تناولنا في مقال سابق مفهوم العملات المشفرة و البيتكوين وشيئا من مزاياها وسلبياتها، وفي هذا المقال نتحدث عن أهم الإشكاليات الشرعية التي تفجرها العملات المشفرة مثل البيتكوين:

مشروعية الإصدار

أول الإشكالات الشرعية تكمن في مشروعية إصدار هذه العملات، فذهبت بعض الفتاوى إلى تحريم إصدارها والتعامل بها، لما يكتنفها من الغرر والجهالة، والتردد بين الثمنية والعرضية، وعدم رواجها رواج النقود، وما يكتنفها من الغموض وعدم الإفصاح، ولكونها خارج سيطرة الحكومات، بينما دافع آخرون عن المشروعية معللين أن هذه الأسباب لا ترقى إلى تحريم الإصدار.

إلا أن الواقع قد تجاوز الحديث عن مشروعية الإصدار، فقد صدرت عملة البيتكوين مثلا وأصبحت حقيقة واقعة، بل إنها قاربت السقف الذي حددته لعدد الوحدات.

حيث تنص قواعد الإصدار على  التوقف عند 21 مليون وحدة،  والمتداول منها حتى الآن حوالي 17 مليون وحدة، أي أنه قد فرغ من إصدار حوالي 85% من مجموع العدد المزمع إصداره!

لو تجاوزنا الحديث عن الإصدار باعتباره أصبح واقعا ملموسا، فإنه تقابلنا مسألة :

  ثمنية العملات المشفرة

انتهت الفتاوى المجمعية، بل والفردية، إلا ما شذ من آراء فردية إلى أن الذهب والفضة والعملات الورقية يدخلها الربا بنوعية (الديون والبيوع)؛ أما الذهب والفضة فللنص عليهما، وأما العملات الورقية فلوجود الثمنية فيها باعتبار الثمنية هي العلة في الذهب والفضة.

وهنا تبرز مسألة قياس العملات المشفرة على الذهب والفضة من جديد، هل تلحق بهما لوجود الثمنية بها؛ أم لا تلحق لعدم رواجها في جملة الثمنيات؟

ويترتب على ذلك سريان ربا البيوع عليها، فإذا ألحقت بالذهب والفضة لحقها ربا البيوع، وإذا لم تلحق بالذهب والفضة لم يلحقها ربا البيوع، لكن ربا الديون سيلحقها على كل الأحوال.

ويترتب على إلحاق العملات المشفرة بالذهب والفضة الآتي :

(أ) لا يجوز بيع النقد المشفر بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا. فلا يجوز مثلاً بيع وحدة من البيتكوين بعملة أخرى نسيئة بدون تقابض.

(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من النقد المشفر بعضه ببعض متفاضلاً، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلاً بيع عشرة وحدات من البيتكوين، بإحدى عشرة وحدة نسيئة أو يدًا بيد.

(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع وحدة من البيتكوين أو لايتكوين..بريال قطري واحد، أو أقل من ذلك، أو أكثر إذا كان ذلك يدًا بيد.

(د) وجوب زكاة العملات المشفرة، إذا بلغت قيمتها نصاب الذهب، وهو 85 جراما من الذهب ، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة.

(هـ) جواز جعل النقد المشفر رأس مال في بيع السلم، والشركات.

(و) أما جعل النقد المشفر مسلما فيه، فهذا ربما يكون محل إشكال؛ لأنه قد لا يكون عام الوجود حين التسليم . [1]

القبض الحكمي

لا يتصور أن يكون للعملات المشفرة قبض حقيقي؛ لأنها ليست عملات حقيقية، فهي افتراضية كما ذكرنا من قبل؛ إذن سوف يكون القبض في التعامل بها قبضا حكميا، وهو يحصل بتسجيلها في البلوكيشن وانتقالها إلى محفظة المالك الجديد؛ جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي : ” من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً :

القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية :

أ – إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية .

ب – إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل .

ج – إذا اقتطع المصرف – بأمر العميل – مبلغاً من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى ، في المصرف نفسه أو غيره ، لصالح العميل أو لمستفيد آخر ، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية .

ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي ، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل ، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي .”

والشاهد أن القبض الحكمي يحل محل القبض الحقيقي في هذه العملات.

المضاربة على العملات المشفرة

المضاربة على العملات من أكثر الممارسات شيوعًا في هذه الأيام داخل البورصة، والمقصود بها شراء عملة يتوقع أن يرتفع سعرها لبيعها وقت ارتفاع سعرها، أو بيع عملة يتوقع هبوط في سعرها أو مزيد في هبوط سعرها تفاديًا للخسارة أو تقليلا لها.

وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذه القضية في دورته الحادية عشرة سنة (1998)م، وقدم للمجمع وقتها بحثان – هما مجموعة ما قدم من أبحاث في الموضوع- وقد نحا البحثان إلى منع جعل العملات محلا للمتاجرة ، إلا أن المجمع لم يتخذ في حكم المتاجرة بالعملة في هذه الدورة قرارًا.

ومن خلال تتبع مناقشة هذا الموضوع داخل المجمع يتبين لنا أن العلماء انقسموا إلى فريقين:[2]

الفريق الأول: يرى أنه لا بأس بجعل العملات محلا للبيع والشراء بقصد المتاجرة =(مضاربة بالمعنى الشائع وإن كان خطأ من الناحية الشرعية) طالما أن المتاجرين بها ملتزمون بالضوابط الشرعية لقواعد الصرف وممن رأى ذلك (الدكتور علي محيي الدين القره داغي، والدكتور مختار السلامي، والدكتور عبد الله بن بيه[3]، والدكتور صالح المرزوقي[4]).

الفريق الثاني: يرى أنه لا يجوز جعل العملات محلا للبيع والشراء بقصد المتاجرة لا في السوق العاجلة ولا الآجلة، وهذا ما عليه أكثر العلماء، ومنن قال بذلك: (الدكتور عبيد العقروبي، والشيخ عكرمة صبري، والشيخ الصديق الضرير، والدكتور محمد علي القري، والدكتور علي السالوس، وصاحبا البحثين المقدمين للمجمع الدكتور أحمد محيي الدين أحمد، والدكتور شوقي أحمد[5]، والدكتور سامي السويلم، والدكتور محمد بن سعود العصيمي.

وهذا الخلاف سيسري على النقد المشفر في حالة المضاربة عليه.

باب للحيل

ومما تجدر الإشارة إليه أن عدم عدِّ النقد المشفر من جملة العملات سيفتح باب التحيل على ربا البيوع على مصراعيه ليحل محل ربا القروض والديون؛ حيث يتمكن المضاربون من بيع البيتكوين بالدولار مثلا بدون التقيد بأحكام الصرف من التسليم والتسلم الفوريين، ومن عدم التماثل بين بيع البيتكوين بالبيتكوين، ثم يقوم المتعاملون بتحويل البيتكوين إلى الدولار بعدما يكونان قد حصلا على بغيتهما!

فمن أراد أن يقترض مثلا ألفا ويردها ألفا ومائتين[6]، فبدلا من ذلك سوف يشتري ألف وحدة بيتكوين عاجلة بألف ومائتي وحدة من البيتكوين مؤجلة، ثم بعد أن يستلم الألف بيتكوين يقوم بتغييرها إلى الدولار ليحصل على بغيته، ولا نملك أن نحرم عليهما هذه الحيلة حينئذ!


[1] – انظر ورقة د. سامي السويلم، ص5.

[2] – المجلد الأول للدورة الحادية عشرة من مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

[3] – يرى الدكتور عبد الله بن بيه أن الأصل جواز المتاجرة بالعملات، وقد يعرض ما يمنع ذلك سدا للذريعة كأن تؤدي المتاجرة بها إلى الضرر والفساد.

[4] – أجاز جعل العملات محلا للمتاجرة إلا أنه لم يجز الكيفية التي يتم بها البيع بالطرق العاجلة والآجلة معا، فرأيه وإن بدا أنه مع الفريق المجيز فإنه في حقيقته وصل إلى ما هو أشد من رأي المانعين.

[5] – مجلة المجمع في دورته الحادية عشرة، وتتبعت آراءهم من خلال عرض المجلة وقائع مناقشتهم هذا الموضوع.

[6] – هذا على فرض أن وحدة البيتكوين تساوي في سوق الصرف دولارا واحدا، وإلا وقع العقد على ما يساوي الألف دولار من وحدات البيتكوين.