهوم: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157). فبالرغم من كونه أمّيًا، نجد أنه حارب الجهل والجاهلية، وعلّم الناس الدين الذي يُعدّ أصل القيم الإنسانية والأخلاقية الداعمة للفطرة السوية. وهذا جزء من معجراته، ويؤكد ما مضى قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).
- من الأمم الذين عرف أغلبهم بالعلم والكتابة والقراءة اليهود “أهل الكتاب”، في مقابل السواد الأعظم من الأمم الذين لا يعرفون الكتابة أو القراءة: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 20). ولهذا كانوا يُطلقون على سواهم بالأميين وفق البيان القرآني في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران: 75).
- حال أغلب الناس في الجزيرة العربية قديمًا هو عدم معرفة الكتابة والقراءة: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (الجمعة: 2).
تعريف الأمي والمتعلم
بناء على ماسبق نستطيع التفريق بين الأمي والمتعلم :
- الأميّ: هو الشخص الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وقد يكون لديه معارف حياتية ومهارات عملية لا تعتمد على التعليم الأكاديمي.
- المتعلم: هو من تلقى تعليمًا أكاديميًا أو تدريبيًا، ويمكنه القراءة والكتابة والتفاعل مع العلوم والمعارف الحديثة. وهو المصطلح المباين للأمي.
فالضابط والمحور هنا هو المعرفة الأكاديمية والقدرة على التعلم.
الفرق بين الأمية والجهل
وعليه فالفرق الجوهري يكمن في أن الأمية والتعلم تعكسان جانبًا معرفيًا وتقنيًا. بينما الجاهلية والأخلاق تعكسان جانبًا أخلاقيًا وقيميًا. ويقودنا هذا إلى العلاقة بينمهما. وتكمن العلاقة بينهما في الآتي:
- يمكن أن يكون الإنسان أميًا ولكنه أخلاقي وحكيم، وفي الوقت ذاته يمكن أن يكون متعلمًا ولكنه جاهلي السلوك.
- الأخلاق والمعرفة لا تتلازمان بالضرورة؛ فالتعليم لا يضمن القيم الأخلاقية، والقيم الأخلاقية لا يشترط لها التعليم.
كما أنه لا علاقة تلازمية بين الخلق والتعليم الأكاديمي بشكل عام ووفق الشرح أعلاه، فكذلك لا علاقة تلازمية ضرورية بين العلم والتدين، فقد يكون الإنسان مخترعا ومبدعا في مجال كوني ما، لكن قد يكون ملحدا، أو غير عالم بدين من الأديان ناهيك عن الدين الصحيح منها.
الخلاصة
هذه الثنائية تشجع على إدراك أهمية التكامل بين العلم والمعرفة من جهة والقيم والأخلاق من جهة أخرى لبناء إنسان متوازن.