الثقافة تميُّز معرفي، وفضيلة علمية، يسعى كل عاقل إلى الاتِّصاف بها، ويحرص كل نبيل على التعلُّق بأهدابها، والثقافة بعمومها بحر متلاطم يحتاج المُبحرُ في خِضَمِّه إلى “بوصلة” فكريَّة، وخارطة معرفية، يهتدي بها في ظلمات اليمِّ، حتى يؤوب إلى بَرِّ النجاة سالمًا غانمًا، مغتبطًا بغنائم الأعماق من الفكر الرَّصين والعلم المكين.

والبصيرة الثَّقافية مناعة فكرية، وتبصُّر بالواقع مع إحاطة بالماضي، وتدبر في المآل، وتفكر في الحقائق، وقدرة على التمييز، وفراسة تجمع بين التثبت والتبيُّن، والتبحر والتدبر، إنَّها مَلَكة نفسية تُمكن الأريب من تمييز الحق، والتعرُّف على الصواب، فينعم بثلَج اليقين وانشراح الصدر، و”التبصر”: التأمل والتعرف، و”المبصرة”: المضيئة، ومنه قوله – تعالى -: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً} النمل: 13، قال الأخفش: معناه: أنَّها تُبَصِّرهم؛ أي: تجعلهم “بُصراء”، و”المَبْصَرة”: الحجَّة، و”البصيرة”: الحجَّة، و”الاستبصار”: في الشيء[1].

المثقف البصير ديدنه التأمُّل في آلاء الله، والتعرُّف على أحوال الناس ومذاهبهم معرفة تمحيص وتصحيح، وهِجِّيراهُ التدبُّر في آيات الخالق الكونيَّة والشرعية، فهو على الدوام مهتدٍ هادٍ ساعٍ على هدي رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – مقتفٍ آثاره المباركة؛ قال الله  تعالى  على لسان نبيه – صلَّى الله عليه وسلَّم (يوسف: 108) أي: على معرفة وتحقق. {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، والقلب ملك الجوارح، ومحل العقل، ومُستودع الحقائق، فإذا صحَّ سلم ابن آدم من الهلاك والضياع، والقلب يبصر كما تبصر العين، وتحصل له بتلقي العلوم النافعة، والمعارف المفيدة، والرياضة السوية قوة يدرك بها الحق.

“ويقال لقوة القلب المدركة: بصيرة وبَصَر نحو قوله  تعالى -: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]،: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}وقال تعالى. [النجم: 17]”[3].

المثقف البصير يستدل على الحق بحجج علمية، وأدلَّة قوية تقنع كل راغب في الاهتداء، ساعٍ إلى النَّجاة، والبصيرة الثقافية هي نتاج اطِّلاع واسع، ومعرفة أكيدة، وتجارب ثرية يعضدها ذكاءٌ صادق وصفاء روحي، إنَّها ثروة فكرية هي حصيلة الثقافة الواسعة والعمق المعرفي، فثمَّ علمٌ غزير وذكاءٌ متَّقد، نعم القابلية النفسية، والاستعداد المبكر، واستحكام الإرادة أرضية خصبة لإنتاج هذه المقدرة الإبداعيَّة؛ ولكن بشرط أن توفق لمُزنة تمطر رعاية وتوجيهًا وإرشادًا وتسديدًا، حتى تستويَ الشجرة المباركة على ساقها، توفر الموهبة من لمَّاحية الفكر والفطنة، والحافظة الواعية أرضية صلبة لبناء العمران الفكري الشامخ، ثُمَّ إذا أُطْرِيَت تلك المواهب الرَّبانية بالتأصيل العلمي والقراءة الإبداعيَّة، التي تجمع بين العُمق والسَّعَة، والتفكير الموضوعي، والثِّقة بالمنهج الأصيل، وإدارة الوقت وثَرَاء التَّجارب، أخرج كل ذلك فكرًا متألقًا وعقلاً علميًّا عملاقًا، عقلاً راشدًا يؤازره قلبٌ سليم، إنَّها مطمح علمي وأمل فكري، وواجب على أذكياء الأُمَّة وأهل المقدرة الفكرية العملُ المنظم على الوصول إليه والدلالة عليه، وواجب المضطلعين بأعباء التَّوجيه العلمي والإرشاد الثَّقافي إعلاء المنار ووضع الصَّوَى على الطريق.

حتَّى يهتدي الساري، ويأنس الشادي، هذه البصيرة الثقافية تتجلى في وصية الشيخ المحقق لتلميذه النَّجيب؛ حيثُ قال ابن القيم – رحمه الله -: “قال لي شيخ الإسلام – رضي الله عنه – وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشُّبهات كالسفنجة، فيتشربها، فلا ينضج إلاَّ بها، ولكن اجعله كالزُّجاجة المصمتة تمر الشُّبهات بظاهرها، ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلاَّ فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرًّا للشبهات، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك”[4].

إنَّها الدعوة إلى التحصُّن بسياج قوي من العلم الكافي والفكر الصافي، وحينئذٍ لا يضر حاملَ هذه الأنوار أن يقتحمَ كهوفَ الأفكار، فضَوء المصابيح يقضي على تلك الظُّلمات، وما أحوجَ كل مهموم بقضايا الفكر ومسائل الثَّقافة في هذا العصر، الذي تموج فيه الأفكار، وتثور شبهًا – أن يقتبس من هذه الوصية الثَّمينة قبسًا يستضيء به في دياجي الفتن.

إنَّ الثقافاتِ التي تتمظهر في عصرنا تجعل غير المُؤهل وغير المستعد لهذا المعترك الحضاري، كمن تقطعت به السبل في بيداء الحيرة ينتظر نجمًا يهدي أو طودًا يدلُّ، ولا تفتأ الشبه الفكرية يومًا بعد يوم وليلة في إثر أخرى تتوالى على شاشات الفضائيَّات، وصفحات الشبكة العالمية تؤرق عقول الأمة، وتهدد وجدانها.

والأمن الفكري في أهمية الأمن المادي إن لم يكن أشد أهمية، فالرَّد على الضلالات الفكرية فرض علمي، وحسبة لا بُدَّ من القيام بشأنها كما ينبغي، وأنفع الطرق في هذا الشأن هو تحصين المطَّلع بدرع واقية، وإمداده بزاد فكري؛ حتَّى يسير في دروب الفكر الشائكة آمنًا من الزيغ والضلال.

والسلامة مطلب كل ساعٍ وغاية كل سائر، ولسان حال كل موفق: “إذا سلم لي إيماني فيا فوزي”، كما نادى الإمام الذهبي – رحمه الله.

وإن تلك البصيرة تتجلى في صَيْحة العارف أبي سليمان الدَّاراني – رحمه الله -: “لو أن الناس كلهم شكُّوا في الحق ما شككت فيه وحدي”، ثقة ويقين وإيمان مَتين، فالطَّريق واضحة، والجادة بيضاء نقية، وشمس الحق مشرقة ساطعة، ثم إنَّ الشجاعة الأدبية شرط في التبصُّر؛ كي لا يردَّ المفكرُ الحقَّ إذا استبان له؛ لهوى نفسٍ، أو ركونٍ إلى لُعَاعة دنيا، أو إخلاد إلى الأرض.

إنه لا بد مع معرفة الصراط المستقيم من الاتصاف بقوة الإرادة وصدق العزيمة؛ حتَّى يجتمع مع العلم النَّافع العمل الصالح، فتحسن السيرة، ويجمل الحال، ويعظُم أثر المثقف في المتلقين، المفكر البصير منهوم حصيف، باحث ضالته الحكمة، يعرف أصول الدين معرفة وافية، ويقرأ التَّاريخ بموضوعية، ويفسره تفسيرًا إسلاميًّا واعيًا ويقرأ الحاضر بعين ذكية، تخضع الفكر المتهم للنقد والمحاكمة، ويستشرف المستقبل بأدوات علمية، رائد يقظ ونذير صادق يحدوه النصح للأمة، والحدب والشفقة على إخوانه، يَجمع بين المنطق السليم الذي يؤطر الحقائق، وبين الوجدان الذكي الذي يُضفي على المحصول الفكري روحًا إبداعية.

إنها شجاعة علميَّة وثقة بالنفس عالية تتسق وقوانينَ الفكر، تحاور وتَدرس وتناظر، ولكن وَفْقَ توجيهات الوَحي المعصوم، تلك البصيرة عقل ينظِّر، ولسان يعظ، وفؤاد يصدق، فؤاد شعاره الصِّدق، وهتافه الإخلاص، إنَّها استعلاء على الباطل وتَطَامُن للحق، بصيرة تتبدَّى في عقلية جبارة، وعقل طموح تظهر في نفسٍ منكسرة لمولاها، مستكينة لبارئها، تلهج بالتضرع والثناء، تعتز بالتذلل لمولاها، وتشرف بالتعبد لخالقها، فهي تتسنم ذِرْوة المجد، “فقمة الحرية في لزوم عتبة العبودية”، ذلكم البصير عابد معتكف في مِحراب الشكر وروضة التفكُّر، يحمد ولي نعمته على فضله، ويسعى حثيثًا في شكر تلك المواهب العظيمة.

إنَّها إشراقة نفسيَّة ينعم في ظِلِّها العقل بالطمأنينة، والقلب بالسكينة، والرُّوح بالرِّضا، فينشأ عن سعادة النَّفس هذه توازن وتكامل تام، فيتمثل الفكر معمارًا باذخًا.

البصيرة العلمية رتبة معرفيَّة سامية دونها الجدية العلمية، والتضلع من مناهلِ العِرْفان، والتطلع الناضج لكل مُفيد، وأخذ الكتاب بقوة.

ومن تبصر في الأمر واستمسك بالعُروة الوُثقى، كان الثباتُ سمتَه، والرشد وصفه، فتراه ثابتًا كالعلم الأشمِّ وسط المدلهمات، واثقًا في ثَبَجِ البحر وَسْطَ الأمواج المتلاطمة، لا يفزعه هدير البحر، ولا يروعه اهتزاز الفلك، واثق أنَّ العروة التي يستمسك بها مُحكمة، وأن الحبال وثيقة، وأن الصانع ماهر، وأنَّ الملاحَ شجاع، وفوق كل ذلك، وقبل كل ذلك، واثق أنَّ الله حافظ، وأن الحق غالب.

هذه البصيرة تتضمن ثقة تامَّة في المنهج، ثقة عقليَّة – وكل عاقل مضطر – وضرورة فكرية إلى الالتجاء إلى هذه الثقة، والإيمان الراسخ لدلائل وشواهد لا يجد العقل لها دفعًا، فينقاد حينئذ العقل الصحيح مطمئنًا إلى الحق الأبلج.

وهذه الثقة تُسايرها شجاعة أدبيَّة تعلن بوضوح التَّحرُّك في دائرة الحق والدَّوران في فلك الصواب، إنَّ البصيرة الثقافية عزيمة فكرية، واجبٌ على المشتغلين بقضايا الثَّقافة والفكر الأخذ بها؛ حتَّى يسلموا من هَفَوات الفكر وزَلاَّت العقل.

البصيرة الثقافية رشد فكري وريادة معرفيَّة، والمتبصرون رواد وُفِّقوا لقيادة الرواحل النجيبة إلى رياض الفلاح، وحُداة هُدوا إلى سَوْقِ القافلة إلى مراتب الصدِّيقين وقمم الفائزين، فطوبى للمتبصرين.


[1]   “مختار الصحاح”، لمحمد بن أبي بكر الرازي، ص54، عُنِي بترتيبه السيد محمود خاطر، الطبعة السابعة، المطبعة الأميرية بالقاهرة، 1953م.

[2]   “المفردات في غريب القرآن”، للراغب الأصفهاني، ص49، تحقيق وضبط: محمد سيد كيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1381هـ – 1961م.

[3]   المصدر السابق.

[4]   “مفتاح دار السعادة”، لابن القيم الجوزية، (1/221)، باعتناء عصام الدين الصبابطي، بدون تاريخ.