يبرز إعجاز البيان القرآني في دقة الاختيار للألفاظ والتراكيب، وهذا مايدهش البلغاء التأمل والنظر فيه، واتسع لهذا الإعجاز اللسان العربي الذي أبان عن الإعجاز بما اتسمت به العربية من خصائص بيانية دقيقة، من ذلك ما تمثل فيها من مرونة التراكيب في التقديم والتأخير والإعراب. وهذا مهيع واسع ودقيق؛ يتفطن له النظر البلاغي العميق في أسرار التراكيب ومستتبعاتها. من ذلك ما يستوقفنا في قوله تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإِخۡلَاصِ: ٤]
إذ تبرز بلاغة النظم القرآني هنا؛ في دقة اختيار تركيب واحد من أصل ستة احتمالات لتقاليب التركيب المتوقعة، هي:
1- ولم يكن أحد كفوا له
وهو أصل التركيب في الترتيب.
2- ولم يكن أحدٌ له كفوًا.
3- ولم يكن له أحد كفوا.
4- ولم يكن كفوا أحد له.
5- ولم يكن كفوا له أحد.
6- ولم يكن له كفوا أحد.
ولو تناولنا كل احتمال من التراكيب السابقة من الناحية اللغوية؛ لوجدنا فيه جانب ضعف، ولايسلم إلا ماذكره القرآن على وجه الخصوص، على النحو الآتي:
فلو قال: لم يكن أحدٌ كفوًا له.
وهو الترتيب على الأصل؛ لأفاد التركيب معنى نفي الكفء لله عز وجل، ولكنه يخلو من معنى القصر، فلم يذكر التكافؤ بالنسبة لغيره عز وجل، من أنهم يتكافؤون أو لا يتكافؤون.
ولو قال: لم يكنْ أحدٌ له كفوًا.
سيكون هذا التركيب احتماليا في المعنى؛ لأن شِبْهَ الجملة ” له” تحتمل أن تكون متعلقة ب”كُفُوًا” ففيها معنى القصر والاختصاص على الله عز وجل، إذنُفيَ الكفءُ له على وجه الخصوص، وغيرُهُ يتكافأ.
والاحتمال الآخر أن تكون شِبْهَ الجملة ” له” صفة لما قبلها “أحدٌ”؛ فيختل المعنى؛ إذ يصبح لم يكنْ أحدٌ من اتباعه و خاصته كفوا، و من غير خاصته قد يكون هناك كفء، وهذا معنى محظور احترس منه البيان المعجز بتجاوز هذا التركيب.
ولو قال: لم يكن كفوًا أحدٌ له.
فإن هذا التعبير لايصح لغة من وجهين.
الأول: لاحتمال أن يكون ” له” متعلقا ب” كفوا” وهذا في اللغة مردود؛ لوجود الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو ” أحد”
والثاني: لاحتمال أن يكون ” له” صفة لما قبله وهو “أحد” ويكون المعنى لم يكن كفوا أحد من خاصته، و قد يكون من غيرهم، وهو معنى مردود أيضا؛ فسقط هذا التعبير من كل وجه.
ولو قال: لم يكن كفوًا له أحدٌ.
فهذا التعبير ضعيف من وجهين، أولا: لأنه لم يتقدم المعمول هنا على عامله؛ فلا قصر فيه، إذ نفيت وجود الكفء له، ولكن لم تذكر الكفاءة لغيره، أ يتكافؤون أم لا؟
ثانيا: أنه يحتمل أن تكون شبه الجملة ” له” صفة لأحد تقدمت عليه فصارت حالا منه، ويكون المعنى؛ لم يكن أحدٌ كفوا له حال كونه من أتباعه وخاصته، وفي حال غير ذلك قد يكون له كفوًا.
وهذا معنى مختل ومرفوض؛ فضعف هذا التركيب من وجهيه.
ولو قال: لم يكن له أحدٌ كفوًا
فهذا أيضا له احتمالان:
إما أن تكون شبه الجملة ” له” متعلقة ب” كفوا” وهنا يكون قد فُصل بين المعمول وعامله بفاصل أجنبي، وهو مرفوض في اللغة.
و الاحتمال الآخر أن تكون ” له” شبه جملة صفة لأحد تقدمت عليه؛ فأصبحت حالا؛ والحال المنقلبة عن الصفة تدل على المعنى نفسه،فدلت على أنه لم يوجد أحد كفوا له حال كونه من خاصته وأتباعه وغيرهم قد يكون. وهذا المعنى مرفوض.
وبقي التعبير السادس والأخير لا غير، وهو الذي خصه البيان المعجز بالاستعمال في هذا المقام، وهو: لم يكن له كفوًا أحدٌ.
فتوافر فيه ثلاثة خصائص هي: أنه نفى الكفء له على وجه الاهتمام والاختصاص والحصر، وأثبته لغيره، وسلم التعبير من احتمال الحالية والوصف. فكان هو التعبير الأسلم، المعبر بدقة عن هذا المعنى المراد، و لايصح غيره مقامه مع الإيجاز والإحكام.