3 ـ أسلمة المعرفة والمنهج :
إن المنهج التوحيدي الذي تفانى أبو القاسم حاج حمد في سبيل التنظير له، يفضي في غاياته إلى الرؤية الكونية التوحيدية، بين ثلاث جدليات مطلقة التكامل، هي الغيب والإنسان الطبيعة، ولن يتأتى لأحد ذلك إلا بأسلمة المعرفة؛ والتي “تعني فك الارتباط بين الانجاز العلمي الحضاري البشري والإحالات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة، وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن ناظم منهجي ومعرفي، ديني ـ غير وضعي ـ فهنا استيعاب وتجاوز يؤدي لمفهوم مختلف، فأسلمة المعرفة تعني أسلمة العلم التطبيقي والقواعد العلمية”[21]
فالأسلمة إذن ـ حسب حاج حمد ـ هي ديننة العلوم وكل المعارف الإنسانية، عبر تاريخها الطويل، وليست الديننة بمفهوم إيديولوجي، بل بمفهوم إبستمولوجي كوني توحيدي كلي مطلق. إن الأسلمة ليست مجرد إضافة عبارات دينية إلى مباحث علم النفس والاجتماع والإناسة وغيره، بأن نستمد ما يوافقها من القرآن[22]، تماما كما كان يعتقد بأن كتاب القرآن يستغني عن السُّنة في بعض الأحكام بسبب صراحة الحكم، حيث نكتفي بما قدمه لنا القرآن الكريم، فإذا حرَّم القرآن لحم الخنزير حكمنا بحرمته دون الحاجة إلى الاستدلال بالسُّنة[23]، ورغم أن هذا يكون إلا أن السنة تابعة في أصلها للقرآن وليس العكس، وأبو القاسم يرفض أن تكون بعض الأحاديث ناسخة لبعض الآيات، بحكم التكامل بين النصين الإلهي والنبوي.
وبهذا المنطق تصبح الأسلمة مشروطة بناظم منهجي، الذي يعني في أساسه القانون الفلسفي أو المبادئ الفلسفية الناظمة بتحديد واضح للأفكار، فالمنهجية تقنين للفكر[24]،وهاهنا تبين المنهجية القاسمية ذات الناظم المعرفي المؤسلم سلبيات الأسلمة التي كانت سائدة، أو تلك التي يُروَّج لها وبتعبير آخر، إن الأسلمة السلبية هي تلك التي سعى أنصارها لاحتواء العلم المعاصر بمنطق المقاربات والمقارنات، إذ كلما سمع هؤلاء بصدور أحدث النظريات العلمية، احتجوا بوجودها في كتاب القرآن الكريم، رغم أن الفضل ـ كل الفضل ـ يعود لعلماء النظرية وليس لأولئك الذين يعللون أيديولوجيا هذه التطورات المعرفية، وانتصارا منهم ـ مرة أخرى ـ بأن الله ـ سبحانه ـ ما فرط في الكتاب من شيء.
إن هذا المكر قد نسف الأسلمة عن غايتها المنشودة، لأن المراد منها هو الرؤية الكونية الجامعة لكل العلوم والمنهجيات منذ ابتدأت البشرية تفكر إلى يوم الناس هذا، مع الاعتماد على الشواهد الكونية الممثلة للكتاب الطبيعي الذي يترجمه العلم بمختلف تخصصاته، والمقابلة ـ هذه الشواهد ـ للكتاب القرآني الموافق والمعادل للعلم الطبيعي والمهيمن على آياته بدقة رياضية جد مُحكمة، هنا فقط نكون قد سعينا ـ حسب أبي القاسم ـ إلى الأسلمة بالمفهوم الإبستمولوجي وليس البتة بالمفهوم الأيديولوجي كما هو سائد منذ زمن ـ وللأسف ـ لا يزال كذلك.
رابعا ـ تجليات الابستمولوجيا الجديدة في العلوم الطبيعية والانسانية:
ينطلق أبو القاسم حاج حمد من مسلمة مشروطة وهي، الوحدة العضوية للقرآن العظيم، والمعادل في مكنونه المجيد للوجود الكوني وحركته، وهذه القراءة التي يقدمها جديدة، لأن خصائص التركيب القرآني قابلة لذلك، علمًا وعالمية، ودون الأخذ بهذه القراءة لا تتم أسلمة العلوم إلا بوصفها ـ أي الأسلمة ـ إضافة عبارات دينية لمفاهيم العلوم أو نفي ـ ما يراه البعض ـ تعارضا في هذه العلوم مع منطق الدين.[25]
وهاهنا بالذات يتضح بصورة جيدة المنهج الجديد لفهم مكنون القرآن الكريم،”فالوعي القرآني الكوني أداة نقد وتحليل، ومن خلاله تتضح لنا الأبعاد الكونية للتجربة الإنسانية في حركتها التاريخية ومتعلقاتها الطبيعية[26]“، إنه منهج يشبه أو يتقاطع بشكل كبير مع التحليل الرياضي والمنطقي، فالقرآن ـ حسب حاج حمدـ مضبوط في دقته على مستوى الحرف قبل الكلمة، وكلما تسنَّى للقارئ تحليل لغة القرآن الجدُّ محكمة، استطاع إلى حد بعيد تركيب البنية الموضوعية بمنطقها الكلي للكتاب كوحدة عضوية. ألم ترى الله ـ تعالى ـ يقول” لا أقسم بمواقع النجوم* وإنه لقسم لو تعلمون عظيم” (الواقعة75 ـ76).
وعليه يضطلع هذا المنهج الجديد لأن يكون جامعا بمنطق كوني ـ توحيدي، بين الغيب والإنسان والطبيعة في تجليات القراءة الثانية، والمتمثلة في أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، ولولا التحفُّظ للمصطلح ونسبته إلى صاحبه ـ أبي القاسم ـ لفضَّلت تسمية القَرْأنة بدلا للأسلمة، لان هذا المصطلح يصب في الوعاء الابستمولوجي المنشود، وفي الآن نفسه يصرف النظر عن لفظة الأسلمة للذي في قلبه شيء من الاستيلاب الأيديولوجي، فالقَرأنة تبين بالتدقيق إبستمولوجيا أبي القاسم، لأنه هو نفسه يتعامل بمنطق تحليلي للغة القرآن المطلقة، وهذا لأن القرآن ـ حسبه ـ يعادل في مستواه الحرفي واللفظي بناء الوجود الكوني وحركته المطلقة ، وهو المطلوب إثباته في الأسلمة أو القرأنة كما بيَّنا.
إن العلم الطبيعي وفق القراءة الجزئية السائدة يفضي إلى معنى التشيؤ للكون، وليس إلى منطق الخلق، أما الأسلمة أو القراءة المقرأنة، فنصل من خلالها إلى منطق الخلق الإلهي، مع إبراز الإعجاز المطلق في قدرته ـ سبحانه ـ اللامتناهية، وهنا يقول الله ـ تعالى ـ ” وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون” ( فاطر12). فهذه الآية تبين قوة الإيجاد التخليقي ـ لا التشييئي ـ من التَّعدد، إذْ من الماء السائغ الشراب، والمضاد له تماما وهو الماء المالح الأجاج، يُستخرج من كليهما اللحم الطري مع الحلية للزينة، مع العلم أن منطق الفلسفة ويوافقها العلم، لا يمكن أن ينشأ النقيض من نقيضه، كتشيؤ النور من الظلام أو العكس، وها نحن نرى أن التعدد المتضاد يعطي وحدة متآلفة، وإليك قوله تعالى كذلك :” وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (الرعد4 ).
وفي هذه الآية الكريمة نجد عكس منطق الآية الأولى في التخليق التعددي. ففي الوقت الذي بيَّن فيه الله قدرته على التعديد من الوحدة، هاهو في هذه الآية يبين قدرته على التوحيد ـ الوحدة ـ من العديد أو التعدد، فالاختلاف يتجلى في العناصر الطبيعية المتفاعلة، والوحدة في الناتج الطبيعي، أما في الآية الأخرى فظهر أن وحدة العنصر الطبيعي، يعطي لنا اختلاف الناتج، لأن في الآية الأولى بين اختلاف عذوبة الماء وملوحته، ورغم ذلك نستخرج اللحم الطري والحلية للزينة، وفي الآية الثانية بين اختلاف الأنعام من الجنات وأشجارها وفي النهاية تسقى بماء واحد، فانظر إذن كيف يأتي الاختلاف من الوحدة وتاليا تأتي الوحدة من الاختلاف؟[27].
إن هذه الأسرار لا يمكن فهمها فهما تشييئيا، أو إعجازيا بالمنطق العلمي وبمعزل عن الغيب، كما سعت الثورات العلمية عبر تاريخها الإنساني الكلي، وبالتالي لقد حاول أبو القاسم حاج حمد أسلمة العلوم من خلال إسقاط ما توصل إليه العلماء من قوانين على حرفية القرآن الكريم الدقيقة، لأن هذا الكتاب لابد له من علم دلالة لبحث مسألة كيفية تَبنْيُن عالم الوجود، وماهي مكونات هذا العالم ؟، وكيف تتعالق فيما بينها ؟، وبذلك تكون الدلالة القرآنية هنا مع الكون أنطولوجية حركية وليست سكونية ميتافيزيقية[28] كما كان سائدا، والشاهد على ذلك أن الكتاب ما أهمل صغيرة ولا كبيرة، في الكون الروحاني أو نظيره المادي لم يشر إليها ويدقق بشأنها، وهنا حتى تصدق هيمنته إماما* ـ كتابا ـ لكل شيء.
ثم يمضي ليبين أن المنطق العلمي المؤسلم ـ المقرْأن ـ ينبغي أن يفهم في إطار المنهج الوظيفي وليس لاكتشاف القوانين وتثبيتها أزليا و أبديا، تماما كما حدث في الفيزياء الكلاسيكية والمعاصرة، بل يجب أن تصبح العلوم ذات دلالات وفقط، وتصب كلها في المنطق الكوني التوحيدي الكلي، وهذا لتشكيل الرؤية الإبستمولوجية التوحيدية لنسقية العلوم الطبيعية والإنسانية.
و حتى الدراسات الغربية اليوم في ميدان فلسفة العلوم أضحت تمنح قيمة للإنسان من زاوية القراءة الغائية للتركيب الكوني، فالعمليات الكونية ـ أو الظواهر ـ ليست لها بدايات مطلقة يمكن الوقوف عندها، و نظام الأشياء والعمليات المصاحبة لها ليست ملتزمة بمنطق كلي، وحتى الكليات نفسها غير قابلة للتحليل إلى فئة متفردة[29]، وبهذا يتبين لنا مرة أخرى أن الكون في وحدته النسقية الكلية التي تبرهن دوما على تكامل منطق التحليل والتركيب، ولا يبقى معنى للقائل بالمنظومة التركيبية لبعض الظواهر بمعزل عن المنظومة التحليلية، فنموذج التحليل الوظيفي يعد تعديلا للتفسير الغائي السائد، والفكرة الحيوية الجديدة شاهد على هذا الأمر، إذ قصد منها تهيئة تفسير لمختلف الظواهر التي تعد بيولوجية على نحو متميز، مثال تجدد خلايا الجسم والتحكم اللذين لا يمكن تفسيرهما ـ وفق تلك الفكرة ـ بالقوانين الفيزيائية ـ الكيميائية وحدها[30] ، وهذا هو منطق الغائية الذي تصبو إليه فلسفة العلوم اليوم وبصفة عالمية، تماما كما أرادها منطق الدين أو القرآن، إلا أن فلسفة العلم المعاصر في الحضارة الغربية اتخذت من العالم منطق التشيُّؤ وهذا ما جعلها تمدد من طريقها نحو فلسفة الغائية الكونية.
هذا ويشير أبو القاسم حاج حمد إلى مكانة العلوم الإنسانية في المنهجية المعرفية لتحليل المكنون القرآني، فيقول حول علم التاريخ:” وبذلك يتضمن كل نسق حضاري متقدم أو بدائي، شروطا لانهياره من داخل تناقضيته مع القانون الكوني اجتماعيا وأخلاقيا، ففلسفة الحرب القائمة على التدمير غير قانون العلوم الوظيفي القائم على التعمير، فمن ذات البناء الحضاري الإنساني يتم الانهيار”[31]، وهنا بيان ساطع لتكاملية النسق الكوني في كون المجتمعات البشرية وحتى يطول أمدها، لا بد من الانقياد نحو غائية كونية توحيدية، ليس بمنطق الهيمنة كما هو حال العولمة اليوم، ولكن بمنطق الدخول في السلم كافة، لأن الهيمنة بالقوة ستشكل طبقات للصراع إن في الحال أو في المآل، وهنا تبطل دعوى القائلين بنهاية التاريخ بحكم جهل مسار تقدم البشرية[32]، أما الدخول تحت راية السلم كافة، والسلم هو عكس الحرب، وبالتالي في هذه الحالة فقط تستمر الحضارات في تعايشها بمنطق عالمي وليس بهيمنة عولمية.
كما أن علم الاجتماع الإسلامي وعلم الإناسة الإسلامي، يستخدمان في وسائل البحث الاجتماعي وتطوير أدواته، والنتيجة أن أسلمة مناهج المعرفة التاريخية ليست أكثر عناء من أسلمة العلوم الطبيعية، بل إن في القرآن قضايا تاريخية لا زالت تنتظر البحوث التحليلية العميقة والمكثفة[33]، لأن في القرآن ما يُدعى بالقصص وأخبار الأولين، لكن هذه الأخيرة وللأسف، دُرست بالمنطق الشبه أسطوري اعتمادا على الروايات الإسرائيلية، وفي ذلك إلغاء لحكمة العقل.
ثم أوضح أبو القاسم حاج حمد كذلك علم النفس الإسلامي، كيف ينبغي أن يُفهم ويؤسس في منظومة العلوم الإنسانية. إن علم النفس هو أرقى علوم الإنسان والمجتمع، فكل العلوم الإنسانية وبما فيها علم التاريخ نفسه، بداية من النشأة الإنسانية إنما يشكل بناء تحتيا لعلم النفس التي تعتبر ـ النفس ـ غاية التكوين وأساس الحياة وإلى جانب علوم التاريخ والمجتمع، كذلك علوم الفيزيولوجيا الطبيعية تكشف عن المنعكسات الطبيعية في تكوين النفس الكونية وتعطي دلالات المجال الطبيعي الكوني والتاريخي[34]،وهنا يتبين أن حاج حمد يقيس التكاملية النسقية الكونية الطبيعية والنفسية، من شمس وقمر وليل ونهار وأرض وسماء وتقابلها النفس الملهمة بالفجور والتقوى، وبمقتضى سورة الشمس يبين الله ـ تعالى ـ الوحدة العضوية بين النفس الإنسانية والقوى الطبيعية كلها.
قائمة المصادر والمراجع:
[21] : أبو القاسم حاج حمد: منهجية القرآن المعرفية، أسلمة العلوم الطبيعية والإنسانية، دار الهادي، بغداد ، ط1، 2003، ص:32.
[22] المرجع نفسه: ص،32.
[23] حيدر حب الله: حجية السنة في الفكر الاسلامي، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، بيروت، 2011، ص579.
[24] المرجع نفسه : ص، 32.
[25] أبو القاسم حاج حمد : منهجية القرآن المعرفية، مرجع سابق، ص :112.
[26] أبو القاسم حاج حمد: القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، ص 132.
[27] أبو القاسم حاج حمد: القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، مرجع سابق: ص. 113.
[28] توشيهيكو ايزوتسو: الله والإنسان في القرآن، تر وتق: هلال محمد الجهاد، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، ص33.
يرى أبو القاسم أن معنى الإمام في مكنون القرآن يعني الكتاب، وليس عالم الدين الذي يؤم الناس في الصلاة(انظر كتابه: القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية)*
[29] باروخ برودي : قراءات في فلسفة العلوم ، تر: نجيب الحصاري، دار النهضة العربية ، بيروت، ط1، 1997، ص: 187.
[30] باروخ برودي : مرجع سابق، ص:191.
[31] أبو القاسم حاج حمد : منهجية القرآن المعرفية، مرجع سابق، ص:143.
[32] فرنسيس فوكو ياما: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، تر:فؤاد شاهين وآخرون، مرا: مطاع الصفدي، مركز الانماء القومي، بيروت، 1993،ص40.
[33] أبو القاسم حاج حمد. منهجية القران المعرفية ، المرجع نفسه، ص:145.
[34] أبو القاسم حاج حمد: منهجية القرآن المعرفية: مرجع سابق : ص: 157.