فطَرَ اللهُ –عزَّ وجل– النفوسَ على حب الاطّلاع والاستقصاء، فنحنُ كلما اطلعنا على سِرٍ من الأسرار تطلّعنا إلى ما وراءه، في سياقِ فهمٍ لا ينقطع، والتقدمُ البشريُّ على صعيد التراكم المعرفي مَدِينٌ في الحقيقة لهذه الفطرة. ومن الملاحَظ أن فهمَنا للأشياء متوقفٌ على فهمنا للعلاقات التي تربط بينها، كما أنه متوقف -إلى حد بعيد- على فهم امتدادات المسائل والقضايا وأبعادها المختلفة، ولهذا فإن ما نحتاجُ إلى معرفته دائماً كبيرٌ وكثير التشعب.
مصطلح الحَفْر المعرفي مصطلح حديث نسبياً، وهو يعني تتبع الحقائق والبحث عن طبقاتها المكوِّنة لها، ومحاولة العثور على أجوبة للأسئلة الكثيرة التي نطرحُها في مختلف مجالات الحياة.
ولعلي ألامسُ هذه القضيةَ عبر المفردات الآتية:
1- لم يكن للحفر المعرفي أي معنى لو كانت الأمورُ واضحةٌ أمامنا تمامَ الوضوح، فالتفكير مسألة شاقة جداً، ولا يلجأ إليه الإنسانُ إلا عند الضرورة، ومن المعروف أن ما متَّعنا الله –تعالى– به من حواس اللمس والشم والذوق والسمع والبصر هي النوافذ التي يطلُّ منها العقلُ على الوجود، وحين تغلق إحدى تلك النوافذ لسبب من الأسباب، فإن المرء يُحرم إدراكَ كل ما يمكن أن يتصل به من خلال تلك النافذة، فالذي يفقِد بصرَه يُحرم رؤيةَ كل ما يراه المبصرون، وحين يكون فقدُ البصر مبكراً جداً –في السنة الأولى من الحياة مثلاً– فإن الكفيف يكون عاجزاً عن تصور ما يحدِّثه الناسُ عنه من الألوان وغيرها. لكن المشكلة ليست مشكلة النوافذ المغلقة فحسب، فهناك أيضاً مشكلة النوافذ المفتوحة، فهناك أشياء كثيرة نؤمن بوجودها إيماناً قاطعاً، ولا نملك أي حاسة لإدراكها، كما هو الشأن في الملائكة والجانّ… وكما هو الشأن في الكهرباء والموجات اللاسلكية… إذن نحن نشعرُ دائماً بالعجز عن ملامسة كل ما نؤمن بوجوده، كما نعجز عن تكوين تصور واضح عنه، وهذا كله يدعونا إلى الاستمرار في البحث والتنقيب لعلنا نعثر على ما ينقع الغُلَّة، ويشفي الصدور.
لكن من المهم هنا أن نقول: إن معظم الناس لا يجدون لديهم الطاقةَ الروحية لمتابعة البحث، وطرح الأسئلة، ومحاولة العثور على أجوبة جيدة لها، ولهذا فإن الناسَ كثيراً ما يستسلمون، ويعلنون عجزَهم وجهلهم، وفي بعض الأحيان يروُون ظمأهم إلى الوقوف على الحقيقة من خلال الخرافات التي يبتدعونها، ومن خلال الشائعات والادعاءات التي يتناقلونها، والتي لا تثبت في الغالب أمام أي تمحيص.
الإنسانُ يحب المعرفةَ، ويكره الغموضَ والفراغ، ولهذا فإنه يملأ الفجواتِ عن طريق إطلاق العنان لخياله كي يوافيه بما يمكن أن يكون جواباً يُقنع بعض الناس على الأقل. وهذا في الحقيقة من أكبر التحديات التي واجهها الناسُ على مدار التاريخ؛ لأن ملء الأدمغة بالعقائد والمعلومات المغلوطة والحقائق المشوَّهة والمكذوبة… يجعل الناسَ لا يشعرون بآلام الجهل، ومن ثم يقعدهم عن البحث عن العلم الصحيح وفهم الأمور على ما هي عليه، وكلما درج الناسُ في سُلَّم الحضارة اكتشفوا خطورة المعلومات المغشوشة والعقائد الزائفة، لكن يبدو لي أن الناس لن يصلوا في يوم من الأيام إلى النقاء العقدي الكامل، ولا إلى الرؤية الفكرية الواضحة والمكتملة؛ والله المستعان.
2- الحقيقةُ الواحدةُ تتكون من طبقات، وكلما فقهنا كنه طبقة من طبقاتها واجهتنا متحديةً طبقةٌ جديدة تطرحُ علينا أسئلة جديدة تحتاج إلى بحث وإجابة جديدة، وعلى سبيل المثال يكون بين يديك كتاب، فترفعه، وتسأل: ما هذا الذي بيدي؟ ويكون الجواب: هذا كتاب. ما لون غلافه؟ يقال: أخضر. يفتح الكتاب، ما لون ورقه؟ أصفر. إلى هنا الأسئلة سهلة، والإجابات يسيرة، ووسيلة الإدراك هي النظر. فإذا سألت: في أي علم يتحدث هذا الكتاب؟ قال لك أحد الحاضرين: دعني أنظر فيه. ينظر فيه، ويقول هذا كتاب في الأدب، ونحن نلاحظ أن وسيلة الإدراك هنا ليست النظر فحسب، وإنما خبرة الذي أجاب، ومعرفته بعلم الأدب.
ثم تسأل: عن أي عصر من عصور الأدب يتحدث مؤلف الكتاب؟ وهنا نلاحظ أن الجواب يتطلب من الذين ألقي عليهم السؤال نوعاً من المعرفة المسبقة بالكتاب، أو أن يقوم الذي يريد الإجابة بتفحص الكتاب وقراءة بعض صفحات منه، أو الاطلاع على الفهرس. وربما لا يصرح المؤلفُ بذكر العصر الذي يتحدث عن أدبه، وتكون خبرة من يحاول الإجابة محدودة بشعراء العصور الأدبية وبتقسيمات تلك العصور، فلا يعثر على الإجابة المناسبة. وتسأل بعدها: هل هذا الكتاب هو أفضل كتاب عالج العصر العباسي الأول –مثلاً-؟ وسنلاحظ هنا أن الجواب يتطلب معرفة بالكتب التي عالجت أدب ذلك العصر، والقدرة على إجراء المفاضلة بينها، كما يتطلب نوعاً من المعرفة برأي المتخصصين في ذلك الكتاب.
ثم تسأل عن الأثر الذي تركه ذلك الكتابُ في طلاب الأدب، وفي المؤلفين الذين كتبوا بعد زمان مؤلفه، وهنا ستجد أن الجواب سيكون معقداً للغاية، وهو يتطلب معرفة واسعة ذات تخصصٍ عالٍ، ويتطلب نوعاً من فهم تاريخ الأدب، كما يتطلب شيئاً من الاجتهاد، فيكون الجوابُ ظنياً وموضعَ جدال. وهكذا سيكون في إمكاننا طرحُ المزيد من الأسئلة التي ربما لا نجد لها أي جواب يُعتمد عليه، بل يمكن أن نطرح سؤالاً لا يجيب عليه أحد، كأن نقول: كم عدد الناس الذين قرأوا الكتاب؟ أو كم عدد الأفكار التي نالت الإعجاب، وحفظها القراءُ من ذلك الكتاب؟ إنّ في كل ظاهرة عناصرَ غيبيةً استأثر الله –تعالى– بعلمها، فلا يستطيعُ البشرُ الوقوف عليها أو معرفة كنهها، فنحن دائماً قادرون على طرح أسئلة معجزة ومفحمة لأعلم الناس وأعظمهم دراية.
حين يتفتح وعيُ الواحد منا على هذه الحياة يكونُ أشبهَ بمن يحاولُ معرفةَ ما بداخل صندوق مغلق، ويقضي بعد ذلك عُمُرَه وهو يحاولُ استيعاب ما في داخل ذلك الصندوق، ويكشفُ في آخر المطاف -وقبل أن يودع هذه الحياة- أنه لم يعرفْ إلا القليل، كما قال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، كما أن كثيراً مما عرفه ليس موثوقاً بالقدر الكافي.
ومع كل هذا فليس أمامنا سوى خيار واحد؛ هو متابعةُ البحث والتنقيب عن الحقائق، ثم العمل على ربطها وتحليلها واستخلاص المفاهيم الكبرى والملاحظات الذكية من كل ما يصبح في حوزتنا.
من المهم دائماً أن يعرفَ الباحثون نقاطَ ضعفهم، وأن يعرفوا حدودَ اجتهاداتهم، وطبيعة الرؤى والآراء التي يتوصلون إليها، ومدى قربها من الحقائق المطلقة.
ولعلي أشير هنا إلى بعض ما يساعد على الوصول إلى الحقيقة عبر الحروف الصغيرة الآتية:
1- مع التقدم العلمي الهائل الذي يشهدُه زمانُنا، ومع سهولة الوصول إلى المعلومات صرنا نشعرُ بشيئين بينهما نوع من التقاطع أو التناقض:
الأول: هو وفرة المعلومات إلى درجة الشعور بالعجز عن الاطلاع عليها، فإذا دخلت على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) وبحثت – مثلاً – عن مسؤوليات الداعية أو المثقف فإنك ستجد مئات المقالات التي تتحدث عن هذا الموضوع، مما يعني أنك ستحصل على كم كبير من المعطيات والأفكار والمفاهيم التي تساعدُك على فهم الموضوع، وهذا شيء إيجابي جداً، لأننا لو عدنا إلى الوراء ستين سنة، فربما لم نجد بلغتنا إلا مقالتين أو ثلاثاً!
الثاني: هو أننا -مع وفرة المعلومات- لا نشعر أننا بلغنا برد اليقين، أو الطمأنينة المعرفية، ولا نشعر أننا فعلاً عرفنا على وجه جيد مهماتِ الداعية ومسؤولياته! لماذا يحدث هذا؟
إن الكم الهائلَ من الأفكار والمعلومات والمقترحات لا يسيرُ في خط واحد، ولا ينطلقُ من مسلمات واحدة، فهذا باحثٌ يطالب الداعيةَ بأمور ومواقف، لا يطالبُه بها باحثٌ آخر، وتجد باحثاً ثالثاً يُخطّئ الدعاة إذا قاموا بما طالبهم به باحثون آخرون… وهكذا فكثرةُ الأفكار تزيد في حيرتنا، وتجعلُ كل ما نقوله كلامًا مكرورًا سبقنا إليه غيرُنا.
هذا يعني: أن الحقيقة لا تزداد مع الأيام تألقاً كما يفترضُ بعضُ الباحثين؛ لأن العلوم الإنسانية لا تتقدم كما تتقدم العلوم الطبيعية؛ فعلماءُ النفس مثلاً يصلون إلى إجابات جيدة لكثير من الأسئلة، ولكن تلك الإجابات نفسها تطرح تساؤلات جديدة، تحتاج الإجابة عنها إلى بحث جديد وهكذا… الذي لا يعرف هذه الإشكاليةَ يعتقدُ أن الباحثين اليوم عباقرةٌ ومبدعون، أو يعتقد أنهم أقرب إلى الغباء؛ لأنهم لم يحلوا أي مشكلة من المشكلات.
إذن كل المعلومات المتوفرة لن تمنحنا اليقين، ولن تجعلنا نقبض على الحقائق، وإنما ستكون بمثابة الأنوار الكاشفة التي تضيء المكان، وعلينا أن نبصر ونفكر ونعتقد ونرجح، كما كان يفعل السابقون، لكن ربما كانت المساحات التي نراها أوسع من المساحات التي رأوها، وربما نكون قد تخلصنا من بعض الأوهام التي سيطرت عليهم بسبب ضعف تنظيم المعرفة في زمانهم، وبسبب ضآلة ما تراكم منها لديهم؛ لكن هذا لن يعصمَنا من أن نقع في أوهام جديدة، أو نقع في أوهام وقع فيها من سبقنا.
2- شيءٌ مهم للغاية أن نحدّد المصطلحات، وأن نوضّح التعريفات، وذلك في كل المسائل التي نتحدث عنها، إذ إن الحفرَ المعرفي من غير ذلك قد يكون في بعض الأحيان جهدًا ضائعًا؛ لأننا لا نعرف بالضبط عن أي شيء نبحث. لو فرضنا أننا حاولنا كتابةَ عدد من البحوث عن العوامل التي تساعد الأمة على النهوض، أو تساعدُها على تحقيق النصر، فإن علينا أولاً أن نقول: ما تعريف النهضة؟ وما الذي نريده بكلمة النصر؟ شباب كثيرون يسألون: متى ستنتصر هذه الأمة؟ وأقول لهم: عن أي نصر تسألون؛ هل تسألون عن النصر العسكري والسياسي أو الصناعي؟ أو تسألون عن النصر في ميادين الزراعة أو التربية أو التعليم أو وحدة الأمة…؟؟
وحين ألقي هذه الأسئلةَ ألمح في وجوههم نوعاً من الحيرة والدهشة؛ إذ انتقلوا من تصور واحد للنصر يتمثل في تحرير فلسطين، أو طرد الأمريكان من أفغانستان إلى تصور معقد غاية التعقيد.
وألاحظُ أحياناً وكأن السائلَ قد تراجع عن سؤاله؛ لإدراكه أن الجواب عنه قد يحتاج إلى كتاب أو كتب.
مسألة التعريفات ذات أهمية بالغة؛ لأن التعريف يقدِّم في بعض الأحيان تلخيصاً لرؤى كبرى ومعقدة، وكلنا يعرف الجدل الذي أثاره مصطلح (تقدُّمي) ومصطلح (رَجْعي) والجدل الذي يدور اليوم حول مفهوم (المواطن الصالح) و(الإنسان الحر) و(الإنسان المعاصر)….
الناس يهرُبون عادةً من الحديث في التعريفات والمصطلحات وكل المفاهيم المحدَّدة؛ لأنهم يكشفون قصورَهم وعجزهم حيالَ بلورتها على النحو الصحيح، وأحياناً يفرّون لأن وضوحَها يُحمِّلهم مسؤوليات وتبعات أخلاقية وقانونية، لا يرغبون في تحملها، وهذا ما يفعله اليهودُ في فلسطين تجاه توصيف وجودهم في الأراضي الفلسطينية.
وهذا ما تفعله أمريكا تجاه تعريف (الإرهاب) وتجاه توصيف الوضع القانوني والحقوقي للمعتقلين في (جوانتنامو)، ولهذا فإنك لا تلحظ أي تقدم في هذه المسائل. وقد كان علماؤنا السابقون على وعي شديد بهذه المسألة، لهذا فإنهم في كثير من أبواب الفقه وغيره كانوا يعرِّفون الشيء في اللغة والاصطلاح.
إن التعريفات والمصطلحات والمفاهيم هي بداية الانطلاق في أي بحث علمي جاد، ووضوحها هو أساس للتقدم نحو إدراك الحقائق ونحو بناء الأرضيات المشتركة بين المختلفين والمتنازعين، ولهذا فإنها حَرِيَّة بكل عناية واهتمام.