يقدم الباحث المغربي الدكتور عزيز البطيوي، في كتابه “سنن العمران البشري في السيرة النبوية“، محاولة للتجديد في دراسة السيرة النبوية عن طريق استنباط الرؤية السننية للتحول التاريخي الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم لبناء عمران إسلامي إنساني، كما يحاول الإجابة على جملة من الأسئلة لعل أهمها: كيف نعيد قراءة السيرة النبوية وفق المقاربة السننية العمرانية في الرؤية القرآنية الحاكمة لسنن العمران البشري؟

وفي هذه المقالة، سنقوم بجولة سريعة بين صفحات هذا الكتاب الجديد في بابه، من أجل لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة قراءة السيرة النبوية، “لاجتلاء غررها، واجتلاب دررها، وبيان هداياتها السننية العمرانية الرسالية الكفيلة بإخراج الإنسانية مما تعانيه من أزمة حضارية شاملة، تجسيداً لحقيقة التأسي المقاصدي الكلي”، وسعياً إلى بناء عمران إسلامي إنساني عالمي.

الإطار المعرفي لمقاربة العمران البشري

لقد أقام عزيز البطيوي صرح كتابه “سنن العمران البشري في السيرة النبوية” على بابين كبيرين، خصص الأول منهما (مدخل لدراسة سنن العمران البشري) للحديث عن الإطار المعرفي المنهجي لمقاربة العمران البشري، فتناول جملة من القضايا التي تمثّل مدخلاً معرفياً ومنهجياً لفلسفة العمران البشري، أكد من خلالها أن القرآن الكريم منح للبشرية رؤية جديدة في التعامل مع التاريخ واستشراف المستقبل، من أجل “اكتشاف ما يحكم ظواهر العمران البشري من سنن مطردة نافذة ثابتة لا تحويل فيها ولا تبديل.

وفي خضم هذا المدخل المهم، توقف البطيوي مع فقه سنن العمران البشري، فأوضح حجيتها وبين أقسامها وخصائصها ومواردها ومقاييسها، كما كشف عن أهمية الفقه السنني التي تتمثل في جملة أمور منها: دعوة القرآن إلى أن فقه السنن جزء من الدين، وتبصر العلل والأسباب المفضية إلى انهيار العمران وسقوط الحضارات، وأن فقه السنن فيه نجاة الأمة من التيه المنهجي والمعرفي والقيمي الذي هو عنوان الأزمة الحضارية المعاصرة.

كما توقف مع أثر الفقه السنني في تجديد الوعي الاستخلافي، حيث بيّن “أن الفقه السنني هو الذي يمنح للوجود الإنساني معنى حضارياً من حيث هو فقه يقوم على استكمال شروط القيام بأمانة الاستخلاف على المستوى الفردي”، وقدم في هذا الإطار قاعدة مهمة تتمثل في المتتالية الآتية: لا توحيد بلا تكليف، ولا تكليف بلا استخلاف، ولا استخلاف بلا عمران، ولا عمران بلا سنن.

ولم ينسَ البطيوي أن يتطرق لقضية السنن في الفكر الإسلامي، بل ناقشها وتوصل إلى أن جلّ الدراسات والأبحاث التي أنجزت حول السنن تحتوي على إشارات ودعوات من لدن باحثين إلى ضرورة الاهتمام بعلم السنن وتأصيله وتسخيره، ويبدو أن الدعوة الأولى إلى اتخاذ السنن علماً انطلقت مع محمد عبده وتلميذه رشيد رضا ، نظراً “لما عايشاه من غفلة المسلمين عن فقه الواقع ، وضعفهم في علوم الاجتماع وتفوق غيرهم من الغرب في الكشف عن فلسفة التاريخ وحركة الاجتماع البشري”.

ورغم كل هذا، فقد اهتم عدد من العلماء والباحثين بالكشف عن سنن العمران البشري مثل الشاطبي و ابن خلدون ، واختار المؤلف هذيْن النموذجيْن نظراً لاشتراكهما في سياقات التفاعل التاريخي الحضاري للأمة الإسلامية في القرن الثامن الهجري، والمذهبية الفقهية المالكية، ثم ارتباط مشروعهما بإصلاح مناهج البحث في العلوم الشرعية.

الفقه السنني وتجديد درس السيرة النبوية

أما الباب الثاني فخصصه المؤلف للحديث عن سنن العمران البشري في السيرة النبوية، حيث أكد أن السيرة النبوية لا تشكل مصدراً معرفياً فحسب، وبالتالي لا يمكن بحال من الأحوال أن تظل مجرد خبر من التاريخ أو تحقيق لمخطوط من التراث أو دراسة وتخريج لمرويات فقط، بل لا بد أن نستقي منها المعالم والضوابط المنهجية لفهم السنن ونستثمرها استثماراً حقيقياً في مشاريع النهوض والإصلاح والعمران البشري الإسلامي العالمي.

ونحن إذا نظرنا إلى السيرة النبوية باعتبارها مصدراً للفقه السنني سنجد أنها تمثل “التجسيد العملي والتنزيل الواقعي للمنظومة السننية القرآنية في بناء العمران البشري، وهي تمثّل إلى جانب القرآن المجيد مصدراً للهداية السننية”، ولها عطاء غير محدود في الفقه السنني لا يزال يحتاج أن يتم الكشف عنه، ولهذا فقد عبّر الطيب برغوث عن تأسفه على عدم وجود مؤلفات في السيرة النبوية تقدم رؤية كلية متناسقة لتفسير حركة التاريخ.

ونظرا لأهمية استثمار السيرة النبوية باعتبارها مصدراً للفقه السنني، قدم البطيوي مجموعة من الخطوات التي لا بد من تفعيلها واستثمارها، منها: أن يكون المرجع في تبين سنن الله في المجتمع البشري من خلال استنطاق وقائع السيرة هو الرؤية القرآنية السننية، وأن يتم النظر إلى السيرة النبوية على أنها وحدة موضوعية بنائية تجيب عن إشكالات العصر وقضايا العمران البشري، هذا بالإضافة إلى اعتماد الروايات الصحيحة وضبط النصوص والروايات من حيث درجة الصحة والضعف، والاستفادة من الكسب البشري في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتجاوز المنهج السردي الذي ينظر إلى السيرة من خلال وقائع تاريخية ومتلاحقة وأحداث زمنية مرتبة.

وفي هذا السياق، خصص البطيوي محوراً لتقويم الدراسات حول السيرة النبوية على ضوء قضية السنن، أشار فيه إلى أن العلماء والباحثين اهتموا قديماً وحديثاً بالسيرة النبوية تأليفاً وتحقيقاً عبر تاريخ الأمة إلى اليوم، إلا أن هناك معاصرين مثّلت كتاباتهم تأسيسياً للدراسة السننية للسيرة النبوية، ومن هؤلاء: مالك بن نبي، ومحمد الصادق عرجون، وعماد الدين خليل، كما أن هناك معاصرين آخرين مثلت كتاباتهم إضافة مهمة في حقل السيرة النبوية، حيث صاروا في كتاباتهم على مناهج متعددة، مثل: مناهج المحدثين (السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري)، ومناهج الفقهاء (فقه السيرة للبوطي)، ومناهج المؤرخين (سيرة الرسول لدروزة).

وبما أن الدعوة إلى تجديد درس السيرة دعوة إلى تجديد أمر الدين فهماً وتنزيلاً، كان من اللازم تحديد الأسس المنهجية التي لا يخرج عنها مفهوم التجديد، ومنها: نفي ما علق بالسيرة من أخبار ومرويات موضوعة وضعيفة ومناهج ومفاهيم وقراءات منحرفة، وإحياء المعاني الحضارية الكبرى للسيرة النبوية، ثم إن هناك مجموعة من الضوابط المهمة لمنهج تجديد درس السيرة النبوية، منها: الضابط المعرفي، والضابط السياقي، والضابط المنهجي، والضابط المقاصدي.

الفقه السنني النبوي والسياقات المتعددة

وللفقه السنني أهمية عظيمة وغايات كبرى ومقاصد جليلة يكون التفريط فيها سبباً لوقوع مفاسد تلحق الضرر بالعمران البشري، ولكن إدراك حقيقة وأهمية الفقه السنني النبوي لا يتحقق إلا من خلال الكشف عن السياقات المتعددة، ولهذا فقد حدثنا البطيوي عن السياق التاريخي ومنظومة القيم قبل البعثة، ليكشف لنا عن التحول العظيم الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم “في الوعي البشري وأنماط التفكير وأشكال السلوك وطبيعة النظر إلى الوقائع والأحداث”، كما حدثنا عن البنيات الاجتماعية السائدة قبل البعثة التي حدد القرآن الكريم طبيعتها الاجتماعية وأطرها المعرفية من خلال مصطلح “الجاهلية”، حيث نجد الآيات القرآنية “تتحدث عن الجاهلية بوصفها نظاماً اجتماعياً قائماً بذاته وبنية ثقافية.

ولم ينسَ البطيوي أن يعرج على قيمة ومركزية التحول الجذري الذي أحدثه الفقه السنني النبوي، حيث قال إن الحركة النبوية أحدثت على المستوى الفردي والجماعي تحولاً جذرياً داخل المجتمع العربي وخارج حدود الجزيرة العربية وبنيتها القبلية، وقد تجلى ذلك في منهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحركته في البناء والإصلاح والدعوة والدولة، وقد شمل الفقه السنني النبوي دائرتين كبيرتين، هما: سنن الله العامة، وسنن الله الخاصة.

ثم ألمحَ المؤلف إلى أن هناك ستُّ مفردات تمثل مفتاحاً لفهم شخصية النبي قبل البعثة وتشكل مدخلاً مهماً لاكتشاف التحول الجذري الذي أحدثه الفقه السنني النبوي، وهي: اليتم (الحقل الأسري)، والصحراء (الفضاء المادي الطبيعي)، والرعي (مرحلة عبور من البيت إلى المجتمع)، والتجارة (حقل البنيات الاقتصادية)، والزواج (شبكة العلاقات الاجتماعية)، والأعمال الاجتماعية والعمرانية (حقل البناء الاجتماعي العمراني)، وغار حراء (لحظة بلوغ الرشد).

الكليات السننية للعمران في الهدي النبوي

وهناك كليات سننية للعمران البشري في ضوء الهدي النبوي قد يكون من الصعب حصرها، ولكن من أهمها: أن كل سنة من السنن تتعارض مع مقاصد الدين وكلياته فهي من الدين عارية، وأن السنن تتكامل ولا تتعارض لأنها من عند الله، هذا بالإضافة إلى أن النبي كان يؤسس للوعي والممارسة الجامعين بين أصالة السنن التشريعية وفعالية سنن الاجتماع العمراني، وأن من طبيعة السنن استشراف المآلات واعتبار ما تفضي إليه القرارات.

وقد صرح المؤلف بأنه لا بد من فهم الأبعاد الكبرى للكليات السننية للعمران البشري، لأن الوعي بها يمثل مدخلاً أساسياً “في التجهيز المنهجي والإدراك المعرفي والاستثمار الفعال للمنظومات السننية العمرانية”، ولعل من أهم هذه الأبعاد: البعد المنهجي لإدارة التدافع مع القوى المضادة المناهضة للعمران، والبعد الوظيفي للكليات السننية، والبعد الاستراتيجي للسنن.

ويبدو أن الحديث عن الكليات السننية للعمران البشري في السيرة النبوية يستدعي ضبط مجموعة من المداخل الأساسية التي تنبني على قضايا جوهرية، منها: أن سنن طبائع الاجتماع والعمران البشري مركوزة في الفطرة الإنسانية ومبثوثة في ظواهر الوجود وبها تحقق للرسول النصر والتميكن، وأن التصرفات النبوية في مقامات الأخذ بالسنن ومراعاتها ودفع بعضها ببعض في سياسة الأمة وتدبير نظام الدولة وبناء العمران البشري كانت موافقة لسنة الله القدرية العمرانية وسنته التشريعية الدينية.

وللتأكيد على أهمية المداخل الأساسية للكليات السننية، قام البطيوي باتخاذ مفاوضات النبي صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان كنموذج، حيث بدأت استراتيجية تقوم على “البحث عن تكتل اجتماعي يمنح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المنعة والنصرة والإيواء”، وتستشرف مستقبل العمران، وتسعى إلى تحقيق الظهور الأولي الكلي للدين، وقد استخلص المؤلف من الرواية المتعلقة بالمفاوضات مع بني شيبان جملة من الأمور، منها: أن استراتيجية انفتاح المشروع الرسالي على آفاق جديدة خارج مكة لم يكن قراراً نبوياً وإنما إلهياً تهيأ له الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن منظومة القيم الأخلاقية هي العاصمة للعمران الاجتماعي من الزوال والضياع والموت الحضاري.

سنن العمران البشري في المنهج النبوي

عندما نريد الحديث عن سنن العمران البشري في المنهج النبوي لا بد من النظر في قضايا عديدة، منها مراحل البناء السنني للعمران البشري في السيرة النبوية ومنظومة القيم المضادة له، فنحن عندما نتأمل السيرة النبوية سنجد أن هناك مرحلتين أساسيتين: الأولى مرحلة التأسيس والبناء التي امتدت من بداية الدعوة ونزول الوحي على الرسول حتى صلح الحديبية، والثانية مرحلة النصر والتمكين التي تلت صلح الحديبية الذي مثّل لحظة تاريخية فارقة في تاريخ إقامة العمران البشري وفق الهدي السنني النبوي.

وإذا أردنا التفصيل أكثر، يمكننا تقسيم مرحلة التأسيس والبناء إلى ثلاث مراحل: الأولى مرحلة البحث عن الإنسان المؤهل لتشكيل القاعدة الصلبة للعمران وتبدأ من نزول الوحي إلى الهجرة الأولى إلى الحبشة (خمس سنين)، والثانية مرحلة بناء الإنسان وتأهيله وإعداده رسالياً ليكون قادراً على تحمل الأعباء التنظيمية للدعوة وتبدأ من الهجرة الأولى إلى الحبشة إلى الهجرة إلى المدينة (ثمان سنين)، والثالثة مرحلة بناء الأمن الاجتماعي والسياسي وتبدأ من الهجرة إلى المدينة إلى صلح الحديبية (ست سنين). 

أما مرحلة النصر والتمكين، فيمكن تقسيمها إلى لحظتين تاريخيتين: الأولى لحظة الهجرة من السلطان السياسي إلى السلطان العمران وتبدأ من صلح الحديبية إلى فتح مكة، والثانية لحظة الهجرة من الدولة إلى إقامة العمران الإسلامي الرسالي العالمي وكانت بعد فتح مكة، وقد يكون من المهم الإشارة هنا إلى أن هناك خمس دعائم أقام عليها الرسول حركته الرسالية في بناء الاجتماعي والعمران الإسلامي، وهي: المسجد، والصحيفة، والمؤاخاة، والجيش، والسوق.

أما فيما يتعلق بمنظومة القيم المضادة للعمران البشري، فهناك منظومات تهدد طاقات الأمة وتضعفها، منها: منظومة قيم الطغيان، ومنظومة قيم الاستغناء، ومنظومة قيم المنفعة، وفي المقابل هناك دعائم لسنن التغير الاجتماعي منها: العصب الاجتماعية وصناعة القادة (صناعة التغيير)، والكتلة الحرجة والاحتياطي الاستراتيجي (إدارة التغيير)، والفرص المتاحة والتهديدات الممكنة (ضبط مسارات التغيير)، والجاهزية والبدائل (حماية المكتسبات واستشراف الآفاق).

ولا ينبغي أن نختتم هذه المقالة قبل أن نشير إلى دور الفقه السنني في توقع الأزمات في ضوء الهدي النبوي، إذ تكشف لنا كتب المغازي والسير وأبواب الصحاح والسنن والمسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك “رؤية واضحة عن المستقبل، وبصيرة سننية نافذة في تدبير المواقف وإدارة الأزمات، وتوقع الأحداث واستشراف الغد القادم”.

وقد ذكر البطيوي في هذا المضمار أن الفقه المستقبلي في توقع الأزمات وإدارتها في ضوء السيرة النبوية له أصول يقوم عليها، منها: الأصل الإيماني، والأصل الأخلاقي القيمي، والأصل المعرفي، والأصل التنظيمي.