التفضيل بين مخلوقات الله سنة إلهية ظاهرة، فقد اقتضت حكمته سبحانه أن يفضل بين أنبيائه ورسله، قال تعالى: {تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَـٰتࣲۚ وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ}) الآية [البقرة،253]، ومن ذلك أيضا تفضيل الله شهر رمضان صياما وقياما بالأجر العظيم، والثواب الجزيل. وهذا ما يدفع المسلم إلى الاستعداد لاستقبال رمضان، وتعويد النفس على اغتنام الوقت قبل هذا الشهر بمدة، خاصة في شهر شعبان ابتداء، وفي الذي بعده تبعا، من خلال الخطوات المسلكية التالية:
1- استحضار فضائل شهر رمضان، فقد قال رسول الله ﷺ: “الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ” (رواه مسلم). على أن إطلاق لفظ “رمضان” الوارد في هذا الحديث قد قيده المصطفى عليه الصلاة بقوله عليه السلام في حديث آخر: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” (رواه البخاري ومسلم). فقد دل هذان الحديثان أن الله تعالى جعل لكل من صام أيام شهر رمضان امتثالا لأمر الله وطلب الأجر منه سبحانه، مكافئة في صورة مغفرة ذنوب العبد السابقة، صغيرها لا كبيرها. ونفس المكافأة حاصلة من صلاة فريضة إلى أختها، ومن جمعة إلى أختها. فأكرم به من رب كريم، وأعظم به من منعم تواب رحيم، يجزي الجزاء الوفير على العمل القليل.
2- التوبة الصادقة، بالرجوع إلى الله والبعد عن معصيته؛ وهي -وإن كانت واجبة في كل وقت وحين، أو عند اقتراف ذنب بذاته- إلا أنها مؤكدة في رمضان، حتى تزيل وحشة القلب، وتغرس فيه نور الطاعة والقرب من الله، قال سبحانه: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور،31].
3- ومما يغسل القلب من كدر الذنوب والمعاصي كذلك كثرة الاستغفار، قال تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود،3].
4- دعاء الله أن يبلغ العبد رمضان، فقد قيل بأن النبي عليه السلام كان -إذا دخل رجب- يقول: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ) . ومن أجله يقول ابن رجب: (قلوب المتقين إلى هذا الشهر تَحِن، ومن ألم فراقه تئن) . وهذا يدل على أن من علامات تقوى العبد حنينه واشتياقه لشهر رمضان، وإحساس بالألم والتألم والتوجع لفراق هذا الشهر.
5- قضاء ما أفطره الصائم من رمضان الماضي، كالمسافر والمريض والحائض والنفساء ومَنْ في معناهم من ذوي الأعذار، قالت عائشة: ” كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ” .
6- الإكثار من صيام شعبان، فقد حكت عائشة كثرة صيام المصطفى عليه السلام في شهر شعبان وأنه عليه السلام لا يصوم شهرا أكثر من شعبان سوى رمضان، فقالت: “وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ”(رواه البخاري). وقد علل المصطفى عليه السلام ذلك بقوله: ” وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ”(أخرجه أحمد والنسائي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب). وهناك علة ثانية، وهي أن الصوم في شعبان بمثابة السُنَّة القبلية، التي تهيئ النفس وتنشطها لأداء الفرض، الذي هو ههنا صيام رمضان.
7 – حضور مجالس العلم والذكر والوعظ والإرشاد، التي تشحد الهمم، وتعلي العزائم، على التنافس في الطاعات، قال الرسول عليه السلام: ” إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا”. قَالُوا: “وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟”. قَالَ: (حِلَقُ الذِّكْرِ) (رواه الترمذي وأحمد من حديث أنس بن مالك وقال الترمذي حديث حسن غريب) . فقد استعار المصطفى عليه السلام حاجة المسلم إلى ذكر الله -الذي هو غذاء القلب والروح- بحاجة الدواب وإسراعها متى وجدت مرعى خصيبا.
8 – أن يجمع المسلم نيته لفعل أكبر عدد من الطاعات، من خلال ختم القرآن مرات عديدة، قراءة وتدبرا. وكذا كسب أكبر عدد من الحسنات، بالإكثار من ذكر الله، تسبيحا، وتهليلا، وتكبيرا، وصلاةً على النبي عليه الصلاة والسلام، ناهيك عن النوافل من الصلوات، والصدقات، وإفطار الصائم. ولا ننسى إمساك اللسان عن الغيبة والنميمة والخوض في أعراض الناس. وفي بيان أهمية الإسراع إلى الطاعات، يقول الله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [البقرة، 148]، هذا من حيث الطلب. وأما من حيث الخبر، فقد أخبر سبحانه عن طائفة من المرسلين: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} الآية [الأنبياء،90].
9- ومما يحض على المبادرة إلى فعل الخيرات، قولُه عليه السلام: ” بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تُنْظَرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفَنِّدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ” (رواه الترمذي وقال حديث حسن) . فقد دل الحديث على وصية المصطفى عليه السلام لأمته، وهي وصية في صورة أمر بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة قبل أن تحول موانع بشرية تكليفية وأخرى كونية قدرية دون فعل الطاعات، بتمثيله عليه السلام بسبعة أمور:
الأمر الأول، الفقر الشديد الذي ينسي المسلم عبادة ربه.
وأما الثاني، وهو ضده (أي: الغنى) الذي يشغل المرء عن طاعة مولاه.
والثالث، المرض الذي يفسد الجسم أو العقل فيصد الإنسان عن الطاعة.
والرابع، أرذل العمر الذي يصير الشهم كالصبي أو أشد.
والخامس، الموت الذي يقضي على الإنسان على حين غفلة منه.
والسادس، الدجال، وما أدراك ما الدجال، وما أدراك ما فتنته، فهو شر غائب يُنْتظر.
والسابع، الساعة، وهي الأمر العظيم الذي لا خلاص منه، وأشد مرارة وقبحا.
وفائدة الفوائد مما سبق، تجليها ضرورة حرص المسلم في موسم الطاعات عموما، وفي شهر شعبان ورمضان خصوصا، على اغتنام الوقت في طاعة الله، والابتعاد عن معصيته، مع البعد عن التسويف، لأنه سلاح العاجز، ومطية إبليس إلى النفاذ إلى قلب المسلم، مع التنبيه إلى أن الإنسان قد يكون قادرا على الطاعة الآن، لكنه لا تدري متى يُحال بينه وبينها، من خلال التذكير بوصية المصطفى السابقة، التي نبهت إلى أنه قد يُحال بين العبد وبين ركعة أو سجدة أو حرف من القرآن أو درهم صدقة، بعدما تنزل به إحدى الموانع عن العمل الصالح؛ كالفقر الشديد، أو الغنى الفاحش، أو المرض، أو الكِبَر، أو الموت، أو الدجال، أو الساعة.