هذه مسألة مهمة ترتبط بفلسفة التاريخ، ومعرفة مساره واتجاهه.. والجدل حولها ليس جدلاً نظريًّا؛، وإنما له تأثيرات عملية تتعلق بنظرة المرء للتاريخ وتفاعله معه.
ويمكن أن نلاحظ اختلاف الآراء حول مسار التاريخ، صعودًا أو هبوطًا، إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة:
الأول: يرى التاريخ صاعدًا في مساره، وكلَّ فترة تسلم إلى فترة أرقى، بما يحدث تراكمَ الخبرات والمعارف.. وإلى هذا الرأي ذهب فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير (نهاية التاريخ)؛ أي نهاية التاريخ كاتجاه وليس كأحداث، وأن الديمقراطية الليبرالية هي تتويج للتطور الأيديولوجي للبشرية.
الثاني: يرى التاريخ في هبوط، وكلَّ فترة أدنى من التي سبقتها، والخير في تناقص والشر في تزايد.. وقد يستند أصحاب هذه الاتجاه إلى تفسير ديني مستمَد من بعض الأحاديث النبوية؛ مثل ما رواه الزبير بن عَدِيٍّ، قال: أتينا أنسَ بن مالك فشكونا إليه ما نلقَى من الحجَّاج، فقال: اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رواه البخاري).
الثالث: يرى التاريخ في دورات متعاقبة؛ ومن أنصار هذا الاتجاه ابن خلدون وأرنولد توينبي. ولهذا يتشابه التاريخ ويتكرر؛ لا في شخوصه وأحداثه، وإنما في فلسفته ومضامينه وسننه([1]).
ملاحظات
في الاتجاه الأول: يمكن أن نتفق معه من زاوية ونختلف في التحليل النهائي الذي خلص إليه فوكوياما؛ فالتاريخ فعلٌ تراكمي، يستفيد فيه اللاحق من السابق، وتتراكم فيه الخبرات؛ لكن هذا لا يسوِّغ أن نزعم بأن المرحلة التي نحياها هي ما انتهت إليه كلمة التاريخ؛ إذ ثمة فترات من التاريخ قادمة لم نشهدها بعدُ، ولا ندري ما يكون فيها.. وكل من يعيشون فترة من الفترات السابقة كانوا يظنون أنهم قد بلغوا من العلم غايته، ولم يتصوروا أن فترات أخرى ستأتي بعدهم تفوقهم مرات ومرات!
وهذا يَصدق على العلم التجريبي في أي فترة من الفترات، وعلى غيره أيضًا من خبرات الإنسان ومعارفه.
وإذا جاز لأبناء الحضارة الغربية، خاصة في شقها الليبرالي، أن يعتقدوا بأن نموذجهم هو غاية ما وصلت إليه البشرية؛ فثمة آخرون حتى في هذه الفترة التي نحياها- وليس من القادمين في المستقبل- يختلفون مع هذا النموذج جملة وتفصيلاً.
كما أن علينا أن نفرِّق في الحضارة المعاصرة بين المنجزات المادية (المدنية)، والأخرى المعنوية (الثقافة).. وبينما يمكن الجزم بالتفوق غير المسبوق في الأولى، فإن الثانية محل شك واختلاف كبير!
يضاف لهذا، أننا نحن المسلمين نعتقد أن منهج الله تعالى في هداية الخلق وتسيير أحوالهم، هو الأهدى سبيلاً، وإنْ مرَّ المسلمون بفترات تراجع حضاري مزرية!
وفي الاتجاه الثاني: من الصعب التسليم بهذه الرؤية؛ لأن الحديث المذكور قد اختلف العلماء في المراد منه كما فصّل ابن حجر.. ومن هذه الاختلافات ما ذكره بقوله: “وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَزْمِنَةِ الْمَذْكُورَة:ِ أَزْمِنَةَ الصَّحَابَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ فَيَخْتَصُّ بِهِمْ؛ فَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يُقْصَدْ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، لَكِنَّ الصَّحَابِيَّ فَهِمَ التَّعْمِيمَ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ مَنْ شَكَا إِلَيْهِ الْحَجَّاجَ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْر،ِ وَهُمْ أَوْ جُلُّهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ”([2]).
كما أن في السنة النبوية ما يدل على خلاف ذلك؛ مثل ما رواه أحمد والترمذي: “إِنَّ مَثَلَ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ؛ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَوْ آخِرُهُ”.
أي: اخْتِصَاص كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ بِخَاصِّيَّةٍ وَفَضِيلَةٍ تُوجِبُ خَيْرِيَّتَهَا؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ نَوْبَةٍ من نوب المطر لها فائدة في النشو وَالنَّمَاءِ لَا يُمْكِنُكَ إِنْكَارُهَا وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ نَفْعِهَا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلِينَ آمَنُوا بِمَا شَاهَدُوا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وتلقوا دعوة الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجَابَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْآخِرِينَ آمَنُوا بِالْغَيْبِ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَاتَّبَعُوا مَنْ قَبْلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ. وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ، فَالْمُتَأَخِّرُونَ بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي التَّلْخِيصِ وَالتَّجْرِيدِ وَصَرَفُوا عُمْرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ فَكُلُّ ذَنْبِهِمْ مَغْفُورٌ وَسَعْيُهُمْ مَشْكُورٌ وَأَجْرُهُمْ مَوْفُورٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَمْثِيلُ الْأُمَّةِ بِالْمَطَرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْهُدَى وَالْعِلْم،ِ كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَيْثَ بِالْهُدَى وَالْعِلْمِ؛ فَتَخْتَصُّ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُشَبَّهَةُ بِالْمَطَرِ بِالْعُلَمَاءِ الْكَامِلِينَ مِنْهُمِ الْمُكَمِّلِينَ لِغَيْرِهِمْ. فَيَسْتَدْعِي هَذَا التَّفْسِيرُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَيْرِ: النَّفْعُ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَفْضَلِيَّة.ِ وَلَوْ ذُهِبَ إِلَى الْخَيْرِيَّةِ فَالْمُرَادُ: وَصْفُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً سَابِقِهَا ولاحقها وَأَوَّلِهَا وَآخِرِهَا بِالْخَيْرِ، وَأَنَّهَا مُلْتَحِمَةٌ بَعْضُهَا مَعَ بعض، مَرْصُوصَةٌ كَالْبُنْيَانِ، مُفَرَّغَةٌ كَالْحَلْقَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا([3]).
أما الاتجاه الثالث: فهو ما نراه متفقًا مع فكرة السُّنَنِيَّة في الخَلق؛ فهذه السُّنن التي أقام الله عليها اجتماع الناس وحركة التاريخ، وأمرنا بالسير في الأرض لالتماسها: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 137، 138).. هذه السنن تعني أن حركة التاريخ تتشابه، وإلا لَمَا كان لإدراك هذه السنن فائدة؛ لكنه تشابه في المضامين والمقاصد، كما سبق.
بجانب ذلك، فإن هذا الاتجاه الثالث يغذِّي في الإنسان وفي الأممِ شعورَ التنافس والتدافع، وينفي عنهم الإحباط واليأس والاستسلام.. فمع كل يوم هناك فرصة للتجدد، ولإحراز نقاط ومكاسب.. وفواتُ فرصة لا يعني الهزيمة..
وهذا الأمل هو ما يحرك التاريخ.. وهو ما يجب أن نُحييه في النفوس، وألا ندع فترات التراجع تطمسه أو تضعفه!
([1]) ولعل هذا يتشابه مع رؤية بديع الزمان سعيد النورسي التي عبَّر عنها بأن التاريخ يتحرك في حلقة دائرية، وليس في خط مستقيم؛ مما يجعله قابلاً للصعود والهبوط بتكرار؛ فيقول: “انظروا إلى الزمن؛ إنه لا يسير على خط مستقيم حتى يتباعد المبدأ والمنتهى؛ بل يدور ضمن دائرة كدوران كرتنا الأرضية؛ فتارةً يُرِيَنا الصيفَ والربيع في حال الترقي، وتارة يرينا الشتاء والخريف في حال التدني. وكما أن الشتاءَ يعقبه الربيعُ، والليلَ يخلفه النهار؛ فسيكون للبشرية ربيع ونهار إن شاء الله، ولكم أن تنتظروا من الرحمة الإلهية شروقَ شمسِ حقيقة الإسلام؛ فتروا المدنيَّة الحقيقية في ظلِ سلامٍ عام شامل”. انظر: الخطبة الشامية، النورسي، على موقع نافذة النور www.nafizatalnoor.com.
([2]) فتح الباري، ابن حجر، 13/ 21.
([3]) تحفة الأحوذي، المباركفورى، 8/ 138، 139.