خلق الله الانسان من جسد وعقل وروح فكانت هذه مكوناته الأساسية التي تجعل منه كائنا غير الاخرين ومخلوقا مميزا كرمه الخالق وجعله خليفته في الأرض ، وأي اختلال بين هذه المكونات تجعل الانسان في حيرة وضياع وشقاء ، وربما هذا الاختلال يؤدي بهذا الإنسان المكرم والمميز عن باقي المخلوقات إلى أن يهوي إلى أسفل سافلين ” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ “.
كانت بوصلة البشرية على مر التاريخ كثيرا ما تفقد اتجاهها نتيجة اختلال ذلك التوازن ، فالحضارة اليونانية كانت تصب جل اهتمامها للعقل وكانت تتمحور حوله فقدّمت للبشرية أفضل الفلاسفة والعلماء والعقلاء ولكنها لم تتجاوز اليونان مكانا ولا زمانا إذ بقيت مقيدة في إطار العقل والجدل العلمي.
والحضارة الرومانية اتجهت بكلها للجسد فشيدت مباني وقصور ومسارح خدمة للجسد ومتعته، وسيرت جيوشا عظيمة وأقامت دولة كبيرة ولكنها لم تقدم للعالم وللتاريخ كثيرا من إشعاعات الفكر أوارتقاء الروح.
ثم جاءت العصور والوسطى ووضعت الكنيسة أغلالها على الجسد والعقل وكانت الروح موضع الاهتمام كليا حتى بات رجال الدين يجعلون من طهارة الجسد اثما للروح ونقيضا لطهارة النفس ويجعلون من التفكير وإبداعات العقل هرطقة وكفرا يستحق مرتكبه الإعدام!!
وهاهي حضارة الغرب اليوم تعود مرة أخرى وتجدد اهتمام العقل والجسد ولكنها تهمل الروح وتعيد الخطأ مرة أخرى بفقدان التوازن بين هذه المكونات الثلاث وبلا شك لن تلبث أن تضطرب هذه الحضارة من جديد باضطراب نفوس وأرواح أبنائها وإننا لنرى اليوم مؤشرات ذلك الاضطراب.
التوازن بين هذه المكونات كانت خاصية فريدة من خصائص حضارة الإسلام ، فإننا إذا أمعنا النظر في القرآن وتوجيهاته التي انطلقت منه حضارة الإسلام سنرى أن القران في تناسق رائع وتناغم جميل يوازن بين العقل والروح والجسد ليهدي الإنسان والمجتمع لتحقيق غاياته دون شعور بنقص في أي جانب من جوانبه.
فكم من الآيات تُوجهُنا وتوجه الانسان إلى تحكيم عقله وإلى التفكير والتفكّر في هذا الكون ومخلوقات الله في السماء والأرض والارتقاء بعقله وتفكيره ويأتي العتاب لمن يهمل استخدام عقله وتفكيره ” أَفَلَا تَعْقِلُونَ” ، “أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ”.
وفي ذات الوقت تجد الحديث الموجه للقلب وربطه بالخالق سواء بالخضوع القلبي التام أو بعبادات كالصلاة والقران والحج والذكر عموما ويبين أنّ في هذا القران ” مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” شفاء للصدور الضيقة بأغلال المادة وشفاء للأرواح التائهة في دنيا الغرائز.
وهذا التوجيه الرباني للروح إلى خالقها لم يهمل متطلبات الجسد وغرائز البشر الفطرية والطبيعية فقد وضح المولى في كتابه أن هذه الأرض بما فيها من خيرات إنما خلقت للانسان ليمشي في مناكبها ويأكل من رزقها ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ” ، ” هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” فلن تجد دينا أو ايديولوجيا أو أي مذهب إنساني فيه هذا التوازن الدقيق إيمانا وتطبيقا كما تجده في الإسلام.
بعد التراجع الحضاري الذي شهدته الأمة خلال السنوات والقرون الماضية ظهرت حركات من قلب العالم الإسلامي تهدف إلى استعادة المجد التاريخي للأمة والعودة بالأمة للصدارة فظهرت حركة تعمل على إصلاح الروح وربط المسلم بآخرته وعبادته فقط وحركة أخرى ركزت على الفكر والعقل ظنا منها أن الاصلاح يبدأ من الرأس فقط وأخرى حملت السلاح واستخدمت القوة من غير وعي ولا فقه فأفسدت أكثر مما أصلحت.
لا بد لأي مشروع يسعى لإعادة نهضة الإسلام وإقامة حضارته أن يعالج وينطلق بتوازن فكري وعملي بين هذه المكونات .
ليست أمة الاسلام فقط بل البشرية كلها تحتاج إلى إعادة التوازن بين سمو الروح وإبداعات العقل وغرائز الجسد وأي اختلال بينها كما هو حاصل الآن سيكون مصيره الشقاء .