قد لا يختلف الكثيرون حول أهمية وجود المشاعر والعواطف لبناء حياة زوجية سعيدة، لكن نادرًا ما يذكر الاحترام المتبادل بين الزوجين على أنه مكون أساسي من مكونات الزواج، على الرغم من كونه شعورًا متأصلاً يعبر عنه دومًا الأزواج السعداء.، وعلى الرغم من أن الاحترام المتبادل بين الزوجين هو المكون الذي قد ينقذ علاقة زوجية على حافة الهاوية.
من خبرة الحياة يمكننا أن نقول إن الاحترام بين الزوجين بمثابة القلب من أي زواج ناجح؛ لأنه حجر الأساس الذي يحول العلاقة من حب رومانسي وإعجاب إلى علاقة دائمة.
الاحترام لا يساوي بالطبع الافتتان والإعجاب الرومانسي الذي يصاحب بدء علاقة الحب، ذلك الإعجاب الذي يشبه إلى حد كبير نظرة الأطفال المثالية لوالديهم. إحساس البداية هذا يعيش وينمو على معنى أن الآخر هو المثالي بالنسبة للإنسان، ولكن هذا الإحساس لا يستمر طويلاً، فالشريك الذي تزوجته لا يطابق تماما توقعاتك؛ وذلك لوجود الاختلافات الشخصية والاختلافات في تصوراتنا للحياة وفي الطريقة التي نؤدي بها الأشياء.
وعندما نكتشف أننا مختلفون يبدأ كل واحد منا في محاولة تغيير شريكه ليطابق الصورة المثالية المرسومة في خياله، وتستمر المحاولات ولكنها لا تنجح؛ لأن تغيير الشريك ضرب من الخيال.
المعنى الحقيقي للاحترام
وأسوأ الأسلحة المدمرة للعلاقة الزوجية في هذه المرحلة أن نعتمد على الاحتقار والازدراء واللوم المستمر، مع الإدعاء أن هذا يتم من أجل مصلحة شريك الحياة وبغرض تغييره للأفضل. وكم رأينا علاقات زوجية يقوم فيها أحد الشريكين أو كلاهما بالتحقير والاستهزاء واللوم المستمر للآخر، ومثال ذلك أن تستمر الزوجة في لوم زوجها واتهامه بأنه غير طموح لأنه يهتم بالفنون أو بالعلم أو بالعمل المجتمعي ولا يسعى من أجل تحصيل الثراء! أو أن يتهم الزوج زوجته بأنها تضيع وقتها فيما لا يفيد لأنها خرجت مثلا مع صديقاتها! والعكس تمامًا يحدث في العلاقات السوية، لا احتقار ولا ازدراء، ولكن كلا الزوجين يغذي ثقة الآخر بنفسه، يمكنك ألا تستسيغ ما يستمتع به شريكك ولكن من غير المقبول أن تتهمه بالغباء.
ومن أجل استمرار الزواج مهم أن نتفق على أن نكون مختلفين، نتفق على أن يترك كل منا الآخر ليكون نفسه، وبسلوك هذا السبيل يمكننا أن نصل للمعنى الحقيقي للاحترام المتبادل، وهو تقبل الشريك المختلف عنا. وهذا يعني أن الاحترام هو تقبل اختلاف الآخر وخصوصيته، وهذه الاختلافات تحتاج لوقت حتى نكتشفها ونتقبلها، وندرك أن بيننا مساحات مشتركة وأخرى لها خصوصيتها، وعلى هذا فالوصول لحالة الاحترام الزواجي يمثل قمة النضج في العلاقة الزوجية.
ومن الضروري أن ندرك أن الاحترام المتبادل بين الزوجين اللذين يحترم كل منهما خصوصية الآخر لا يعني أن الرسالة المتبادلة بينهما “أنت في طريقك وأنا في طريقي”؛ لأن الاحترام المتبادل بين الزوجين يساعدهما ويدفعهما من أجل المزيد من التقارب، ويعين كلا الزوجين على أن يتعلم من شريكه، وعلى أن يتقبل كل منهما نظرة شريكه للأمور لتصبح جزءًا من نظرته هو.
وهذه هي مفارقة الزواج الجيد: حيث نجد أن تقبل الشريك كما هو يفتح الآفاق للتغيير، والاحترام يعني العين المحبة الواعية، التي ترى ما هو موجود بالفعل، كما تدرك أيضًا ما يمكن أن يكون موجودًا وتساعد على إبرازه ونمائه.
إذًا الاحترام والتقدير المتبادل يعني تقبل شريك الحياة المختلف كما هو، وتقديره، واحترام خصوصيته وقيمته وكرامته، كما يعني أيضًا احترام حقوقه.
الاحترام والتقدير المتبادل يعني أن لقيمتنا وكرامتنا وحقوقنا نفس الأهمية النابعة من إنسانية كل فرد منا.
الاحترام المتبادل بين الزوجين .. طريق آخر للحب
قد يختلف الكثيرون حول أهمية وحتمية وضرورة وجود الحب بين الزوجين، فيرى البعض أنه لا حياة زوجية بدون حب وأنه إذا اختفى الحب فلا يمكن أن ينجح الزواج، بينما يرى البعض الآخر أن الحياة الزوجية يمكن أن تستمر، بل وتنجح دون حب ويمكن أن يُكتفى بالعشرة والمعاملة الحسنة.
ولكن بالتأكيد لا يختلف اثنان على أنه لا حياة زوجية بدون احترام، فالاحترام بين الزوجين هو قيمة في حد ذاته لا بد من الحفاظ عليها ومراعاتها بغض النظر عن الحب أو الظروف أو الإمكانات أو أي شيء؛ فالحياة التي يهين فيها أحد الزوجين الآخر بالألفاظ والتصرفات ولا يراعي مشاعره وأحاسيسه لا هي حياة ولا هي زوجية ولا يمكن أن تستمر، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه من الخطأ أن تستمر.
بل بالعكس قد يكون الاحترام طريقًا جديدًا للحب بين زوجين، فربما لم يجد الحب الرومانسي طريقه إلى قلوبهما؛ ربما لأنهما اكتشفا بعد الزواج أنهما مختلفيْن في الاهتمامات والأهداف ووجهات النظر في الحياة، وربما تزوجاا زواجًا سريعًا تقليديًّا، ولم يدق الحب باب قلوبهما، ولكنهما قررا الاستمرار في الزواج مع مراعاة القيم الأساسية في الحياة الزوجية مثل الاحترام ومراعاة مشاعر الطرف الآخر، وعندها يجدون حبًّا من نوع آخر، حبًّا عاقلاً واعيًا، قد يكون أقل حرارة وأهدأ من الحب الذي يتخيله الشباب قبل الزواج، ولكنه بالتأكيد أكثر قوة وعمقًا واستمرارًا وقدرة على مواجهة العواصف والأزمات.
وهذا ما كانت عليه الزيجات كلها سابقًا؛ فالزوجات لم يكنّ متعلمات، ولم يكن هناك حب قبل الزواج بالمعنى المتعارف عليه الآن، ولم يكن الكلام عن حقوق المرأة وحرية المرأة ومحاكم الأسرة كما نرى الآن، ورغم ذلك كانت الزيجات كلها هادئة مستقرة يسودها كثير من الاحترام المتبادل وتقديس الحياة الزوجية وقيمها بطريقة فطرية وتلقائية، فما كنا نجد زوجة ترفع صوتها على زوجها أو تسيء الكلام عنه، وكذلك ما كنا نجد زوجًا يهين زوجته أو يتحدث عنها بسوء أمام الناس.
وقد أجمل الرسول ﷺ كل معاني الاحترام في حديثين غاية في الإعجاز في التعبير البسيط العميق الشامل، فيقول للنساء: “لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها”، ثم يقول للرجال: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”، بكل ما تعنيه ألفاظ الخيرية المطلقة، والسجود ممنوع فقط؛ لأنه لا يجوز إلا لله تعالى.
فما هو الاحترام الذي نعنيه؟ وما هي الصور أو المجالات التي يعبر بها كل من الزوجين عن احترامه للآخر؟
الاحترام في الحوار
فالحوار هو وسيلة التواصل والتقارب اليومي بين الزوجين، سواء كان حوارًا منطوقًا أو لفظيًّا، أو حوارًا غير منطوق أو غير لفظي.
فالحوار المنطوق (Verbal communication) هو كل ما يدور بين الزوجين من حوارات وأحاديث، شاملة موضوعات الحياة اليومية ومشاكل الأولاد والخلافات الزوجية، وكذلك أحاديث الحب والرومانسية.
أما الحوار غير المنطوق أو غير اللفظي (Non verbal communication) فهو كل وسائل التواصل والتعبير غير المنطوق بين الزوجين، مثل النظرة واللمسة والإيماءة، وحركات الأيدي وتعبيرات الوجه، والابتسامة ونظرة الغضب…إلخ.
ويحتاج هذا الحوار بنوعيه (اللفظي وغير اللفظي) إلى درجة عالية من الاحترام في اللفظ والإشارة والكلمة والتعبير والنظرة وإيماءة العين، وألا يتحول إلى طلقات رصاص تقتل الحب وتقضي على الحياة الزوجية؛ فنصل للنتيجة المحتومة عندما ينقطع الحوار وتتوقف الكلمات وتنعدم النظرات واللمسات.
وليس هناك عذر لأي من الطرفين في النزول بمستوى الحوار إلى الإهانات والإساءات مهما كانت الأسباب من غضب أو مشاحنات أو اختلافات، فمن يجد في نفسه غضبًا ورفضًا لما يقال أو يحدث فليتحلَّ بالصمت ويأخذ هدنة حتى تهدأ النفوس، ثم نعود ونواصل حوارًا هادئًا محترمًا يحافظ على الحب والاحترام.
احترام الاهتمامات والهوايات
إن أنجح العلاقات الزوجية هي التي يتقارب ويتمازج فيها الزوجان في كل شيء في الحياة ويعيشان معًا كل أحداث حياتهم بتواصل دائم، وفي نفس الوقت يعطي كل طرف شريكه مساحة من الوقت والحرية يكون فيها نفسه، ويمارس هواياته ويتابع اهتماماته أو يقابل أصدقاءه دون أن يشعره الطرف الآخر أن هذا إهمال أو تقصير في حقه أو في واجباته، ولا بد أن تفهم الزوجة أنه مهما كان الزوج مشغولاً ويؤدي مسئولياته بالكاد فإن ذلك لا يعني حرمانه من حقه في ممارسة ما يحب ولو لفترات قصيرة، وكذلك لا بد أن يدرك الزوج أنه مهما كانت مسئوليات الزوجة في البيت والأولاد فإنه من الضروري والمفيد جدًّا لها أن يتعاون ويتفهم الزوج حقها في بعض الحرية والخصوصية والمساحة الخاصة بها.
احترام الأسرار والخصوصيات
ليس أصعب في الدنيا على الزوج من أن يجد خصوصيات حياته مع زوجته من ماليات أو خطط أو مناقشات أو خلافات أو حتى قصة أو معلومة كان قد رواها لزوجته، من أن يجد هذه المعلومة قد وصلت إلى أمها أو أختها أو صديقتها المقربة أو حتى أمه هو، وكذلك الزوجة لا يمكن أبدًا أن تتقبل أو تسامح في أن تجد زوجها يروي مناقشاته أو خلافاته معها إلى أمه أو أخته أو أحد أصدقائه. فهذا يشعر الزوجين بعدم الأمان بينهما، ويجرح أقدس ما في الحياة الزوجية وهو الخصوصية وما ينغلق عليه باب البيت فلا يعلمه سواهما والله تعالى قبلهما؛ لأنه بطبيعة الحياة الزوجية يطلع كل طرف على أسرار الآخر الشخصية والعائلية والسلوكية، بل وحتى الجسمية، وهنا تكون الأمانة واحترام الأسرار.
ومع تكرار هذه المواقف تنعدم الثقة بين الزوجين، وتبدأ هوّة خطيرة في الظهور بينهما، ثم تتسع وتزداد عمقًا مع الأيام. وقد وضع الرسول ﷺ كل هذه المعاني في تحريم إفشاء تفاصيل أقدس وأخص ما في الحياة الزوجية وهو العلاقة الحميمية؛ لينسحب معنى الخصوصية وحفظ الأسرار على كل ما هو بين الزوجين.
احترام المشاعر والأحاسيس
مهما اعتاد الزوجان على بعضهما ومهما طال الوقت فلا يستغني أي إنسان عن احتياجه لمراعاة مشاعره وأحاسيسه، ومراعاة الكلمة التي تضايقه والتعبير الذي يجرحه والحب الذي يحتاجه والنظرة الحانية واللمسة الدافئة، وما أروع أن يضع الإسلام هذه المشاعر والأحاسيس في ميزان حسنات الإنسان، فتتحول الكلمة الطيبة إلى صدقة ولمسة اليد إلى ثواب، بل حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته صدقة، ثم يأتي تتويج الحب في الإسلام في أرقى صوره عندما يتحدث القرآن عن أعلى صور احترام المشاعر: “وقدموا لأنفسكم.
فالقرآن يأمر الرجل باحترام مشاعر زوجته وحقها في الحب والاستمتاع ومراعاة استعدادها وتهيئتها للعلاقة الخاصة مع زوجها، وتأتي الأحاديث النبوية لتعلم الرجل كيف ينتظر زوجته حتى تقضي وطرها وتستمتع بزوجها، وكيف تلبي الزوجة نداء زوجها، وليكون في بضع أحدكم صدقة، فهل هناك احترام للمشاعر أكثر من هذا؟ وهكذا يدوم الحب ويستمر.
احترام الأهل
لا بد أن يدرك الزوجان أن أهل الإنسان هم جزء لا ينفصل منه، وأن حبهم وتواصله معهم وإعطاءهم حقوقهم، فضلاً عن أنه فرض ديني، فهو كذلك احتياج نفسي وإنساني، ولا بد لمن يريد أن يراعي شريك حياته ويساعده على أداء واجباته نحو أهله أن يحترم هو أهله، يحترمهم باللفظ والإشارة والمجاملة والمساعدة والزيارة وتفقد أحوالهم، وسواء استطاع المساعدة في أداء هذه الواجبات أو مجرد مساندة الطرف الآخر وإتاحة الفرصة له لأداء هذه الواجبات، فلا بد أن نعرف أن هذه مساحة مهمة جدًّا من الاحترام مهما كان مستوى الأهل المادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو سلوكهم وتصرفاتهم؛ فليس الواصل بالمكافئ.
الاحترام.. رغم الخلاف، رغم العيوب، رغم الإمكانات
إذا كان كل ما تحدثنا عنه هو صورة من صور الاحترام في الرخاء، فماذا عن الاحترام وقت الشدة؟ وقت الخلافات والمشاكل بين الزوجين؟ وقت الأزمات المادية؟ عند وجود عيوب أو اختلاف؟ إن الاحترام في هذه الحالات هو من شيم النبلاء وأخلاق الفرسان؛ فمهما كانت درجة الخلاف أو سببه أو موضوعه، ومهما كانت الأزمة المادية، أو مهما كان ضعف الإمكانات أو العيوب؛ فطالما أن الزواج مستمر، ومادامت الحياة بينهما لا يزال فيها أيام، فلا بد من استمرار الاحترام والحفاظ عليه، فلنختلف كما نريد، ولكن لماذا لا يكون ذلك باحترام ورقي؟ ودائمًا نقول لكل زوجين مختلفين: إما أن تستمرا مع الاحتفاظ بكل مقدسات الزواج من احترام وأداء للحقوق وإخلاص، وإلا فالانفصال الراقي والمحترم أيضًا قد أحله الله تعالى رغم البغض.
احترام الأهداف والطموحات
من المؤكد أن لكل من الزوجين أهدافًا وطموحاتٍ وأحلامًا في الحياة يتمنى تحقيقها، ويحاول ذلك رغم الصعوبات والانشغال بمسئوليات الحياة. فلماذا لا يعيش كل من الزوجين -وأؤكد كل من الزوجين وليس الزوجة وحدها- مع الآخر في أحلامه وطموحاته، ويحاول كل منهما احترام هذه الأحلام ومساعدته في تحقيقها بدلاً من تسفيهها والاستهزاء بها تحت مدعاة مسئوليات الحياة وعدم وجود وقت أو أموال أو أن البيت أولى بالوقت والمال؟
وبعد كل هذا.. هل هذه الصورة من الاحترام المتبادل بين الزوجين ممكنة وقابلة للتنفيذ؟ أم أن ضغط الحياة لم يَعُد يترك لنا مساحة؟ وإذا أردنا أن نضع وصفة سحرية لحياة زوجية سعيدة يمكن أن نقول: (كثير من الاحترام + قليل من الرومانسية + كثير من التسامح والتغافر والتغافل + قدر ما تستطيعون من الحب).