فور صدور هذا الكتاب، مع بدايات الصيف من العام الجاري، أصبح يحّتل المكانة رقم واحد في قائمة نيويورك تايمز الشهيرة لأكثر الكتب رواجاً، وأفضلها بالنسبة للنقاد وجمهرة القارئين.
ولعل السبب يكمن في أن مؤلف الكتاب عمد، بحكم خبرته الطويلة في مجال أسواق الاستثمار الناشئة في أميركا وفي غيرها، إلى تحليل أسباب نمو أو تراجع الاقتصادات القومية عبر العالم، بل وقام بربطها مع عوامل صعود وسقوط الأمم على نحو ما أثبته، ربما بقدر من المبالغة، ضمن عنوان هذا الكتاب الذي يضم 10 قواعد أو توجيهات بشأن ترشيد مسيرة أي اقتصاد طامح إلى التقدم، أو إلى تحقيق قدر ولو معقول من الرفاه لصالح جموع المواطنين.
ولعل الميزة المحورية لهذا الكتاب، تتمثل في تركيز المؤلف على العنصر السكاني، وتتمثل هذه الميزة أيضاً في اهتمام المؤلف بأنشطة الصناعات التحويلية، التي يعّدها أساساً لاستمرار التقدم، وليس مجرد الاعتماد على الأنشطة الاستخراجية أو الأنشطة الريفية وما في حكمها.
فضلاً عن تنبيه الكتاب إلى أهمية الربط بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، وإلى ضرورات تحقيق التوازن بين دور الدولة، الحكومة ودور المواطن، القطاع الخاص، حيث يتمثل الهدف من هذا كله في تجنب آفة اللا مساواة بين طبقات المجتمع، بكل ما ينجم عنها من آثار بالغة السلبية بالنسبة لآفاق التقدم الاقتصادي.
في شهر يوليو الماضي، نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» اللندنية، تقريراً مسهباً على 8 صفحات، يضم تنويهات بعدد من أهم الكتب التي اختارتها هيئة تحرير الجريدة، ومن منظور تأثير تلك الكتب في ساحة الفكر العالمي في الواقع والمستقبل.
في مجال الفكر الاقتصادي، أوردت الصحيفة اللندنية كتاباً بالغ الأهمية من تأليف واحد من طلائع الاختصاصيين في ميدان الاقتصاد والاستثمار، علماً وممارسة في الميدان. وهذا الكتاب الذي لا يزال موضعاً لاهتمامات مخططي السياسة ومفكري الاقتصاد في أنحاء العالم، يحمل العنوان التالي: صعود الأمم (الدول) وسقوطها: 10 قواعد للتغيير في عالم ما بعد الأزمة.
والكتاب من تأليف مفكر اقتصاد عالمي من أصل هندي، اسمه روشير شارما.
ولعل ما يلفت انتباه القارئ المتعمق، من مجرد مطالعة عنوان هذا الكتاب، ملاحظة يمكن إيجازها على النحو التالي: إن محور الكتاب يربط بين متغيرات الاقتصاد وبين حالة الأمة – الدولة القومية، كما يمكن تسميتها، وبمعنى أن أي أمة – أي دولة، إنما تستمد حياتها وتستقي أحوالها صعوداً أو هبوطاً من واقع الأحوال الاقتصادية السائدة على صعيدها، وهو ما يجعلنا نحمد للمؤلف بداية أنه لم يقف بقارئيه فقط عند دلالات الأرقام ومضامين الإحصاءات، ولكنه ربط بين هذه الجوانب وبين نجاح أو فشل الكيان الأكبر، المتمثل، كما ألمحنا، في الدولة أو الأمة بشكل عام.
تاريخ حافل
الكتاب الذي نعرض له في سطورنا الراهنة يكاد يشكل أحدث الحلقات البارعة في سلسلة الدراسات التي ظلت معنية بمسار الأمم بين الصعود والهبوط، وهي السلسلة التي بدأت، فيما نتصور، بالعمل الكلاسيكي الأشهر الذي سبق إلى إصداره المؤرخ الإنجليزي إدوارد غيبون في عام 1776، تحت عنوانه الأشهر، وهو: تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وانهيارها.
والحاصل أن عمد مؤلف كتابنا، ربما من واقع عقليته الرياضية أو الحسابية، إلى تلخيص رؤيته بالنسبة للأسباب، الاقتصادية بالذات، التي تؤدي، في تصّور روشير شارما، إلى صعود الأقطار أو سقوطها في عالمنا المعاصر. وفي تصورنا، فإن استيعاب هذه الأسباب البشرية، لا بد أن يشكل واجباً يتعين من خلاله صياغة وبلورة مفردات الوعي المعاصر بأحوال العالم الذي نعيش فيه، وبحيث يستوي في ضرورات تشكيل هذا الوعي فئات الساسة الحاكمين مع المسؤولين المخططين، فضلاً عن جموع الدارسين والمفكرين، ثم عامة المهمومين، من أمثالنا، بتطورات الشأن العام.
عن المحاور العشرة
أما المحاور العشرة التي ألمحنا إليها، فيمكن تلخيصها بإيجاز بالغ التكثيف على النحو التالي:
(1) الأساس في كل مسيرة اقتصادية ناجحة أو غير ناجحة، هو «الناس»، كما يسميهم مؤلف هذا الكتاب، وبمعنى البشر، أو عدد السكان، حيث يذهب المؤلف إلى أن معدل نمو السكان، يشكل عاملاً مؤثراً على إمكانات النمو الاقتصادي.
(2) أن لا سبيل إلى تحقيق الإصلاح، أو النجاح في المضمار الاقتصادي، إلا بعد تحقيق القدر المطلوب من الإصلاح السياسي، باعتبار أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة والنمو الواحدة.
(3) أن أوضاع اللا مساواة، وبمعنى الخلل في توزيع الثروة القومية بين فئة الترف والثراء الفاحش وفئة المسغبة والفقر المدقع، إنما تنجم عنها آثار سلبية بالنسبة لهذا النمو الاقتصادي المطلوب.
(4) أن الضرورة تقضي بالحد من تدّخل الحكومات (الجهاز البيروقراطي) في مسيرة الاقتصاد، باعتبار أن تداخل وتدّخل الدولة في الاقتصاد، يمكن أن يفضي إلى عواقب سلبية في هذا المجال.
هنا أيضاً، لا يفوت المؤلف أن يتوقف ملياً، ومن منظور العرض والتحليل، عند مبدأ تسامع به الباحثون والخبراء في السنوات الأخيرة. وهذا المبدأ يحمل العنوان التالي: «توافق آراء بكين».
هنا، ينصرف الأمر إلى التجربة الاقتصادية التي عاشتها الصين الشعبية، وخاصة بعد رحيل زعيمها الأيديولوجي ماو تسي تونغ (في عام 1976)، حيث تولى مقاليد الأمور من بعده، دنغ هيساو بنغ، الذي عمد على مدار الفترة 1976، 1989، إلى تطبيق منظور عملي، تجريبي، براغماتي، بعد أن اختار نهج المرونة بعيداً عن نهج التمسك المذهبي الجامد بالأيديولوجية الشيوعية – الماركسية، فكان أن جمع بنغ بين دور الدولة والحزب (الشيوعي) الحاكم، وبين إفساح الطريق أمام مبادرات الأفراد والجماعات، بعيداً عن الالتزام العقائدي أو الانصياع إلى توجهات وأوامر الحزب الشيوعي، وهو ما جسد ظاهرة التوافق الصيني بين القطاعين العام والخاص، التي ارتآها البعض، أمراً إيجابياً وأسلوباً حقق النجاح، حيث كان يجمع بين مسؤولية الدولة ومبادرات الأفراد في الصين.
(5) الموقع الجغرافي للبلد المعني، الأمر محوري، وله تأثيره الجوهري، إيجاباً وسلباً على أوضاع وتطورات الاقتصاد، والأمر بديهي بطبيعة الحال، فالأقطار المطلة على سواحل ومحيطات وبحار، وعند المنعطفات والممرات المائية، وما في حكمها، تتمتع بمزايا الجغرافيا بخلاف البلدان غير الساحلية المغلقة، كما يسمونها، أو تلك الواقعة عند أطراف الكوكب الجليدية أو عبر البوادي القاحلة أو معازل الأدغال وغيابات الأحراش.. وما إليها.
(6) أهم وأنجح أنشطة الاستثمار، هو ذلك الذي يتم، كما يؤكد مؤلف الكتاب بحكم خبرته الطويلة الحافلة في هذا الميدان، في مجال الصناعات التحويلية.
(7) من العوامل الإيجابية التي تساعد على دعم واستمرار النمو الاقتصادي، ما يتمثل في العمل بكل جهد على الحد من آفة التضخم.
(8) ثم يصدق الأمر نفسه على سعر صرف العملة الوطنية المتداولة: كلما كان هذا السعر منخفضاً، وكلما كان مستقراً بغير تذبذب، فذلك يشكل عاملاً إيجابياً في تحقيق واطراد النمو الاقتصادي.
(9) حذار من استمراء الاقتراض، أو اعتباره حلاً سحرياً ناجعاً لمعالجة المشكلات الاقتصادية: في هذا الجانب، يذهب المؤلف محذراً، ومن واقع خبرته المالية أيضاً، من عواقب المديونية، حيث يقول في هذا الموضع من الكتاب، إن الإفراط في الاستدانة يمكن أن يفضي إلى وقوع أزمة مالية.
(10) ويحذّر الكتاب أخيراً من المبالغة في إضفاء الإيجابية أو الإفراط في الثناء على هذا النظام الاقتصادي أو ذاك، ما بين اقتصاد الصين إلى اقتصاد أميركا، أو ما شابه هذه الأوضاع الاقتصادية، الكل لديه مشكلات، الكل يصادف معاناة، وإن اختلفت الأشكال والأساليب والتجليات. وبمعنى أن المطلوب هو الانطلاق من ضفاف الموضوعية والواقعية في آن معاً.
دروس أزمة 2008
هنا، وبعد هذه الوصفة العشرية، كما عرضنا لها، يدعو مؤلف الكتاب إلى تأمل الأبعاد، بل والدروس المستفادة من الأزمة المالية التي لحقت بالاقتصاد العالمي في عام 2008، بل وتجلت أفدح مظاهرها في بلد كبير هو الولايات المتحدة، حيث انهار عدد من البيوتات المالية الكبرى، واكتوى بنيران الأزمة المالية عدد من المصارف والمؤسسات في وول ستريت في نيويورك.
من ناحية أخرى، يلاحظ قارئ هذا الكتاب، أن المؤلف لا يتوقف كثيراً عند أحوال الولايات المتحدة بحد ذاتها، ولكنه يولي تركيزه في الحديث عن الأوضاع الاقتصادية وآفاق التطور في أقطار أخرى ما بين البرازيل في أميركا اللاتينية إلى الهند في الشرق الآسيوي. ثم يلاحظ أيضاً أن الكتاب، وإن كان يولي اهتمامه بعنصر السكان، الناس كما يحرص المؤلف على وصفهم،
تفاؤل من الهند إلى ألمانيا
يسجل المؤلف توقعات إيجابية لصالح أقطار، منها الهند في آسيا، ومنها ألمانيا في أوروبا، وإن كانت مؤشرات هذه النظرة التفاؤلية، لا تلبث أن تنحسر بالنسبة إلى روسيا، التي يطبّق عليها المؤلف فكرته، بأن هناك مليارديرات تفيد الاقتصاد القومي عندما تفتح هذه الفئة مصانع تحويلية، وتتيح فرصاً واسعة وغزيرة لاستخدام العمالة الماهرة والمبدعة، بقدر ما تصاب اقتصادات قومية أخرى بآفة المليارديرات الفاسدة، وهي الفئة التي تركز همّها على تكديس الثروات، واستغلال النفوذ السياسي.
بل ولا تتردد، أو لا تستحي، من التعاون أو التواطؤ مع عناصر الجريمة المنظمة، المافيا كما يصفها مؤلف الكتاب، الذي يركز الحديث في هذا الصدد، على رؤيته لما يجري في روسيا، التي يرى أن اقتصادها لا يزال يعاني من ممارسات المليارديرات الذين يعمدون إلى التربّح ومراكمة الثروات من مصادر تقوم على أساس «التربيطات» وتبادل المصالح والأنشطة الريعية غير الإنتاجية، فضلاً عن أنشطة بعضها خارج عن القانون.
علاقة وثيقة تربط السياسة بالاقتصاد
يجيد الكتاب التعامل مع المتغير الاقتصادي، عندما يربط بينه وبين المتغير السياسي، وبحيث تشكل العلاقة بين الجانبين، ما يمكن تصوره وضعاً مستجداً وفريداً، وربما غير مسبوق بحال من الأحوال.
في هذا الإطار، يسوق الكتاب نموذجاً على العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد.
النموذج مستقى من تجربة بنك التنمية الآسيوي: أنشؤوه في ستينيات القرن الماضي، واختاروا لها يومها مانيلا، عاصمة الفلبين.
لماذا؟ لأن الكل كان في تلك الفترة على اقتناع بأن الفلبين سوف تكون هي النجم الساطع في الأفق الآسيوي. ولكن تطورات السياسة، ومن ثم متغيرات الاقتصاد، ما لبثت أن جاءت عند نهاية القرن العشرين، بظاهرة ضمت عدداً من أقطار المنطقة، وحملت يومها شعار النمور الآسيوية، ثم تجلت في أعقابها، صدارة الصين، . صحيح أن واجهت تلك الأقطار الآسيوية مشكلات أدت إلى انحسار ذلك المد من النمو الاقتصادي ، بل والإطاحة بالفلبين من مركز النجم الصاعد المأمول، إلا أن المؤلف يتوقع لها معاودة ذلك النهوض.
يرى المؤلف أن أميركا جديرة بالخروج من أزماتها، عندما تسود منتجات وادي السليكون إياها، كل جوانب الحياة الأميركية، والتوصل إلى استخدامات كائنات الذكاء الاصطناعي (الروبوت السوبر، متطور)، لأداء مجموعة غير مسبوقة من الوظائف والواجبات والمهام التي درج الإنسان على القيام بها، ومنها ما كان يعسر على البشر أنفسهم أداؤها وإنجازها على الوجه المطلوب، ما بين مجالات التصنيع والإنتاج إلى مجالات السلوك والعلاقات الإنسانية.
الحل الناجع لنمو الاقتصاد
يرى المؤلف أن الحل الناجع والمفضي إلى نمو الاقتصاد، إنما يتركز في توسيع وترشيد ومواصلة الأنشطة الإنتاجية، لا سيما في مجالات الصناعة على اختلاف منتجاتها، خاصة أن الاعتماد على المجالات الأخرى لدعم الثورة الوطنية، ومنها مثلاً، تصدير الخامات أو التركيز على السلع الزراعية، وما في حكمها، هي مجالات لا سبيل إلى السيطرة عليها، بقدر ما أنها تخضع، بحكم التعريف، إلى تقلّبات الأسعار العالمية، الخاضعة بدورها إلى أنواء السياسة ومتغيراتها، فضلاً عن تبدلات العلاقات الدولية.
عن المؤلف
يعد روشير شارما من طليعة خبراء الاستثمار. وهو يشغل موقع الرئيس المسؤول والخبير الاستراتيجي في مجال الأسواق الناشئة بمؤسسة مورغان ستانلي الاقتصادية العالمية. وُلد المؤلف في ناحية جايبور بولاية راجستان بالهند، ودرس في كلية التجارة. وبعد أن دأب على نشر مقال تحليلي في مجال الاقتصاد والاستثمار ، اهتمت بالإفادة منه مؤسسة مورغان ستانلي ، وكان أن تحّول للعمل لديها في نيويورك التي ما زال مقيماً بها منذ عام 2002.