بين التقديس والتدنيس تراوحت المواقف من الإمام البخاري رحمه الله وجامعه الصحيح. فعلى امتداد القرون التي تلت صدور مصنفه، لم يتوان العلماء عن تدعيم الثقة في الجهد الحديثي الذي بذله البخاري لتنقية السنة النبوية من شوائب أهل الأهواء والأمزجة السياسية والعرقية المتقلبة. غير أن فترات النكوص الحضاري شهدت، ولازالت تشهد، تفاعلا مبالغا فيه مع ذلك الجهد، إما بإخراج الكتاب عن حدود الاجتهاد البشري، أو السعي الحثيث لإسقاط الثقة عن مؤلفه.
من نماذج التقديس ما حدث في عهد إسماعيل خديوي مصر، الذي أزعجه تراجع جنوده في حرب الحبشة، فأشار عليه وزيره شريف باشا بأن يأمر العلماء بالاجتماع في الأزهر لتلاوة صحيح البخاري، والتضرع إلى الله بالنصرة لجيش الخديوي.
اجتمع العلماء برئاسة شيخ الأزهر، الشيخ العروسي، وقرؤوا صحيح البخاري سائلين المولى عز وجل النصرة، لكن الهزائم تلاحقت، ولم يجد العلماء بُدا من تنبيه الخديوي إلى أن تعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يستتبعه تسلط الأشرار على المسلمين، وعدم استجابة الحق سبحانه لدعاء الأخيار، وبالتالي فلا جدوى من تلاوة صحيح البخاري على وضع بائس، وأسطول مهزوم نفسيا أمام العدو.
لم يسع البخاري يوما لأن يكون جامعه الصحيح تعويذة ضد الشياطين، لكنها الهزيمة الداخلية التي تدفع بعموم الناس، بل حتى خاصتهم في أحيان كثيرة، إلى تمجيد حصيلة الماضي، والنظر إلى تراث الأمة بعين التبرك واستنزال الغيث والنصرة، عوض استقصاء أسباب التفوق والنسج على منوالها.
أما نماذج التدنيس فتقذف بها المطابع ودور النشر منذ نصف قرن أو يزيد، خاصة بعد أن تولدت لدى الحداثيين العرب حالة انبهار شديدة أمام المنجز المعرفي في الغرب، ليتحول الانبهار لاحقا إلى رفض للتراث، ودعوة للقطيعة معه، وتحميل الآباء وزر تخلف الأبناء عن ركب التحضر.
باشر الحداثيون العرب قراءات تأويلية لمنظومة الحديث النبوي، مستلهمة من النظريات اللغوية والمعرفية التي استخدمها الغربيون في تمحيص وفهم نصوصهم المقدسة. وخلف هذه النظريات تكمن مقولتان لا يمكن بأي حال استنباتهما في التربة الإسلامية؛ الأولى مفادها أن حداثة المجتمع الغربي وتقدمه هما وليدا صراع تاريخي بين الكنيسة والعلماء، للحد من هيمنتها على شؤون المجتمع، وولايتها المطلقة على الأعناق والأرزاق. أما الثانية فمتعلقة بالتقديس المفرط للإنسان بوصفه صانع تاريخه، والمتحكم الأوحد في مصيره.
أبى الحداثيون العرب إلا التسليم بالمرجعية الغربية في مراجعتهم للتراث، فبرزت على الساحة أصوات تشكك في حجية السنة النبوية، ولا تعترف بالأدلة النقلية في مقابل تمجيد مبالغ فيه للنظر العقلي المجرد. وكان الدكتور توفيقصدقي سباقا في هذا الباب بنشره لمقالين في مجلة المنار بعنوان : ” الإسلام هو القرآن وحده”، تلاه هجوم قاس للشيخ محمودأبورية في كتابه” أضواء على السنة المحمدية”.
غير أننا اليوم نشهدا طورا متقدما على مستوى الهجوم على السنة النبوية، وأشد تفلتا من زمام القيم. حيث يندهش القارئ لما تنضح به بعض الأقلام من حقد وتهكم، وسعي للمس بالأشخاص وتدنيس جهودهم بما لا يليق صدوره عن حداثيين يؤمنون، على حد قولهم، بالموضوعية والتجرد، وتجديد فهم النصوص بما يحقق للأمة سبيل النهوض الحضاري.
كان للبخاري وصحيحه نصيب الأسد في النقد الموجه للتراث الديني، بحسب تعبيرهم، والأمر راجع لمزيتين اثنتين هما : الجهد الاستثنائي الذي بذله في جمع الأحاديث الصحيحة، ووضع قواعد حديثية تنم عن دقة وصنعة وكمال احتياط. والثاني هو تلقي الأمة لصحيحه بالقبول، وإقرار العلماء بأنه أصح الكتب الحديثية.
أول ما يلفت الانتباه في لغة الخطاب التي اعتمدها بعض منتقدي البخاري، أنها تنطوي على استعلاء واضح، واعتداد بعقل المؤلف الذي لا تضاهيه عقول آلاف العلماء الذين تتبعوا صحيح البخاري قراءة وتمحيصا، وتدقيقا في كل شاردة وواردة بين سطوره. فقد يتوهم القارئ أن صحيح البخاري ليس سوى مخطوط مهمل في الأقبية، أوعلى رف مكتبة قديمة، ثم شاء القدر أن يعثر عليه المؤلف، ويُخضعه لاستنطاق شبيه بالذي يتعرض له المجرمون في مراكز الأمن!
يقول رشيدأيلال مؤلف كتاب( نهاية أسطورة صحيح البخاري):” أنا كغيري من الباحثين توجهت إلى التنقيب في هاته الأحاديث المروية في صحيح البخاري، فوجدت أن المئات منها تحبل بكوارث خطيرة، فمنها ما يسيء إلى مقام الألوهية، ومنها ما يسيء إلى مقام النبوة، ومنها ما يسيء إلى مقام الإنسان نفسه والمرأة على وجه الخصوص، إلى أن لمع في تفكيري سؤال بخصوص أصالة كتاب الجامع المسند الصحيح..”. ويقر المؤلف بأن السؤال قد يبدو في أول وهلة سؤالا بليدا وعجيبا، وهو كذلك بالفعل ليس لأننا ورثنا نسبته للبخاري، لكن لأن عقل أمة تناقل هذا الكتاب، وأخضعه لمسار شاق من البحث لا يمكن أن يوصف بالبلادة، وإلا جرى الحكم على المكتبة الإسلامية برمتها دون تمييز.
يتخيل المؤلف قافلة الفقهاء والعلماء الذين تتبعوا صحيح البخاري على أنها فرقة طبالين، حملوا البخاري على رؤوسهم، وطافوا به في الأسواق والحارات. وهو خيال أصيب في مقاتله نتيجة استيراد الخصومة التي نشأت في الغرب بين العلماء ورجال الكنيسة. في حين كان التوتر سيد الموقف في علاقة المحدثين وأغلب العلماء بالسلطة السياسية. والبخاري أحد هؤلاء الذين أبوا الانصياع لمحاولات تدخل الحاكم في مشوارهم العلمي.
يورد الذهبي في سير أعلام النبلاء-12/464- موقفا للبخاري حين أرسل إليه الأمير أحمدبنخالدالهذلي يطلب منه أن يحمل كتابيه ” الجامع الصحيح” و”التاريخ الكبير” ليسمعهما منه، فكان جواب البخاري:” أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس. فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضر في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة.
أما زكرياأوزون مؤلف كتاب (جناية البخاري) فيشعر قارئه كأن بين الرجلين خصومة شخصية، حيث يطوي المؤلف مسافة زمنية تناهز اثني عشر قرنا ليحاكم البخاري على جمعه لأحاديث لا تناسب التطور السائد اليوم، ولا المنطق الصوري ولا حتى الذوق العام. وفي ثنايا فهمه الخاص لكل حديث دون الحاجة للرجوع إلى المصادر والتأكد من التواريخ والوقائع، يكشف المؤلف عن ازدراء واضح بالحديث النبوي، واعتداد بالنظر العقلي الذي ينزع القداسة، برأيه، عن السنة النبوية، ويؤكد تاريخيتها وعدم صلاحيتها لواقع متطور كالذي نعيشه !
يبدو موقف بعض الباحثين من صحيح البخاري، وكتب الحديث بصفة عامة، أشبه بموقف الطبقة الأولى من المستشرقين من الإسلام برمته، من حيث الانطلاق من قناعات خاطئة، ثم البحث عما يعضدها ويؤكدها، حتى لو تطلب الأمر لي أعناق الحقائق، وتحميل النصوص والعبارات ما لا تطيقه. لكن المؤسف حقا أن تحظى المراهقات الفكرية بدعم إعلامي لا يخدم الحق ولا الحقيقة بقدر ما يتجاوب مع احتدامات إيديولوجية، وصراعات سياسية ومذهبية.
وإذا كانت الأمم الأخرى منكبة على تراثها الديني للتأكد من نسبة النصوص إلى أنبيائها وحكمائها، فإن الجهد الذي بذله البخاري وغيره من أئمة الحديث، أرسى قواعد علم جليل، لم يملك المستشرق المتعصب دافيدمرجليوث إزاءه إلا أن يُقر صاغرا: ” ليفتخر المسلمون ماشاؤوا بعلم حديثهم !”.