الأسرة مؤسسة حيوية في الإسلام والأصل فيها المودة والرحمة إلا أن الشقاق قد يعتريها ويهدد كيانها؛ وقد وضع الإسلام آليات لعلاجه في مقدمتها التحكيم فإن تعذر جاء الطلاق، وفي السطور التالية نتعرف على ماهية التحكيم في المنازعات الأسرية والشروط والإجراءات كما حددتها الشريعة.
ماهية التحكيم ومجاله
التحكيم لغة جعل الحُكم فيما لك لغيرك، يقال: حكمته في مالي إذا جعلت الحكم إليه فيه فاحتكم علي في ذلك، وحكّمت الرجل: فوضت الحكم إليه[1]، وفي الاصطلاح: ذهب الحنفية أنه تولية الخصمين حاكما يحكم بينها، وقال المالكية “التحكيم معناه أن الخصمين إذا حكما بينهما رجلا وارتضياه لأن يحكم بينهما” ولا تبتعد تعريفات الشافعية والحنابلة كثيرا عن هذا، وهي تعريفات تؤدي المعنى مع اختلاف الصيغة وتتجاوز التحكيم الأسري إلى مطلق التحكيم[2].
وهو مشروع لقول الله تعالى {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} (النساء: 35)، وقوله نعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} وفي الحديث الشريف “لا يقضين حَكمٌ بين اثنين وهو غضبان” (رواه البخاري ومسلم)
والتحكيم وسيلة من وسائل فض النزاعات التي عرفها الإنسان منذ القدم، وكان شائعا عند العرب في الجاهلية إذ حكم بينهم الرسول حين تنازعوا حول الحجر الأسود، وكان عمر بن الخطاب حكما في عدة منازعات، ولما جاء الإسلام أقر هذه الممارسة ووضع قواعد تفصيلية لتنظيم عملها. ويكون التحكيم بين فئتين أو طائفتين أو خصمين أو زوجين، وبعبارة أخرى فهو ليس قاصرا على المجال الخاص (المنازعات الأسرية) وإنما يتعداه إلى المجال العام (المنازعات الاجتماعية)، ويكون في الأمور المالية بين الناس وفي الحقوق الشخصية، ويختص بالصلح مثلما يختص بالقصاء[3].
واتساع التحكيم وشموله مجالات مختلفة يبرهن على كونه باب واسع من أبواب الشريعة لإقامة العدل وحل المنازعات بين الأفراد والجماعات، وعلى حيوية المجتمع الإسلامي الذي ينهض بواجبه في خفض حدة التوتر داخله دون إثقال كاهل المؤسسة القضائية الرسمية بعبء حسم كل خلاف مجتمعي، وبهذا المعنى يعد بمثابة “قضاء أهلي” أو ما يصطلح عليه في بعض البلدان “قضاء عرفي”.
التحكيم في المنازعات الأسرية الزوجية
أقر الشارع التحكيم في المنازعات الزوجية بنص قطعي {وإن خفتم شقاقا بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} والتي ردت بعد آية النشوز مباشرة لتبين كيفية حسم الأمر بين الزوجين حال النشوز، وذهب القرطبي في تفسيره لهذه الآية أنها تشتمل على خمس مسائل:
- الأولى: معنى الشقاق، وعرفه بقوله ” فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحية صاحبه”[4].
- الثانية: كيفية فض النزاع، إن خيف اتساع النزاع بين الزوجين وجب على الأمراء والحكام [القضاة] أو الأولياء أن يبعثوا حكمين ليصلحا بينهما، وثمة شروط يضعها القرطبي للحكمين، فهما “لا يكونان إلا من أهل المرأة والرجل إذ هما أقعد بأحوال الزوجين، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه، فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين، وذلك إذا أٌشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما، فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق لصاحبه ويجبر على إزالة الضرر”[5]. ويوضح القرطبي كيف يمارس الحكمان عملهما بقوله: إن الحكم من أهل الزوج ينبغي أن يخلو به ويسأله أتهواها أم لا؟ فإن أجابه لا حاجة لي فيها، خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أنه الناشز، وإن أبى وقال إني أهواها فأرضها من مالي ولا تفرق بيني وبينها عُلم أنه ليس بناشز، وذات السؤال يوجه إلى الزوجة “فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد؛ فيعلم أن النشوز من قبلها، وإن قالت: لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها”، وبهذه الكيفية يتضح من الناشز منهما، وعندئذ يتوجه إليه الحكمان بالوعظ والزجر والنهي[6].
- الثالثة: الحكم الصادر عن الحكمين، على الحكمين بذل الجهد في التوفيق بين الزوجين وأن يسعيا في الألفة ويذكرا بالله والصحبة، فإن أنابا تركاهما وإن كان غير ذلك فرقا بينهما، وأما حكم الشرع فيما أصدره الحكمان فهو: “وتفريقهما جائز على الزوجين؛ وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه ، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما، والفراق في ذلك طلاق بائن” والقرطبي يستدرك على قول بعضهم عدم جواز التفريق لأنهما بمنزلة الشاهدان بقوله “الله تعالى قال { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } (النساء: 35) وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان”.
- الرابعة: اختلاف الحكمان، إن اختلف الحكمان بأن قضى أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو قضى أحدهما بمال دون الآخر فعندئذ لا ينفذ قولهما، ولا يلزم إلا ما اتفقا عليه.
- الخامسة: جواز نصب حكم واحد، يجوز نصب حكم واحد بين الزوجين إن ارتضيا ذلك؛ وحجته أن الله تعالى حكم في الزنا بأربعة شهود ثم أرسل النبي ﷺ إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له إن اعترفت فارجمها، وهو قاطع في جواز نصب حكم واحد.
وما ذكره القرطبي-كما نعتقد-يستوفي جل المسائل المتعلقة بالتحكيم من منظور شرعي، ورغم هذا يمكن أن نتوقف في كلامه أمام مسألتين على قدر من الأهمية:
المسألة الأولى
عدم التنصيص على كون الحكمين من الرجال، ذلك أن بعض المفسرين ذكر أن الحكمين يجب أن يكونا رجلين، لكن القرطبي لا يشير إلى ذلك وإنما يشترط شرائط موضوعية وخلقية فيهما كالعدالة والعلم بالفقه وحال الزوجين، الأمر الذي يرجح أنه متى وجدت امرأة تستوفي الشروط جاز تنصيبها حكما.
المسألة الثانية
عدالة الإجراءات، فما نص عليه من وجوب سؤال كل من الزوج والزوجة منفردين عن مدى تمسكهما برابطة الزوجية، والسعي الحثيث لمعرفة الناشز منهما دون تمييز، يبرهن على أن الإجراءات الفقهية تتوخى العدالة بين الزوجين ولا تنحاز لصالح طرف على حساب الآخر كما يشيع بعض الدارسين المعاصرين، بل هي إجراءات يجري تطبيقها على الطرفين بحياد وموضوعية تامة.
الصيغ المعاصرة
نجحت المجتمعات الإسلامية عبر قرون في حل معظم النزاعات الأسرية عبر التحكيم الذي لم يزل موجودا حتى يومنا هذا سواء في شكله التقليدي المتعارف عليه الذي ذكرناه آنفا أو في صيغ معاصرة؛ ومن أبرزها الصيغة القانونية والصيغة المؤسسية.
ويقصد بالصيغة القانونية النص على وجوب التحكيم في قوانين الأسرة المعاصرة، وعلى سبيل المثال تنص المادة 65 من قانون الأسرة الجزائري على أنه ” إذا اشتد الخصام بين الزوجين، ولم يثبت الضرر وجب تعيين حكمين للتوفيق بينهما”، كما تنص المادة 95 من مدونة الأسرة المغربية ” يقوم الحكمان أو من في حكمهما باستقصاء أسباب الخلاف بين الزوجين وببذل جهدهما لإنهاء الخلاف”[7]، كما ورد في الفصل 25 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية أنه “إذا شكا أحد الزوجين من الإضرار به ولا بينة له وأشكل على الحاكم تعيين الضرر بصاحبه يعين حكمين، وعلى الحكمين أن ينظرا فإن قدرا على الإصلاح أصلحا، ويرفعان الأمر إلى الحاكم في كل الأحوال”[8].
وأما الصيغة المؤسسية؛ فالقصد منها تشجيع إنشاء مراكز وجمعيات أهلية للإصلاح الأسري، يقوم عليها مستشارون في العلاقات الأسرية يعملون على حل الخلافات الزوجية، وهناك عدد منها بالفعل وبعضها يقوم بزيارات منزلية للوقوف على حقيقة الخلاف الزوجي، وضمن الصيغة المؤسسية يمكن إدراج المنصات والمواقع والقنوات في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تقدم استشارات أسرية وتربوية.
خلاصة ما سبق، يعتبر التحكيم الأداة الرئيسة لحسم النزاعات الأسرية وفقا للشريعة بما يوفره من مزايا تشمل: توفير الخصوصية للزوجين، وتفعيل دور المجتمع الأهلي، وتوفير نفقات التقاضي، وتخفيف العبء عن المؤسسة القضائية.