مقدمة : الحديث عن الإنسان يعدّ من الموضوعات المحورية التي يتناولها علماء العقيدة المعاصرون، تأثرا بسلفهم الصالح، حيث يتوسّعون مؤخرا في بيان حقيقة الإنسان في إطارٍ شامل يربط بين الكون، والحياة، والوجود البشري. ويُلاحظ أن هذه المقاربة تختلف عن منهج الاستدلال بالعالم الطبيعي لإثبات وجود الله، حيث تنطلق من الإنسان ذاته لفهم دلالات الخلق والمعنى الكامن وراءه.

من هذا المنطلق، يقدّم القرآن الكريم تصورًا متكاملًا للوجود، بوصفه كتاب هداية وإرشاد يكشف للإنسان حقيقة الكون والوجود وفق معطيات الوحي اليقينية، التي لا يداخلها شك، إذ هو تنزيلٌ من حكيمٍ عليم، ممن خلق وأبدع. وهذا يميّز المنظور الديني عن الفلسفة والرؤى الفكرية الأخرى، سواء في طبيعة العلم، أو في مصادر المعرفة، أو في القدرة على تقديم تعريف يقيني وشامل للمخلوقات، بما في ذلك الإنسان. فمن المنطقي أن يكون المهندس المصمم هو الأقدر على شرح آلية عمل السيارة، وأسباب صنعها، وطرق استخدامها، وكذلك الأمر بالنسبة للخالق سبحانه وتعالى، الذي أخبرنا بحقيقة الإنسان وغايات وجوده، ولله المثل الأعلى.

أولا: ثنائية الوجود في الرؤية الإسلامية

يُقرّر القرآن الكريم أن الوجود ينقسم إلى قسمين: وجود الإله الخالق ووجود المخلوقات التي أوجدها وصوّرها بقدرته، دون مثالٍ سابق. وقد أشار إلى هذه الثنائية عددٌ من المفكرين المسلمين، مثل إسماعيل راجي الفاروقي في كتابه التوحيد، والسيد قطب في مقومات التصور الإسلامي، ومحمد سعيد رمضان البوطي في كبرى اليقينيات الكونية: وجود الخالق ووظيفة المخلوق، ويوسف القرضاوي في الإيمان الحياة. وعلى ذات النهج، بيّن علماء العقيدة قديما عبر العصور—من أمثال الباقلاني، والرازي، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم—أن الشهادة بـ لا إله إلا الله تتضمن الإقرار بوجود الله، وتوحيده بأنواعه المختلفة، إلى جانب الإقرار بوجود الكون وما فيه من مخلوقات.

ثانيا: تصنيف المخلوقات في القرآن الكريم

يقدّم القرآن الكريم تصنيفًا واضحًا للمخلوقات التي أوجدها الله، وهي تشمل:

  1. الموجودات المادية: كالكواكب، والأفلاك، والنجوم.
  2. الكائنات الحيّة: من الحيوانات والنباتات.
  3. الملائكة: مخلوقات نورانية ذات طبيعة خاصة.
  4. الجان: وهي خلقت من نار السموم.
  5. الجبال، والأنهار، والبحار: وغيرها من ظواهر الطبيعة.
  6. الإنسان: وهو مخلوق متميّز عن جميع ما سبق، من حيث تكوينه، وعقله، ومكانته في الوجود.

ويمثّل الإنسان حالة فريدة بين سائر المخلوقات، حيث لا يُعدّ واحدًا منها، بل يتميّز عنها جوهريًا في تركيبته ومهمته في الأرض.

ثالثا: مفهوم الإنسان في القرآن الكريم: الأصل والتكاثر

تحدث القرآن الكريم عن مفردة: “إنسان” في قرابة ثلاث وستين (63) آية. وفقًا لهذه الآيات القرآنية، فإن الإنسان خُلق في أصله من طين لازب، ثم نُفخت فيه الروح، ومنه نشأت البشرية. ومع ذلك، فإن استمرار النوع الإنساني لا يكون بنفس الطريقة، بل يتمّ عبر سنّة التناسل، حيث يلتقي ماء الرجل بماء المرأة، فيخلق الله النطفة، ثم تتحوّل إلى علقة، فمضغة، مرورًا بالمراحل المذكورة في القرآن، حتى يكتمل خلق الإنسان في صورته النهائية.

من هذا المنطلق، فإن التصور القرآني للخلق لا يتبنّى فكرة التطوّر المتدرّج من نوع إلى آخر، بل يؤكد أن الله خلق الإنسان ابتداءً في صورة آدم، ثم خلق منه زوجه حواء، ليكونا أصل البشرية جمعاء.

بهذا يتّضح أن التصور الإسلامي للإنسان يتجاوز كونه مجرد كائنٍ ماديّ، إلى كونه خليفةً في الأرض، مكرّمًا بالعقل والوحي، محلوقا في أحسن تقويم، ومسؤولًا عن حمل الأمانة التي لم تحملها سائر المخلوقات.

رابعا: حقيقة الإنسان في القرآن بين الذم والمدح وبين البعد الحيواني والبعد الملائكي

عند استقراء القرآن الكريم، يتبيّن أن الإنسان يحتلّ منزلةً وسطى بين الطبيعة الحيوانية والطبيعة الملائكية النورانية. وهذه الثنائية هي سرّ تميّزه، وسرّ تكليفه بحمل الأمانة، كما أنها العلة وراء سجود الملائكة له، رغم كونهم خلقًا معصومًا لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. إنّ العقل هو جوهر تكريم الإنسان، وهو الذي يُمكّنه من الاختيار بين طريق الهداية وطريق الهوى.

فالإنسان إذا انقاد لغرائزه المادية التي يمثّلها أصله الطيني، دون تهذيب أو توجيه، فقد ينحطّ إلى مرتبةٍ أدنى من الحيوان؛ لأن الحيوان، رغم افتقاده للعقل، محكومٌ بغرائزه التي تحافظ على توازنه الفطري. أما الإنسان، فامتلاكه للعقل مع القدرة على الانحراف قد يجعله أكثر ضلالًا من الحيوان إن هو أساء استخدام اختياره. وفي المقابل، إذا أطاع الإنسان ربه وسار وفق الهدايات القرآنية، التي جاءت لتزكية نوازعه الحيوانية وتحقيق التوازن بين البعدين المادي والروحي، فإنه يرتقي حتى يصبح أفضل من الملائكة، لأن الملائكة مفطورون على الطاعة ولا يملكون خيار المعصية، بينما الإنسان يتميّز بامتلاك الإرادة الحرّة التي تمكّنه من السمو بإرادته وعقله، أو السقوط بهما.

خامسا: الصفات الإنسانية المذمومة بين الإمكان والفعلية

عند التدقيق في الآيات التي تصف الإنسان في القرآن الكريم،، أغلبها يقع في السور المدنية، نجد أن الكثير منها يذكر صفات تبدو سلبية، مثل قوله تعالى:

  • ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: 2
  • ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ (المعارج: 19
  • ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ﴾ (الحج: 66
  • وغيرها كثير..

لكن هذه الصفات ليست صفات لازمة للإنسان بذاته، بل هي صفات احتمالية أو قابليّة، أي أنها تعكس ما يمكن أن يكون عليه الإنسان إذا انحرف عن منهج الهداية. وهذا تمييز جوهري؛ لأن الصفات القابلية لا تعني أن كل إنسان يتصف بها حتمًا، بل تعني أن الإنسان لديه استعدادٌ لامتلاكها إذا لم يزكِّ نفسه ويهذبها.

في علم المنطق، يُطلق على مثل هذه الحالة مصطلح الكلية المهملة، حيث أن الحكم ينطبق على بعض الأفراد بيقين، لكنه لا يعمّ جميعهم بالضرورة. فمثلًا، عندما نقول: الطلاب مجتهدون، فهذا لا يعني أن كل الطلاب مجتهدون، بل أن البعض منهم كذلك. وبالمثل، عندما يقول القرآن: إن الإنسان لفي خسر، فهذا لا يعني أن كل إنسان خاسر، بل أن الإنسان إذا لم يهتدِ، فإنه سيكون في خسران.

سادسا: إشكالية إلصاق الصفات السلبية بالإنسان كحتمية

إذا افترضنا أن هذه الصفات صفات لازمة للإنسان، فإن ذلك يوحي بأن الله سبحانه وتعالى خلقه بطبيعة سلبية حتمية، وهذا يتعارض مع مفهوم أنه محلوم مكرم، يمتاز بالعقل، ويتفرد في حمل التكليف والأمانة، وأنه خلق في أحسن تقويم، ناهيك غلى أن ذلك الفهم السطي يتنافى مع العدل الإلهي والتكليف، إذ لا يمكن لله أن يكلّف الإنسان بما هو مفطورٌ على خلافه قهرًا. لكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بهذه الصفات لا بوصفها طبيعة لازمة، بل بوصفها احتمالات وسيناريوهات يمكن أن يقع فيها الإنسان إذا اتّبع نوازعه الطينية الشهوانية دون تهذيب.

إذن، الإنسان ليس مجبولًا على الشرّ والكفر والقتور والطغيان ولا محتومًا على الفساد، بل هو كائنٌ مكرّمٌ بالعقل والإرادة، ويملك القدرة على السمو والارتقاء، كما يملك القدرة على السقوط والانحطاط. والقرآن الكريم يعرض هذه الحقائق ليكون الإنسان على بيّنةٍ من طبيعة نفسه، فيحسن توجيهها وفق المنهج الرباني، ويحقق التوازن المطلوب بين أبعاده المختلفة، فيرتقي إلى مقام التكريم الذي خُلق لأجله.

سابعا: المفاهيم القرآنية الأخرى الدالة على الإنسان: نظرة متكاملة لحقيقة الإنسان في القرآن

عند الحديث عن مفهوم الإنسان في القرآن الكريم، من الضروري استحضار المفردات التي استخدمها النص القرآني للإشارة إليه، والتي تبرز تميّزه عن سائر المخلوقات، مثل الملائكة والجن والموجودات الأخرى. ومن أبرز هذه المصطلحات:

  1. بني آدم : يشير هذا المصطلح إلى الإنسان من حيث كونه ذرية آدم عليه السلام، ويؤكد على البعد التشريفي والتكليفي الذي يحمله. ورد في مواضع عديدة، منها: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف: 31)، مما يدل على ارتباطه بالتوجيهات الإلهية والتكليف الشرعي.
  2. الناس: يدل على الجماعة البشرية بشكل عام، بغض النظر عن الإيمان أو الكفر. يتكرر في القرآن كثيرًا، مثل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ • مَلِكِ النَّاسِ • إِلَٰهِ النَّاسِ﴾ (الناس: 1-3)، مما يعكس ارتباط الإنسان بالله كخالق ورب وإله.
  3. البشر: يشير إلى الجانب الفيزيولوجي والمادي من الإنسان، ككائن مخلوق من طين ويتكاثر بالولادة. ورد في قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾ (الكهف: 110)، مما يؤكد على الطبيعة البشرية للأنبياء رغم نزول الوحي عليهم.
  4. النفس : يُستخدم للإشارة إلى الإنسان من زاوية هويته الفردية ومسؤوليته الأخلاقية والتكليفية. مثل قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ (الشمس: 7)، مما يشير إلى التوازن الدقيق بين الخير والشر في تكوين الإنسان.

هذه المصطلحات تكشف عن الطبيعة المركّبة للإنسان في التصور القرآني، فهو مخلوق ذو بعد مادي وروحي، مكرّم ومكلّف، يعيش في اختبار مستمر بين الهداية والضلال.

أخيرا.. هل من إشكالية أن نقول إنسانية؟

استخدام كلمة إنسانية في مثل قولنا:  “يجب أن نعامل بعضنا بالإنسانية” أو لا بد من العمل على القيم الإنسانية، ليس فيه إشكال من حيث اللغة أو التداول المعاصر، بل وحتى من حيث الاستخدام القرآني لمفهوم الإنسان. بل هي دعوة إلى العمل على ما يجمع بني آدم، وما هو قدر مشترك للبشر، ويعد قاسما مشتركا لجميع الناس، فيتم في هذه المسائل مراعاة ما قد يتفق عليه العقل الإنساني وفق الفطرة الإنسانية، وما اتفق عليه العقلاء وهذا إعمال لمبدأ قرآني في مخاطبة عقول الناس، وأن الطريق إلى الإيمان هو بالقراءة والعلم والتدبر واحترام العقل الإنساني وإحياء الفطرة. فلا إشكال من قولنا “قيم إنسانية” “أخلاق إنسانية”، وإن كان الكثير من آيات وصف القرآن للإنسان فيه ما يدل على قابلية أن يكون هذا الإنسان شريرا، لكن يفهم تلكم الآيات في سياق الموقق القرآني الكلي لهذا المخلوق بالنظررة الشمولية والمتكاملة.