يستخلص المؤمن العبَر و العظات من كلّ ما يرى ويسمع ويقرأ ومن كلّ ما يحيط به من وقائع وأحداث لأنّه – بحكم تديّنه – صاحب قلب حيّ وحواسّ نابضة بالحياة والتفاعل، وهو يرتقي بحاله إلى الاندماج بالتجربة الواقعيّة، يتعلّم منها ويجدّد بها إيمانه ويزداد من خلالها يقينا.
قال الله تعالى:
” فاعتبروا يا أولي الأبصار” – (سورة الحشر 2).
” إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى” – (سورة النازعات 26).
” لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب “ – (سورة يوسف 111).
وتكون العبرة أبلغ والدرس أكثر رسوخاً عندما تتلاحم الرؤية بالتجربة، فيبرح المؤمن مقاعد التفرّج الواعي ليكون بذاته جزءاً من التجربة التعليميّة، ويخرج منها في حال أرقى من الإيمان والقرب والعبوديّة، ونقف في هذا السياق عند ثلاث محطّات قرآنيّة رائعة الدلالة:
1.” وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعةً من الطير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز حكيم ” (سورة البقرة 260). فإبراهيم متأكّد من قدرة الله الّتي لا حدّ لها، ولا يرتاب في عودة الموتى إلى الحياة كما أراد الله تعالى، لكنّ هذه العودة مسألة عجيبة بالنسبة للإنسان الّذي لم يقف لها على سابقة، فأغرته خلّته للرحمن بطلب اقتران الرؤية بالخبر لينعم بطمأنينة القلب، لكنّ ربّه عزّ وجلّ اختار له مرتبةً أعلى من الرؤية، هي التجربة العمليّة يقف عبرها على قدرة الله في الإحياء وإن لم ير الكيفيّة، لأنّها فوق طاقته البشريّة، وهي من أمر الله وحده.
وهل هناك مثل التجربة الذاتيّة في الاعتبار؟
2. ” ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا ” (سورة الأعراف 143). موسى – عليه السلام – يطلب هو الآخر الرؤية، وقد أغرته ميزة تكليم الله له بغير واسطة ليطلب المزيد، وهو النظر إلى وجهه الكريم، ولم يواجه الله تعالى هذه الهمّة العاليّة بتبكيت ولا بإخبار تعجيزيّ، وإنّما جعل نبيّه يجرّب بنفسه ليتعلّم أنّه غير مؤهّل – بحكم بشريّته – لإبصار الخالق الجبّار الّذي لم يطق الجبل الأشمّ تحمّل رؤيته، فهذا الدرس الّذي استوعبه موسى أبلغ من الإخبار بكلّ تأكيد لأنّه يقطع الحاجة إلى تكرار السؤال أو التجربة.
3. أمّا رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – فقد جعله ربّه يتخطّى الأخبار اليقينيّة الواردة عن الآخرة والجنّة والنار، وأزاح من أمامه الحجب ليبصر بأمّ عينه ألواناً من الغيبيّات، وذلك حين اختار له أن يعيش أعظم معجزة حسيّة حدثت له، ألا وهيّ رحلة الإسراء والمعراج، ففي الرحلة الأفقيّة قال الله تعالى ” سبحان الّذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الّذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنّه هو السميع البصير” – (سورة الإسراء 1). أمّا في الرحلة العمودية فقال : ” ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ” – (سورة النجم 17-18)، فقد صرّحت هذه الآيات الكريمة أنّ الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – أبصر بالفعل عجائب من الغيب، ولم يحدث له ذلك وهو مستلق على فراشه، وإنّما عاش التجربة الحيّة الواقعيّة، وهو أبلغ ما يتعلّم منه الإنسان.
إن الاعتبار بالرؤية والتجربة ديدن المؤمن حتّى لا يتبلّد حسّه ولا تتجمّد أدوات التعلّم عنده: ” إنّ السمع البصر و الفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولا ” – (سورة الإسراء 36).
ويملك كل واحد أن يجدّد إيمانه بخوض معترك الحياة في جميع مناحيها ومستوياتها والاقتراب من أصناف الناس ومعايشة مختلف الأحوال والنظر – بالبصر والبصيرة – في مواطن السرّاء والضرّاء والشدّة والرخاء والمرض والصحّة والخفض والرفع، إلى جانب ما يحويه الكون والنفس من آيات باهرات تُلهم المؤمن وتلقّنه الدروس النافعة والعظات البليغة، قال الله تعالى : ” سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنّه الحق ” – سورة فصلت 53
وقال عزّ وجلّ : “ وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون ” – سورة الذاريات 20 – 21
وأحبّ أن ألفت الانتباه إلى أمثلة من المشاهدات الميدانية الحسّية التي يستطيع المؤمن أن يجيل فيها النظر ويرابط عندها بين الفينة والأخرى ليعتبر وينتفع ويبقى موصول القلب بالله تعالى وبمحيطه الأرضي البشري :
أ. زيارة المستشفى: لا يعرف قيمة الصحّة البدنيّة إلاّ من أنهكه المرض، وبدل أن يعتبر بنفسه كالشقيّ فإنّ المؤمن ينظر في حال المرضى نزلاء المستشفيات – وفي أقسام الأمراض المستعصية خاصة – ليمتلئ قلبه بالشكر لله تعالى من جهة وبالعطف والرحمة للمصابين من جهة أخرى، ثمّ ليتواضع ويلزم حدوده ويلجأ إلى ربّه عزّ وجلّ بانكسار سائلا دوام العافية وخفّة الإصابة، وكيف لا يعتبر أمام مريض عاجز عن تناول الطعام رغم توفّر أطايبه، أو عاجز عن الحركة أو النوم أو الهدوء بسبب الآلام الحادة المتواصلة ؟ إنّها مدرسة المرض الفريدة الوقع.
ب. زيارة المقابر :وإنّما تنفع إذا قصد المقابر منفردا يستصحب نية الاعتبار بدورة الحياة والموت والنشور، وكم من العبر في الأجداث، يقف على حافّتها، وساكنوها بين منعّم ومعدم، و رفيع ووضيع، وبرّ وفاجر، سوّت بينهم أطباق الثرى، لو نطقوا في تلك الساعة ماذا كانوا سيقولون له ؟ وإنما يملك شيئا لا يملكونه، هو الوقت، ووجه العبرة أن يستثمر وقته وعمره في الطاعة والصالحات قبل أن يصير في يوم قريب أو بعيد محلّ عبرة لغيره.
ت. زيارة المحكمة :ماذا في أروقتها من مآس وجرائم وأكل للحقوق والأموال بالباطل، واعتداء واعتساف، تتبدّى فيها مشاكل وخيمة بين الأزواج والجيران والمتعاملين، يعلو فيها صوت العدل حينا ويطغى عليه الظلم حينا آخر، حينها يحمد الله تعالى على نعمة العافية والهناء والحياة الصالحة، ويتحلّى بالسماحة واليسر، ويسأل الله تعالى دوام الستر حتى لا يفتضح على رؤوس الأشهاد بالحق أو بالباطل.
ث. زيارة المكتبة :هناك الأنيس الذي يجمع بين المتعة والفائدة، والذي غدا مهجورا إلى حدّ بعيد في دنيا المسلمين، يقلّب القارئ الحصيف صفحاته فيقرأ عبَر التاريخ ودروس النفس والمجتمع، ويجول بين مختلف الكائنات، وينظر في أحوال الأمم والأحوال، ويرجع بحزمة متجددة من الدروس النافعة له في دنياه وآخرته.
ج. الخروج إلى الطبيعة : إنّ أكثر ما يبلّد الحسّ حياة المدينة الحديثة دائمة الصخب، المتّسمة بطغيان المادة والسرعة والرتابة وانتشار الإسمنت حتى سدّ عن الناس الآفاق، وهذا ما حال بينهم وبين المشاعر الجيّاشة والأحاسيس الرقيقة، فإذا خرج المؤمن إلى الطبيعة تحرّر من ربقة الرتابة والصخب، ومتّع عينه بروائع الخلق من ماء رقراق وزرع وأزهار وفراشات، وشنّف سمعه بزقزقة العصافير، وهذا يُحدث له نقلة بعيدة ويعيده إلى الفترة، ويلك عين السعادة.
وقد كتب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى قائد جنده يقول له : ” إذا جاء الربيع فأخرج الجنود إلى المروج ليروا كيف يحيي الله الأرض بعد موتها “.
إنّ الإيمان إذا لم يتجدّد يبلى كالثوب، وإنّ المؤمن إذا لم يتقلّب بين مواطن العبَر باستمرار يوشك أن يتأخّر عن ركب الصالحين ويفقد ميزة الربانيّين، وهذه خسارة لا يرضاها لنفسه إلاّ غافل، وإذا كان الاعتبار ضروريا لنا جميعا فهو أشدّ ضرورة للمشتغلين بالعمل العامّ من دعاة وسياسيين وأرباب اعمال ونحوهم، لأنّ مشاغلهم كثيرا ما تحجبهم عن مصادر العظات والدروس الإيمانية فتجفّ القلوب وتتكلّس العواطف ويكون التراجع.