“نشأ الإسلام مثل ينبوع من الماء الصافي النمير، وسط شعب همجي يحيا في بلاد جرداء بعيدة عن ملتقى طرق الحضارة والفكر الإنساني، وكان ذلك الينبوع غزيراً إلى درجة جعلته يتحوّل وشيكاً إلى جدول، ثم إلى نهر، ليفيض آخر الأمر فتترَّعُ منه آلاف القنوات تتدفق في البلاد. وفي تلك المواطن التي ذاقَ فيها القوم طعم تلك المياه الأعجوبية، سُوِّيَّتْ المنازعات وجُمِعَ شمل الجماعات المتناحرة. وبدلاً من الثأر الذي كان هو القانون الأعلى والذي كان يشدّ العشائر المتحدرة من أصل واحد في رابطة متينة، ظهرت عاطفة جديدة هي عاطفة الأخوة بين أناس تشدّ بعضهم إلى بعض مُثُلٌ عُليا مشتركة من الأخلاق والدين”[1].

بهذه الفقرات المترابطة، افتتحت المستشرقة الإيطالية الدكتورة لورا فيشيا فاجليري (1893-1989م)، أستاذة اللغة العربية وتاريخ الحضارة الإسلامية في جامعة نابولي الإيطالية سابقاً، كتابها القيِّم (دفاع عن الإسلام)، الذي قام بترجمته إلى اللغة الإنجليزية الدكتور “آلدو كازيللي”، ثم نقله إلى اللغة العربية منير البعلبكي، وصدرت طبعته الخامسة عن دار العلم للملايين عام 1981م، ولا يزال يُعدُّ من أهم الكتابات الاستشراقية التي اهتمت بتاريخ الإسلام، فحقيقة هذا الكتاب أنه موجز “بالغ النفاسة” عن تاريخ الإسلام ورسالته، وقد اعتمدت فيه المؤلفة على “علم غزير، وإخلاص عميق، ومشاركة وجدانية، وحسن تفهُّم”[2]، كما يقول حسن ظفر الله خان في تقديمه لهذا الكتاب.

تضاريس الكتاب وأطروحته

تحدثت فاجليري في كتابها (دفاع عن الإسلام) عن تاريخ الإسلام وتطوراته من خلال سبعة فصول رئيسية يركز كل واحد منها على جانب معين، حيث توقفت مع: سرعة انتشار الإسلام، وبساط العقيدة الإسلامية، ومعنى الشعائر الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، والحكم الإسلامي والحضارة، ومعنى التصوف في الإسلام، واختتمت حديثها بتسليط الضوء على علاقة الإسلام بالعلم، وقد استطاعت فاجليري من خلال هذه الفصول السبعة أن تكشف للقارئ العربي والغربي معاً عن جوانب رائعة من تاريخ الإسلام ودستوره وشخصية رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

ويبدو جلياً لقارئ الكتاب مدى إعجاب الدكتورة فاجليري بتعاليم الإسلام والقرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل من أبرز الأمور التي دعت المؤلفة إلى الإعجاب بالإسلام: عدالتُه ووسطيتُه ورحمتُه وشموليتُه وقوتُه وقدرتُه على الاستمرار والانتشار، رغم العواصف والمكائد التاريخية التي كانت -ولا تزال- تحيط به من كل حدب وصوب. ومن هنا يمكن القول إن أطروحة فاجليري في هذا الكتاب تدور حول السؤال الكبير: ما سر قوة الإسلام وقدرته على الاستمرار والانتشار السريع؟ ونحن نعتقد أن فاجليري قد استطاعت أن تقدم من خلال هذا الموجز التاريخي النفيس إجابة صادقة ورائعة على هذا السؤال المهم، ولعلها استطاعت -من خلال تلك الإجابة- أن تشدّ القارئ الغربي قبل العربي إلى تعاليم الإسلام وكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو تنزيلٌ من حكيم حميد.

السر وراء سرعة انتشار الإسلام

لا تُخفي الدكتورة فاجليري ذهولها من سرعة انتشار الإسلام الذي تحوّل من ينبوع إلى نهر، وحقق فتوحات واسعة في أنحاء العالم، وأصبح ديناً شاملاً صلباً لا سبيل إلى مقاومته، رغم أن تيَّاره الصافي العنيف طوَّقته “ممالك جبارة تمثٍّل حضارات قديمة”. وقد توصلت فاجليري من خلال تحليلها لظاهرة سرعة انتشار الإسلام وقوته إلى أنها ظاهرة لم يشهدها التاريخ قط، فقالت إنه “من العسير على المرء أن يقدر السرعة التي حقق بها الإسلام فتوحه التي تحول بها من دين يعتنقه بضعة نقر من المتحمسين إلى دين يؤمن به ملايين الناس، ولا يزال العقل البشري يقف ذاهلاً دون اكتشاف القوى السرية التي مكنت جماعة من المحاربين الجفاة من الانتصار على شعوب متفوقة عليها تفوقاً كبيراً في الحضارة والثروة والخبرة والقدرة على شن الحرب”[3].

وأكدت فاجليري أن السر وراء انتشار الإسلام السريع في ربوع العالم لا يرجع إلى القوة ولا إلى جهود المبشرين الموصولة، وإنما يعود إلى أن “الكتاب الذي قدمه المسلمون إلى الشعوب المغلوبة -مع تخييرها بين قبوله ورفضه- كتابَ الله، كلمة حق، أعظم معجزة كان في ميسور محمد أن يقدمها إلى المترددين في هذه الأرض”[4]، ثم ذهبتْ فاجليري إلى أبعد من ذلك فقالت: “إن معجزة الإسلام العظمى هي القرآن الذي تنقل إلينا الرواية الراسخة غير المنقطعة، من خلاله، أنباءً تتصف بيقين مطلق، إنه كتاب لا سبيل إلى محاكاته، إن كلاً من تعبيراته شامل جامع، ومع ذلك فهو ذو حجم مناسب، ليس بالطويل أكثر مما ينبغي، وليس بالقصير أكثر مما ينبغي، أما أسلوبه فأصيل فريد، وليس ثمة أي نمط لهذا الأسلوب في الأدب العربي، الذي تحدر إلينا من العصور التي سبقته”[5].

بساطة العقيدة وعمق الشعائر الإسلامية

في الفصل الثاني، تشير فاجليري إلى بساطة العقيدة الإسلامية باعتبارها عنصراً من العناصر التي ساعدت في سرعة انتشار الإسلام وقوته وقبوله، حيث تؤكد أن الإسلام يُوجِّه دعوةً مزدوجةً إلى الإنسان تدعوه إلى الإيمان بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد بدأ نبي الإسلام محمد بتجسيد هذه البساطة بتصرفاته مع قومه، فلم يلجأ إلى “استهوائهم بروايات أحداث تنحرف عن سبيل الطبيعة السوي، ولم يُكرههم على التزام السكينة باصطناع التهديدات السماوية التي لا تؤدي إلا إلى تعطيل قدرة الإنسان على التفكير، بل دعاهم ببساطة ومن غير أن يكلفهم الابتعاد عن عالم الحقيقة إلى التفكير في الكون وسننه”[6].

وقد ذهبت فاجليري إلى أنه من خلال هذه البساطة المرتبطة بالعقيدة الإسلامية، تم تحرير مفهوم الكون وأعراف الحياة الاجتماعية والعقول الإنسانية من جميع “المسوخ” التي كانت تحطّ من قدرها، فاستطاع الإنسان -أخيراً- أن يُدرك مكانته الرفيعة ووجهته الصحيحة، وأصبح بإمكانه أن يردّد مع النبي محمد قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

وفي سياق حديثها عن معنى الشعائر الإسلامية، أشارت فاجليري إلى عمق تلك الشعائر، وشبهت أركان الإسلام بالأصداف المليئة باللآلئ، حيث قالت إنه ينبغي أن ينظر إليها من أكثر من وجهة النظر الخارجية، لأن النظرة السطحية إلى الأصداف قد لا تكشف عن اللآلئ النفيسة، ولذلك دعت الدكتورة فاجليري إلى ضرورة دراسة كل ركن من أركان الإسلام “درساً دقيقاً لاكتشاف السر الذي يجعل في ميسور تلك الشعائر أن تُطهّر روح المؤمن وتساعدها على السمو -تدريجياً- نحو الله”[7].

استأنفت فاجليري الفصل الرابع -الذي خصصته للحديث عن الأخلاق الإسلامية- بتفنيد زعم بعض الغربيين القائل إن الأخلاق الإسلامية خطرة على الفرد لأنها حافلة بروح الخضوع والاستسلام السلبي للقوة الإلهية، حيث أكدت المؤلفة أن “الإسلام لم يكن قط عقبة في سبيل الكمال الخلقي، بل وُفّقَ قبل أيّ دينٍ آخر إلى تهذيب الناس والارتفاع بهم نحو الله”[8]. وللتدليل على تفوق الإسلام في مجالات الأخلاق وغيرها، أوضحت فاجليري أن الفضائل التي تقدمها الديانات الأخرى بوصفها الغاية القصوى لحياة الإنسان لا يقدمها الإسلام كمثل عُليا فحسب، بل يأمر بها كمثل عُليا أيضاً، ومن هذه المُثُل: الإشفاق على المخلوقات جميعاً، وحسن التفهُّم، والصفح، والبساطة، واللياقة في العلاقات الزوجية، وتقبل الرزايا، وفي هذا المضمار قامت فاجليري بالتذكير بآيات قرآنية عديدة.

ولم تختتم الدكتورة فاجليري كتابها القيّم (دفاع عن الإسلام) قبل التأكيد على مركزية القرآن الكريم في حياة الأمة الإسلامية وتقدمها وازدهارها، بل توقفت مع أسباب تأخر المسلمين، مؤكدة أن علاج التأخر الحاصل مرهونٌ بالعودة إلى القرآن الكريم الذي وصفته بـ “المصدر الصافي”، فعندئذ يستعيد المسلمون “قوتهم السابقة من غير ريب، وثمة بيِّنات قوية على أن هذه العملية قد بدأت فعلاً”[9].


[1] لورا فيشيا فاجليري، دفاع عن الإسلام، ترجمة منير البعلبكي (بيروت: دار العلم للملايين، 1981)، 21، الطبعة الخامسة.

[2] المصدر نفسه، 13.

[3] المصدر نفسه، 22.

[4] المصدر نفسه، 59.

[5] المصدر نفسه، 56.

[6] المصدر نفسه، 43-44.

[7] المصدر نفسه، 65.

[8] المصدر نفسه، 76.

[9] المصدر نفسه، 134.