تعاني جملة من الاقتصادات في العالم الثالث من مشكلة بنيوية متمثلة في ضعف تنوع مصادر الدخل وسيطرة مجال محدود على النشاط الاقتصادي، غالبا ما يكون هذا القطاع موردا طبيعيا لا يخلق قيمة مضافة ذات بال، وبسبب من المردود العاجل الذي يتيحه في أغلب الحالات يغري الحكومات في البلدان إياه بالاكتفاء به كمورد لإيرادات الدولة وكمصدر دخل للاقتصاد ككل، وهو ما يدعو إلى ضرورة وضع سياسات تنموية تمكن من تنويع مصادر الدخل.
ما هو الاقتصاد الريعي؟
الريع في النظرية الاقتصادية “هو الدخل المتأتي عن عامل طبيعي بسبب الخصائص الفنية لهذا العامل”[1]، وقد تعرض له كبار المنظرين الاقتصاديين منذ آدم سميث وكارل ماركس الذي تعرض لدلالاته الاقتصادية وتأثيراته الاجتماعية، ونعني بالاقتصادات الريعية في هذه المعالجة الاقتصادات التي تعتمد بشكل رئيسي في مصادر دخلها على موارد طبيعية كالمعادن والنفط والغاز..
يكاد الاقتصاد الريعي يكون “اقتصادا افتراضيا” من حيث كونه مقابلا للاقتصاد الإنتاجي، ومن حيث اعتماده على التداول وليس الإنتاج، فالنشاط الاقتصادي الذي يتم في القطاعات الأخرى هو نشاط تداولي يهدف إلى الحصول على نصيب من الإنتاج المتحقق في القطاع الريعي .
ويعتبر بعض الاقتصاديين أنه في حال تجاوزت مساهمة القطاعات الإنتاجية أو الريعية 50% من الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما، فإن ذلك الاقتصاد يُعد اقتصادا ريعيا[2]، في حين تذهب مصادر أخرى من بينها منشورات البنك الدولي إلى أن معيار الاقتصادات الريعية هو تجاوز مساهمة الإنتاج المنجمي أو إنتاج المحروقات 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلد المعني، وتجاوز إصداراته المنجمية 40% من مجمل صادراته للعالم الخارجي .. وعلى أية حال فإن المؤكد أن الاقتصادات أحادية التصدير، أو تلك التي تتوفر على مورد واحد وحيد أو رئيسي هي اقتصادات ريعية معنية بالمساوئ التي سنشير إليها في ثنايا هذا المقال.
ويحيل تحليل مساهمة القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية النفطية إلى أن النفط والصناعات الاستخراجية تكاد تشكل القطاع الأوحد؛ حيث تمثل نسبته إلى الناتج الإجمالي الكلي في الإمارات لسنة 2014: 70% في حين يمثل قطاع الصناعات الاستخراجية 22%، ويمثل 73% من قيمة الناتج المحلي في السعودية في حين يمثل قطاع الزراعة 3% فقط، وفي الكويت يمثل النفط 88% ولا يتجاوز قطاع التشييد (الإنشاءات) 3%.
ومع ذلك فالتحليل الذي قمنا به ينبغي أن يستصحب الدعم الحكومي للقطاعات من خلال إيرادات قطاع النفط والطاقة، إذ يصبح النمو المتحقق في القطاعات الاقتصادية الأخرى نموا كاذبا أو مضللا باعتباره انعكاسا لبرامج الإنفاق الحكومي السنوية. المصدر: التقرير العربي الموحد لسنة 2015، إصدارات صندوق النقد العربي، الملاحق الاحصائية للتقرير، القيم لسنة 2014 (الوحدة مليون دولار).
اقتصادات مهزوزة
من أبرز مميزات هذه الاقتصاديات هشاشتها وسهولة تعرضها للأزمات الاقتصادية والمشكلات الناتجة عن التأثير السلبي لتقلبات الأسواق العالمية، فبفعل الاعتماد على عنصر إنتاج واحد، بل أحيانا على منتج واحد، مثل النفط أو الغاز أو على تشكيلة محدودة من المعادن يصبح الاقتصاد مكشوفا ومعرضا برمته لمخاطر المضاربات في الأسواق الدولية، ويؤدي التراجع في أسعار تلك المواد إلى الإصابة بالمرض الهولندي، الذي يتمثل في النمو غير الطبيعي للقطاعات الخدمية الذي تحفزه الثروات الطبيعية والذي ينتهي تلقائيا عندما يتراجع نمو القطاع “الحاقن” بفعل النضوب أو تقلبات التجارة الدولية ..
وتجسد الانهيارات الكبيرة في أسعار النفط في البلدان المنتجة له في الفترة الأخيرة الخطر الذي يواجه الاقتصاديات التي تعتمد على مصدر دخل واحد أو رئيسي.
قطاع خاص كسول
بفعل الطبيعة التداولية للاقتصاد الريعي ينشأ قطاع خاص طفيلي يعتمد على المحسوبية واستدرار القطاع العام من خلال الصفقات المشبوهة، ومن ثم يتحول القطاع الخاص ـ الذي ينبغي أن يكون الوسيلة الأنجع لتحريك الاستثمار وتحقيق التراكم الرأسمالي- إلى قطاع كسول يكره المخاطرة والإنتاجية، وهذا يعني غياب المصانع والاستثمارات الكبرى التي يقتحمها رجال الأعمال المستحدثون الذين اعتبر (شومبيتر) وجودهم شرطا للنمو، لما يتميزون به من روح خلاقة وأفكار مبدعة وقدرة على المخاطرة الموزونة، وسيعني هذا بالأثر المباشر ندرة الإنتاج المحلي وهو ما يقود بدوره إلى تزايد الاستيراد وعجز الميزان التجاري.
أين تتساقط ثمار النمو؟
إن أخطر نماذج الاقتصادات الريعية هي تلك التي يكون الإنتاج في القطاع الريعي فيها من طرف فئة قليلة من السكان، أو تقتصر الاستفادة منه على تلك الثلة، هنا تصبح ثمار النمو حكرا على فئة قليلة من السكان، ويسود سوء توزيع الدخل أو يتم توزيعه بطريقة تنمي ثقافات سياسية واجتماعية تحمل مخاطر على التقدم السياسي والاجتماعي لبلدان تلك الاقتصادات.
إن عجز الاقتصاديات الريعية عن استنبات النمو وحقن الاقتصاد ككل بالمتحصل من الموارد هو الذي يخلق دورة اقتصادية مشوهة ويجعل ثمار النمو تتساقط بعيدا عن الفئات الفقيرة، كما أن غياب القطاعات الإنتاجية التي تقوم عليها الطبقة الوسطى الفاعلة يؤدي إلى اضمحلال هذه الطبقة وتدني الدخول وسيادة البطالة، والبطالة المقنعة في البلدان الغنية.
متى تصحو السياسات؟
إن الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل والخروج من ربقة عنصر الدخل اليتيم لن تتم إلا برؤية واعية تعتمد جملة من السياسات الاقتصادية المتدرجة والصبورة ولكنها ملحة وضرورية لمواجهة الكوارث التي يخلقها الاستمرار في الاعتماد على القطاعات غير الإنتاجية، ومن ذلك:
ـ سياسات اقتصادية تحفز الاستثمار وتخلق بيئة أعمال جيدة، وهو أمر لن يتحقق إلا بجملة شروط قانونية ومؤسسية وموضوعية، تتعلق الأولى بمنظومة لائحية محفزة تؤسس لها وتسبقها الشروط الرئيسية لبيئة الأعمال الجالبة للاستثمار، والتي يشكل الأمن والقضاء العادل وسيادة القانون والحكم الرشيد ركائزها.
ـ تقوية تنافسية الاقتصادات من خلال وضع استرتيجيات تنموية تهدف إلى خلق اقتصاد منوع ومنتج وقادر على تجاوز التبعية الاقتصادية التي يخلقها الارتباط العضوي للقطاعات الريعية بالخارج.
وبغض النظر عن الجدل الذي يدور عادة بين أفضلية القطاعين الزراعي والصناعي وأيهما أقدر على تحقيق رافعة للإقلاع الاقتصادي نحو تحقيق التنمية، فإن سياسات تنموية واقتصادية تمكن من توجيه الاستثمارات وجهة تمكن من خلق قاعدة حقيقية تقوم عليها القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد باتت ملحة في البلدان المعنية، ويتحقق ذلك حينما يكون الإنفاق على أوجه النشاط الاقتصادي إنفاقا استثماريا وليس إنفاقا جاريا.
ـ دعم المشاريع الصغرى والمتوسطة والورش الصناعية دعما فنيا وماليا، وتوجيه القطاع المصرفي للنهضة بهذا القطاع الفرعي الهام، وهو أمر يحققه التوجه نحو الاستخدام الواسع لصيغ العمل المصرفي الإسلامي القائمة على المشاركة، حيث تُحقق الوساطة المصرفية هدفها النوعي بتوفير التمويل للآلاف من صغار المستثمرين وجيوش العاطلين، وهو ما سيخلق قاعدة صناعية وطنية تشكل نواة قطاع صناعي وطني هو وحده القادر على خلق قيمة مضافة حقيقية وكبيرة، فضلا عن أن خاصيته كقطاع إنتاجي تقضي على كل سلبيات سوء توزيع الدخل المسؤولة عن الفقر النقدي وفقر القدرات المسؤول مسؤولية مباشرة عن تخلف البلدان الفقيرة والغنية على حد سواء.
لقد آن الأوان لأن تخرج البلدان العربية من معادلة التابع الذي يقتصر دوره على توفير خامات الصناعات الثقيلة والخفيفة للعالم الصناعي، ثم يكون عليه أن يستورد حتى الإبرة في عملية تبادل عولميتها كاذبة، قائمة على حفز الاستهلاك واحتكار التقانة.
ـ ولعل أم الاستراتيجيات في هذا السبيل هي في السعي إلى تكوين اقتصاد المعرفة ـ بعيدا عن اقتصاد الريع الانتظاري التواكلي ـ القائم على تحسين التعليم وتحديثه والإنفاق عليه بما يمكن من رفع الحصيلة من الموارد البشرية ورفد التنمية بالتطور التكنولوجي المدعوم بتشكيل ثقافة وقيم حضارية هي وحدها الكفيلة بتحقيق تقدم اجتماعي واقتصادي حقيقي، وتلك هي التنمية.
[1] الموسوعة العربية، المجلد العاشر، ص 200، على الرابط: http://www.arab-ency.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D9%88%D8%AB/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%B9
[2] د. غسان إبراهيم، الأبعاد الاجتماعية للريع في سورية، دراسة منشورة على الانترنت، ص 9.